لكنها ليست المرة الأولى التي تخالف فيها الوقائع سقفَ التوقعات أو الآمال، والسابقة الأكبر والمفجعة هي في عام 2011، عندما خُذل الثائرون على الأسد من سوريين آخرين، ليبقى في السلطة بعون من هذا الانقسام قبل تدفق العون الخارجي. ووفق التصور نفسه دائماً، تأتي انتفاضة السويداء متأخرة اثني عشر عاماً عن الموعد المطلوب، بينما يخيّب الساحل السوري الظنَّ "أو لا يخيّبه؟" فلا ينتفض حتى ولو متأخراً.
أتى التعبير عن الخيبة أولاً من بعض أنصار ثورة 2011 بالقول أن الناقمين الجدد على الأسد مدفوعون بالجوع، ما يجرّد حراكهم من القيمة الأخلاقية التي للثورة. ثم لا يغيب عن متابع الشأن السوري أن الحماس لحراك السويداء سرعان ما تراجع، يفسّر بعضاً من تراجعه عدمُ انتشاره خارجها، وربما تفسّر بعضه الآخر السنواتُ الأخيرة لليأس من التغيير، إلا أن ما لا ينبغي إنكاره أو التعفف عن مناقشته هو وجود شريحة غاضبة "أو عاتبة في الحد الأدنى" على أرضية الخذلان المُشار إليه، من دون تضخيم العامل الطائفي على الأرضية ذاتها أو نفي مفاعيله.
وقد يدعم التصور المذكور لافتات في حراك السويداء، تعبّر عن سعة أفق حامليها إذ تصوّر حراكهم كاستمرار لثورة 2011. هكذا مثلاً تحضر بوفرة في اللافتات أسماءٌ لمعتقلين وقتلى من ضحايا الأسد منذ عام 2011، ويأتي الإلحاح على تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 وكأنه في السياق نفسه. وقد شهد الاعتصام المسائي، يوم الخميس في ساحة الكرامة، أكبر تظاهرة من هذا النوع فكان لكل شمعة اسم من معتقلي أو شهداء تلك الفترة، فضلاً عن توجيه التحية للمدن السورية الأخرى، وتخصيص حماة من بينها بالقول: يا حماة.. سامحينا.
طلب السماح من حماة ليس بجديد أيضاً، فقد ظهر مع بعض الناشطين بدءاً من عام 2011، وغايته إظهار الندم بسبب الصمت على مجزرة حماة التي ارتكبها الأسد الأب، وذهب ضحيتها حوالى 35 ألفاً من أهل المدينة. وعند هذا الطلب تتقاطع أهواء مختلفة أيضاً، منها الذي يرى الوجه الطائفي فحسب، ومنها من يُدرج الطلب في إطار بناء ثقافة ترفض الجرائم السياسية المرتكبة قديماً وحديثاً، وتراهن على أن تعزيز الحسّ الرافض للانتهاكات سيردع أية سلطة مستقبلية. وبصرف النظر عن هذا التأويل وذاك، يبقى المؤكد أن حماة حوصرت واستُبيحت دماء أبنائها بينما باقي أرجاء سوريا غارقة في الصمت. التعتيم الإعلامي على المجزرة آنذاك لا يبرر، ولا يفسّر، وحده صمت الذين يعرفون ولو بدقة أقل من عصر الاتصالات الحالي.
بعد مجزرة حماة، غصّت السجون السورية بعشرات ألوف المعتقلين من كافة التوجهات، الإسلامية واليسارية، وكانت الحياة في الخارج مستمرة، وكأن عشرات الألوف لا أصدقاء لهم، لا مجتمع.. إلخ. قبل ذلك لم يتوقف السوريون عند كون الأسد بانقلابه زجّ رفاقه القدامى في السجن، ولم يقدّم أيّاً منهم ولو لمحاكمة شكلية. وكان السوريون قد فوّتوا على أنفسهم فرصة الدفاع عن الديموقراطية، فلم يتصدوا لانقلاب البعث، باستثناء احتجاجات حماة 1964، وأيضاً بقيادة الطليعة المقاتلة للإخوان.
