إلا أن نمط الهيمنة بالكاريزما يبدو الأكثر حضوراً اليوم، بعد سقوط الأسد وتولّي أحمد الشرع القيادة ثم الرئاسة، ويبدو، على أية حال، أن ثمة تلازماً تاريخياً بين انهيار منظومات الهيمنة التقليدية، وبين صعود الهيمنة بالكاريزما، مُتَمثِّلة بأنبياء يُوحى إليهم، أو بقادة عسكريين يُظهرون براعةً عسكرية فائقة، وقدرةً كبيرة على الإدارة واستقطاب المُريدين.
ولا بد لقراءة هذا التحليل من إرساء نقطتين جوهريتين. الأولى، نزع التقييم عن الكاريزما وخصائصها، فالاصطلاح هنا ليس حكم قيمةٍ، إيجابياً كان أم سلبياً، على شخص أو صفاته، بل هو توصيف لأسلوب محدد في بسط السلطة. والثانية، ضرورة فهم الكاريزما بمعنى أوسع من المعنى الذي يشيع استخدامه أحياناً، ويرتبط بالوسامة أو الحضور الشخصي أو قوة الصوت.
هروب الأسد أم سقوط النظام
يرى البعض أن هروب بشار الأسد لا يعني، بالضرورة، سقوط نظامه، ويستندون في ذلك إلى “الشبّيحة” الذين ما زالوا طُلَقاء، وإلى الموظفين الذين ما زالوا يحتفظون بالوثائق، وغيرها من بقايا النظام. ولئن كان هؤلاء موجودين حقاً، فإن بقاءهم بين السوريات والسوريين لا يكفي لاستنتاج عدم سقوط النظام، ذلك أن هيمنته؛ حسب اصطلاح فيبر وتحليله، على أجهزته الإدارية والعسكرية، قامت على تقاليد شبيهة بتلك التي أرست حُكم الأسياد الإقطاعيين، ومفاهيم التكليف الإلهي للملوك في أوروبا القرون الوسطى والأباطرة في الصين القديمة.يتمثّل ذلك في تسميات وشعارات للأسدَين، الأب والابن، بدأت من “القائد الضرورة” وانتهت بالشعارَين المروِّعين “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد”. ويكاد حُكم النظام يخلو تماماً من خصائص الهيمنة القانونية، لا سيّما في عهد الابن. إذا استثنينا قِلة لا تشكّل وزناً اجتماعياً ولا سياسياً، قضى هروب بشار الأسد بتلك الصورة الوضيعة، على آخر ما تبقّى من التقاليد التي منحته شرعية لدى تابعيه. أما ما يفعله من كانوا من أدوات النظام ومؤيديه، من “التكويع”، على ما لهذه الكلمة من تحفّظات، إلى التنصّل والتمترس والحرب، فليس إلا تكتيكات للبقاء، لا يمكنها إرساء أسس قادرة على الإبقاء على نظام الأسد أو إعادة إنتاجه. ولعله من الواجب التنويه إلى أننا لا نعني عدم إمكانية إعادة إنتاج الاستبداد، بل نعني أن الاستبداد، إذا كان له أن يعود، فلا بدّ له من بنية جديدة يستغرق تأسيسها ردحاً من الزمن.
إذ نتحدث عن شرعية حُكم الأسد، فلسنا نعني شرعية أخلاقية أو دولية، بل نتحدث عن آلية تكفل أن تَدينَ كُتلة كافية، من الهيئات والجماعات والأفراد، بالطاعة للحاكم بالقدر اللازم لإبقائه في السلطة. ولم يكن لنظام الأسد، في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، أية شرعية غير شرعية التقاليد المفروضةِ بالتغلّب والقوة، فلا يخفى على أحد أن الدستور والقوانين كلام أجوَف لا يعبأ أحد بتطبيقه، ولا يسعى أحد، حتى كُتّابه، سعياً جدياً إلى إقناع المجتمع بشرعيته وقيمته، وأن المؤسّسات هياكل متآكلة لا تؤدّي من وظائفها إلا ما يدعم الهيمنة التقليدية الأسدية.
من التقاليد إلى الكاريزما
بانهيار شرعية التقاليد، وفي غياب الشرعية القانونية، لا يبقى، حسب فيبر، إلا شرعية الكاريزما، التي لا تختلف في جوهرها عن الاصطلاح المتداول اليوم: “الشرعية الثورية”. ويبدو أن الإدارة الجديدة من جهة، والتركيبة الاجتماعية السورية المعقدّة من جهة أخرى، تسير بالصورة التي رسمها فيبر لبعض أشكال الهيمنة بالكاريزما، حيث تشكّل عناصر غير مسبوقة دوافع للتفاني الشخصي في سبيل طاعة الزعيم، الذي تُنسب إليه، حقاً أو وهماً، صفات غير عادية، ويتم اختيار الأتباع في الهيئات الإدارية حسب درجة تفاني التابع الشخصي في سبيل القائد (ويفرّق فيبر في هذه النقطة، بين التفاني الطوعي في حالة الهيمنة بالكاريزما والطاعة، لأن بقاء التابع وحياته يعتمدان على قبول السيد بوجوده).أما الإدارة، فلا تتبع أحكاماً وتشريعات راسخة، بل تستند إلى ما يسميه فيبر “الاختراع العفوي”، وينبّه إلى أن السلطة المفروضة بالكاريزما، كانت دائماً إحدى القوى الثورية الكبرى، ولكنها شمولية وفردية بطبيعتها، إلا أن سلطة هذا الحاكم مشروطة بقدرته على القيام بما يوفّر حياة حسنة لأتباعه خصوصاً، وللمحكومين عموماً.
