ومع انشغال غالبية الدول العربية بقضاياها الداخلية، ومعاناتها من الصراعات البينية، وحتى من الصراعات الإقليمية والدولية، كما سورية مثلاً، إلى جانب تمركز اهتمام العالم على الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها، والتسابق الأميركي الصيني إلى مفاتيح السيطرة، وضبط التوازنات في منطقة الشرق الأقصى.، وذلك تحسّباً لاحتمالات المستقبل في ضوء المنافسة الشديدة على التكنولوجيا والتجارة والطرق التجارية والأسواق ومصادر الطاقة الأكثر أهمية.
بناء على كل ما تقدم، اعتقد الجميع أن القضية الفلسطينية باتت جزءاً منسيّاً من ملفات الحرب الباردة، وأن إسرائيل، بوجهها اليميني المتشدّد، تمكّنت من حسم الأمور عبر ترويج زعم مفادُه بأن حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن 242 عام 1967، بات مجرّد وهم من الأوهام المستحيلة التحقّق بعد إغراق الأراضي الفلسطينية بموجب القرار الأممي المشار إليه بالمستوطنات التي غدت أشبه بالمعسكرات، يفرض سكّانها سيطرتهم على أرض ليست لهم بقوّة السلاح والقانون الأساسي الإسرائيلي الذي يعتبر إسرائيل دولة يهودية، مع اعترافٍ خجولٍ بحقوق المكوّنات المجتمعية الأخرى، سواء الثقافية أم الإدارية، ولكن بشروط صارمة تحدّدها السلطات الإسرائيلية.
ما حصل بعد عملية طوفان الأقصى إدراك الرأي العام المحلي داخل إسرائيل وفلسطين، وداخل كل دول عربية، إلى جانب الرأي العام الإقليمي والدولي، حقيقة وجود قضية فلسطينية لا يمكن أن تستقر الأمور في المنطقة من دون معالجتها، إلى جانب قضايا أخرى تخصّ مجتمعات المنطقة ودولها، لا سيما بعد التدخّلات الإيرانية المستمرّة الهادفة إلى زعزعة الأمن والاستقرار في مختلف أنحاء الإقليم، تمهيداً للأرضية أمام التمدّد والتوسّع، اعتماداً على الأذرع المليشياوية التي شكّلها النظام الإيراني من القوى المحلية، بالإضافة إلى تلك التي جلبها وأدخلها إلى دولٍ في الإقليم تحت يافطات مذهبية.
ولكن الأسئلة التي تفرض ذاتها بخصوص “طوفان الأقصى”: هل كانت هذه العملية بموجب اتفاق وتنسيق كاملين متكاملين بين حركتي حماس الجهاد الإسلامي من جهة والقيادة الإيرانية ومعها حزب الله من جهة أخرى؟ هل أرادت “حماس” بهذه العملية تحريك الأجواء عبر إعادة خلط الأوراق، خصوصا بعد بروز مؤشّرات لحصول تطبيع في العلاقات بين السعودية واسرائيل؟ وكان من شأن هذا الأمر، في حال تحققه، التضييق على الماكينة الإعلامية الإيرانية التي اتخذت من شعارات تحرير الأقصى، ومناصرة الحقوق الفلسطينية؛ وسيلة لتصوير إيران قوة إقليمية قادرة على اختراق الحدود البرّية والبحرية وحتى الجوية لدول المنطقة، وإيصال الأسلحة والتقنيات إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ودعمهما في عمليتهما، على أن تعرض لاحقا خدماتها للحدّ من التوتر والتصعيد، وحتى المساهمة في جهود إطلاق سراح الرهائن – الأسرى من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، والمدنيين ممن يحملون جنسياتٍ مزدوجة، أميركية وأوروبية غربية، وهي الجهود التي تضطلع قطر بدور محوري فيها، بناء على توافق سائر الأطراف، بمن فيهم الأميركان، وذلك في مقابل التساهل معها (مع إيران) في ملفّات أخرى تخصّ دورها الإقليمي مستقبلاً، ومنظومتها الصاروخية، وحتى ملفّها النووي، أم أن “حماس” استغلّت الدعم الإيراني لها الذي كان مخصّصاً لإيصال رسائل إيرانية تحريكية من حين إلى آخر إلى إسرائيل، في هيئة قصف صاروخي غير مجدٍ، أو القيام بعمليات إبهارية إعلامية في المقام الأول، لتكون من بين نقاط دعم الموقف على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية ومعها إسرائيل، وقامت “حماس” بعملية نوعية لحسابها الخاص؟ هذا رغم ما رافق العملية المعنيّة من أحداث وصور وأخبار أساءت إلى “حماس” كثيراً، ودعمت الرواية الإسرائيلية التي تبنّتها الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية الغربية الأساسية. هل أرادت “حماس” بعمليتها تسليط الأضواء مجدّدا على القضية الفلسطينية، وتأكيد أولويتها، وإبراز دور الحركة وأهميتها في الوسط الفلسطيني والأوساط العربية، ومحاولة تحريك الرأي العام الغربي عبر المظاهرات والاحتجاجات؟
ولعل ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن التقصير في معالجة القضية الفلسطينية، يعكس وجهة نظر كثير من القوى الشعبية والسياسية، وآراء الباحثين المتابعين لتطورات القضية الفلسطينية، والمطّلعين على جذورها وأبعاد الخلاف الإسرائيلي الفلسطيني، ومظاهره المسلحة والقمعية، هذا إلى جانب السياسات التمييزية التي ترهق الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أم في غزّة وفي القدس وغيرها من المناطق الفلسطينيّة الخاضعة لسلطات الاحتلال بموجب توصيفات الأمم المتحدة.