بعض السوريين يلوم اللبنانيين لأنهم لم يتصدّوا لهيمنة حزب الله، عندما واتتهم فرصة ثمينة مع ثورة السوريين 2011. وهو عتب لا يلحظ أن فئة قليلة جداً من السوريين تعاطفت مع انتفاضة اللبنانيين عام 2005، بينما شاركت الغالبية في دبكة "أنا سوري يا نيّالي"، وحينها ربما كانت الظروف الدولية مواتية للسوريين "لو ثاروا" أكثر مما أصبحت عليه بعد ست سنوات. وقبل سنة من انتفاضة اللبنانيين يحمل أكراد سوريا عتباً على عربها، إذ لم يُظهروا تعاطفاً مع انتفاضتهم عام 2004.
هذه فقط أمثلة على فرص مضيَّعة نظرياً، ولو استُغل قسم منها لكانت الحصيلة المتوقَّعة أفضل، ولبرهن أطرافها على وعي حقوقي وإنساني أعلى مما أظهروا. أما الواقع فيجبرنا على عدم اعتماد ما هو صحيح نظرياً لجلد النفس به أحياناً، ولجلد الآخرين معظم الأحيان. والواقع أن الناس يثورون عندما يكونون جاهزين لذلك، ولا توجد وصفة للحظة الثورة سوى في الكتب التقليدية للتاريخ التي تدوّن لاحقاً ما يُنظر إليها كأسباب عميقة للثورة، وما يُنظر إليها كأسباب مباشرة، على الأغلب من دون توقّف عند أسباب مفوَّتة قبلها كانت بدورها تصلح لتشعل ثورة.
ربما يلمّح الواقع بقسوته إلى فضيلة التسامح مع الآخرين، لأنها أيضاً تنطوي على التسامح مع الذات. فالأمثلة السابقة تعني بمعيار متشدد أن السوريين جميعاً مذنبون، عندما صمتوا على التوالي، وهذه خلاصة لا تخلو من فائدة نظرية إذا كانت الغاية التعلّم لأجل المستقبل، مع التذكير بعدم وجود ثورات نالت إجماعاً شعبياً، لأن هذا منافٍ عموماً لمنطق الثورة وأسبابها.
لا يخفى أن معظم غير المكترثين بحراك السويداء، بذريعة تأخره، غير بعيدين عن المظلومية السُنية، وهي إذ تغذّت من المقتلة الوحشية خلال السنوات الماضية فإن عدم استخدام الأسد العنف تجاه منتفضي السويداء يعززها لديهم، لتفيض بتلك الأقاويل عن تهديد واشنطن بفرض منطقة حظر جوي في السويداء إذا لجأ الأسد إلى العنف. ومع التذكير بالوجع المحقّ وراء المظلومية، فإن الاستهانة بمنتفضي السويداء بموجب معيار الخطر تمنح صكّ براءة فقط للقتلى. وفي السياسة لا فائدة يمكن تقصّيها إذا كان الأسد سيرتكب المجازر في السويداء، ثم في طرطوس إذا انتفضت غداً، باستثناء زيادة عدد ضحاياه ونيله براءة ذمة من الطائفية!
لقد ألحّ شبيحة طرطوس في السنوات الماضية على كونها أكثر من ضحّى للذود عن الأسد، إلى أن ترسّخت هذه الصورة وصارت انتفاضتها المحتملة تعني تخلّي أولئك الأشدّ ولاء عن الأسد. ووفق الوقائع السابقة، لن تنتفض طرطوس لاستدراك ما فاتها في عام 2011، ولا لمؤازرة السويداء؛ ستنتفض " إذا فعلتْ" على ساعتها الخاصة. فالثورة المقبلة، إذا حدثت، هي ثورة الباقين تحت حكم الأسد، ومنهم نسبة معتبرة من مواليه السابقين في كافة المدن والمناطق، وربما هناك بينهم أفراد من أجهزته القمعية، ونسبة كبرى من الذين صمتوا على المقتلة خوفاً على حيواتهم... إلخ. لم تنخرط السويداء كطرف في الحرب السورية كما هو حال طرطوس، إلا أن التعاطي مع انتفاضتها من قبَل المعارضة وأنصار ثورة 2011 هو بمثابة امتحان وتمرين عقلي ووجداني على التعاطي مع الثورة المأمولة.
-------
المدن
*كاتب سوري.