الرد الأميركي الموجع على الأراضي السورية، ربما كان بمثابة مؤشر على فشل جولة المفاوضات حول الملف النووي، وهذا الأمر يعيدنا مجدداً إلى حقيقة أن سوريا ما تزال ساحة مهمة لتبادل الرسائل السياسية والعسكرية بين جميع الأطراف.
سوريا بالتأكيد مهمة لجميع الأطراف، وتكمن أهميتها من كونها ساحة مفتوحة للصراع بين أولئك الفاعلين من خلال أدواتهم الموجودة على الأرض السورية، وتحقيق الأهداف والمصالح دون الحاجة للمواجهة المباشرة بين تلك الدول، وبالتالي إيصال الرسائل السياسية عبر الصواريخ والقنابل الموجهة، واستعراض القوة من الجانب الأميركي بمواجهة الخصوم والمنافسين.
أهمية سوريا بالنسبة لإيران واضحة ومعلنة، لذلك فإنها ومنذ اللحظات الأولى لانتفاضة الشعب السوري، اندفعت لحماية نظام الأسد من السقوط، على اعتبار أن هذا النظام هو الحليف الاستراتيجي الأهم لها في المنطقة، ولعلم طهران أيضاً بأن سقوط نظام الأسد يعني خسارة مدماك أساسي في المشروع الخميني التوسعي في المنطقة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فالأهمية تكمن بالدرجة الأولى بأن سوريا مهمة لإيران، بالإضافة إلى أهداف أخرى تتعلق بالوجود الروسي فيها، بالإضافة إلى ضرورات حماية إسرائيل، والضغط على تركيا من خلال دعم وحماية ميليشيا قسد، التي يمثل (ب ي د) عمودها الفقري.
ولئن كان التصعيد الأميركي ضد المواقع الإيرانية، هو أحد أدوات الضغط على إيران لاستجرارها لتوقيع الاتفاق النووي، وإجبارها على التنازل عن شروطها للتوقيع، وربما يكون رسائل سخط وانزعاج من الصفقات الروسية الإيرانية العسكرية والاقتصادية، وقد يكون في إطار الضربات التأديبية، لجعل القيادة الإيرانية تفكر ملياً بالثمن الذي ستدفعه كلما تقدمت بخطوات أبعد نحو التحالف مع روسيا، فإن الضربات الجوية الإسرائيلية التي طالت قبل أيام المواقع الإيرانية في مدينة مصياف القريبة من قاعدة حميميم وهذا له دلالاته، واستهدفت بشكل متزامن مطاري حلب ودمشق الدوليين، مساء يوم الأربعاء 01/ سبتمبر أيلول 2022، بضربات صاروخية مؤثرة، محددة الهدف والمواصفات، تجاوزت الصورة النمطية السابقة للقصف الإسرائيلي الذي كان يحدث بين الفينة والأخرى، كرسائل تهديد وردع، إلى رسائل تفكيك وتقليص للوجود الإيراني في سوريا إلى أدنى الحدود الممكنة.
تعثر مفاوضات إعادة إحياء الملف النووي الإيراني، ما يدفع القيادات الإسرائيلية لاستثمار هذا الوقت المستقطع لضرب وتشتيت الوجود الإيراني في سوريا
تصعيد القصف الإسرائيلي الأخير لمراكز إيرانية حساسة في سوريا، بما فيها المطارات المدنية التي باتت تشكل محطات لتفريغ وتخزين الأسلحة الإيرانية، كمطاري دمشق وحلب الدوليين، قد يعود لعدة أسباب أهمها:
أولاً: سبب داخلي يتمثل بحاجة حكومة (يائير لبيد) لإحراز انتصارات عسكرية يستفيد منها في الانتخابات القادمة.
ثانياً: تعثر مفاوضات إعادة إحياء الملف النووي الإيراني، ما يدفع القيادات الإسرائيلية لاستثمار هذا الوقت المستقطع لضرب وتشتيت الوجود الإيراني في سوريا، فمثل هذه الفرصة لن تكون متاحة كما هي عليه الآن في حال تم توقيع الاتفاق.
ثالثاً: محاولة إسرائيل الاستفادة من هذه الضربات لمواقع تمركز القوات الإيرانية، لكسب تعاطف وتأييد الأنظمة الخليجية والعربية، التي لديها مخاوف مشروعة من التمدد الإيراني في المنطقة.
ولئن سمحت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، لإيران بالسيطرة على سوريا، ثمن توقيع الاتفاق النووي عام 2015، فهي اليوم ومن خلال مهندس ذاك الاتفاق، الرئيس الحالي جو بايدن، تهدد بسحب هذه الورقة، واستخدامها بشكل مميت بوجه الإيرانيين، ولعل القارئ المستبصر لما يحصل في سوريا والعراق، يدرك أن إيران مرتبكة.