مآلات الهيمنة بالكاريزما
إذا تخلينا عن أية أحكام مسبقة، لا تكفي المعطيات اليوم لاستشراف مستقبل سوريا، وإذا صحّ أن البلاد تُدار بهيمنة قائمة على الكاريزما، فيبدو واضحاً أن هذه الهيمنة قائمة على علاقات سلطة شخصية، ما يعني حتمية زوال الأسس التي تمنحها الشرعية بعد حين، يطول في مجتمعات صغيرة تتيسّر فيها العلاقة المباشرة بين الحاكم والمحكوم، ويقصر في مجتمعات مركّبة كبيرة أعداد السكان، كثيرة الأهواء والمشارب. وعليه، لا يصحّ الاكتفاء باستقراء طبيعة السلطة الجديدة في بدايتها، ويصير واجباً النظر في التحوّلات الممكنة لها.حسب تحليله التاريخي المُتبصّر، يضع فيبر احتمالات متعددة لتحوّلات السلطة القائمة على الكاريزما، أهمّها في السياق السوري احتمالان. الاحتمال الأول، تحوّل هذا الشكل من الهيمنة إلى هيمنة تقليدية، وذلك إذا تحوّلت الأحكام المُرتجَلة إلى سوابق يُقاس عليها لحل المشكلات وإدارة الأزمات، وبالتالي، تتحوّل إلى تقاليد يؤمن المحكومون بوجوب اتّباعها، فتُمنَح بذلك شرعية تقليدية طويلة الأمد. ويبدو لنا أن تحقّق هذا الاحتمال بحاجة إلى قدر كبير من البراعة السياسية والدبلوماسية لدى من هم في السلطة، وإلى قدر أكبر من التكاسل أو التقاعس المجتمعي (الذي قد يكون مبرراً ومفهوم الأسباب في ظل تركة نظام الأسد) عن مقاومة الهيمنة التقليدية التي تقود، بالضرورة، إلى الاستبداد. ويجب التنبّه إلى أن سلطة الكاريزما لا تستمرّ بالقوة، فاستخدام القوة خلال السنوات التي يستغرقها التحوّل إلى هيمنة تقليدية، سيُفقدها أسس شرعيتها، ويؤدّي إلى انهيارها.
أما الاحتمال الثاني، فهو أن يُعاد تفسير مبدأ شرعية الكاريزما باتجاه غير سلطوي، وذلك بأن تُعكَس علاقات السلطة في حالة الشرعية التي ينتزعها الحاكم بأفعاله، بحيث يصبح اعتراف جزء كافٍ من المحكومات والمحكومين، شرطاً لازماً للشرعية وقاعدة لها، فتصبح شرعية الحاكم أو الزعيم مرتبطة بالتفويض الذي يمنحه إياه الأتباع، وتكتسب الأحكام والقوانين شرعيتها من اختيار الغالبية لها. يُنتج هذا التحوّل، في المحصلة، ما يمكن تسميته ديمقراطية الزعيم، التي تُتيح للزعيم أن يتصرّف بما يراه مناسباً ما دام قادراً على اكتساب ثقة المحكومين، بدل التغلّب عليهم.
لا يتساوى هذا الاحتمال مع ديمقراطية تعددية حديثة، تحقّق أحلام شريحة كبيرة من الثائرات والثائرين في سوريا، وتضع البلاد على طريق النهوض والعبور إلى دولة تكفل لمواطنيها ومواطناتها جميعاً حياة كريمة. إلا أن إنتاج ديمقراطية كهذه بحاجة إلى بنية تحتية، اجتماعية وقانونية، هي اليوم غائبة، وإلى قاعدة شرعية مستقرّة، تنظّم علاقات السلطة بين الشعب والإدارة، ما يعني أن التحوّل باحتماله الثاني يمكن أن يكون خطوة في الاتجاه المنشود. الشرط اللازم وغير الكافي لتحقيق ذلك هو أن يبقى المجتمع حياً، وأن تتمكّن قواه المدنية والسياسية، بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها، من التحاور والتداول والتنازع سلمياً، لتفرض نفسها على السلطة، ولتفرض إحداها على الأخرى حقّها في الوجود والتعبير والاستمرار والحياة، وما الديمقراطية إلا سبيل لتحقيق ذلك.
---------
درج