من الواضح والمؤكد أن إسرائيل تُمارس دورها كقوة فاعلة ومؤثرة ونافذة في الملف السوري، وخاصة بما يتعلق بالوجود الإيراني، وهذا ما جعل روسيا تحاول أن تلعب بهذه الورقة، فالرئيس الروسي المأزوم بعد تورطه بغزو أوكرانيا، فَهمَ أن إيران والولايات المتحدة ومعهما أوروبا وإسرائيل، هاجسهم السيطرة على الورقة السورية، وألا يخرج الصراع في سوريا عن السيطرة، ما جعل الروس من وقت لآخر يذكرون أن وجودهم في سوريا مهم جداً، للحفاظ على التوازن، وعلى أمن واستقرار المنطقة.
روسيا التي كانت الضامن لإبعاد إيران /80/ كم عن حدود إسرائيل الشمالية، لم تتمكن من إجبار حليفتها على الالتزام، بل على العكس تغلغلت إيران أكثر في جنوب سوريا وأصبح لها نحو /200/ نقطة عسكرية ضمن هذا العمق، وأقرب نقطة لا تبعد عن الحدود الإسرائيلية سوى أمتار، ما يعني إخفاق الروس الفعلي بإخلاء هذه المنطقة من الوجود الإيراني، بل ربما كانت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الأخيرة التي حذّر فيها من تحول سوريا إلى ساحة صراع بين إسرائيل وإيران، تشي بعجز روسيا عن إقناع إسرائيل بتغيير موقفها المناهض للغزو، ورسالة لإسرائيل بأن روسيا لن تشكل عامل ضغط على إيران، وبأنها غير راغبة بضبط الوجود الإيراني داخل سوريا، في تهديد غير مباشر، وعزف نشاز من الوزير الروسي على وتر تهديد أمن إسرائيل، لتحقيق هدفين:
الأول: الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإجبارها على تغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا وتأييد العمليات العسكرية الروسية والتوقف عن دعم زيلينسكي.
الثاني: إشعار إيران بأن روسيا لا تريد تقويض النفوذ الإيراني في سوريا، وحصد ثمن ذلك المزيد من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي تصب في دعم الاقتصاد الروسي لتجاوز العقوبات الأميركية والأوروبية.
هذا الخطاب المتواتر يهدف لتعزيز موقف روسيا عند كل الأطراف، بأن الوجود الروسي في سوريا والمنطقة هو الضمانة لمنع أي مواجهة بين إيران وإسرائيل
تصريحات الوزير لافروف، والتي كان قد سبقها تصريحات لنفس الوزير قال فيها: "لقد فشلنا مع الحكومة الإسرائيلية بعودة عمل الوكالة اليهودية داخل الأراضي الروسية"، تشف أيضاً عن رسالة روسية غير مباشرة إلى إسرائيل بأن الأولى قادرة على إعاقة تحليق الطائرات الإسرائيلية في الأجواء السورية والتصدي لها في اللحظة التي تشعر فيها روسيا أن الأذان الإسرائيلية لا تصغي لمطالبها، لكن لافروف الذي نسي نفسه بأنه وزير للخارجية وليس للدفاع، على ما يبدو لا يعلم أن كشف الطيران الإسرائيلي عصي على منظومات الدفاع الجوي الروسية الموجودة في سوريا، وأن سلاح الجو الإسرائيلي متفوق على كل منظوماته وقادر على تدميرها من لحظة تشغيلها واكتشافها الهدف.
هذا الخطاب المتواتر يهدف لتعزيز موقف روسيا عند كل الأطراف، بأن الوجود الروسي في سوريا والمنطقة هو الضمانة لمنع أي مواجهة بين إيران وإسرائيل، في محاولة للتناغم مع الاستراتيجية الأميركية الحالية في الشرق الأوسط، القائمة على منع اندلاع أي بؤرة توتر في الإقليم، وإطفاء البؤر المشتعلة، والتفرغ لملفات في أماكن أخرى، ما جعل الخطاب الروسي تجاه إسرائيل، يتغير بشكل واضح وذلك على خلفية البرود في العلاقة بينهما. فقد أصبح المسؤولون الروس يحذرون من وقوع المواجهة والصدام بين إيران وإسرائيل على الأرض السورية، بينما كان حديثهم خلال سبع سنوات خلت من التدخل الروسي المباشر في سوريا، عن منع واحتواء التهديدات الأمنية التي قد تستهدف إسرائيل بسبب الوجود الإيراني في سوريا، وشتان بين هذا وذاك، فهل ستكون المواجهة قريبة وتنهي حقبة الوجود الإيراني في سوريا؟
--------
تلفزيون سوريا