ومهما كانت مضامين الأجوبة عن الأسئلة المطروحة، وبغض النظر عن التحليلات الكثيرة التي قدمت منذ انطلاقة العملية (قبل نحو ثلاثة أسابيع)، لن تعود الأمور على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها، فهذه القضية غير قابلة للوأد، على نقيض ما تصوره كثيرون، حتى من بين أشد المناصرين للحقوق الفلسطينية، وإنما هي قضية تخص ملايين الناس من الذين تعلّموا من كيسهم إذا صح التعبير، وأدركوا أن التمسّك بالأرض هو المدخل الضامن لتثبيت الحقوق؛ هذا بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتقدّم الذي يتمتع به الجيل الفلسطيني الجديد، فضلاً عن الوعي الثقافي الرفيع بفضل وجود نخبٍ متميّزة في مختلف الميادين الأدبية والفنية. ومن شأنه ذلك كله ترسيخ الهوية الفلسطينية الوطنية بين الأجيال الشابة والمقبلة التي يزداد حجمها العددي، إلى جانب التنامي النوعي في مستوى وعيها بنسبٍ تفوق كثيراً ما يحصل في المجتمع الإسرائيلي؛ وهذا معناه ضرورة التوصل إلى حلولٍ واقعية توافقية في أي سعي جاد يرمي إلى قطع الطريق على حروبٍ مستقبلية ستكون بالتأكيد ما لم يتخلّ السياسيون الإسرائيليون عن الاعتقاد الذي يقوم على استدلال زائف، فحواه أن عاقبة التجاهل والإهمال أو عدم الاعتراف بالمشكلة ستتمثل في نسيانها ومن ثم إلغائها أو زوالها.
الحلّ الشامل في وقتنا الحالي للقضية الفلسطينية هو من باب التمنيّات البعيدة المنال، لكونها قضية كبيرة ومعقدة، ومصحوبة بالعواطف القوية، وتعاني من الجروح المزمنة الملتهبة، ومحمّلة بأبعادٍ دينيةٍ اعتقاديةٍ قوية التأثير. وفي المقابل، هناك إمكانية لتجزئة المشكلة إلى جملة مشكلاتٍ أصغر، ومحاولة تقديم الحلول الواقعية لكل مشكلةٍ بمفردها، إذا امتلكت الأطراف المعنية الإرادة، وأكّدت قدرتها على اتخاذ القرارات السياسية الصعبة وقت اللزوم ورغبتها في ذلك، عوضاً عن اللجوء إلى القتل والتدمير والتهديد بمزيد من الخراب. فإلى جانب اقتراح حلّ الدولتين، الذي نص عليه قرار مجلس الأمن 242، وهو مشروع الحل المعتمد دولياً وعلى المستويين العربي والإسلامي، يمكن أن تبحث في أوضاع الأماكن المقدّسة لجان مهنية محلية ودولية مشتركة، تضم باحثين ضليعين مطّلعين على التفاصيل الخاصة بتاريخ تلك الأماكن وحاضرها، كما تضم رجال دين معتدلين يمثلون الديانات السماوية الثلاثة من المطالبين بتحسين قواعد العيش المشترك بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، بالإضافة إلى سياسيين يبحثون عن الحلول، لا إثارة المشكلات لاستغلالها في مشاريع شعبوية. ويمكن الاستئناس في هذا المجال بما ورد في قرار التقسيم، وبآراء المختصّين من الدول العربية والإسلامية، وممثلين عن الفاتيكان والكنائس الأرثوذكسية.
وعلى صعيد آخر، يمكن إيجاد صيغة أو صيغ إدارية مناسبة لتأمين ربط انتخابي بين الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق التي اعتبرت جزءاً من إسرائيل بموجب قرار التقسيم والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفلسطينيي الشتات، أو الاستمرار في الصيغة الحالية التي تعتبرهم جزءا من الدولة الإسرائيلية، واعتماد القواعد التي تبّدد هواجس الطرفين، وتضع أسساً لتعزيز الثقة، وتلتزم بآلية واضحة متّفق عليها لحل الخلافات عن طريق المؤسسات وبصورة سلمية. وعلاوة على هذا، يمكن تنظيم الأمور في الميادين الاقتصادية والخدمية والانتقال السلس للعمال والمزارعين بين الجانبين.
يمكن تناول كل هذه المسائل وغيرها، وهي قابلة للعلاج بالحلول الواقعية الممكنة، شرط توفر الإرادة والرغبة لدى الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، على قاعدة الالتزام بالقرارات الدولية، وعدم الاستهتار بها من هذا الجانب أو ذاك. ويوجب ذلك كله توحيد الموقف الفلسطيني، واختيار قيادة شرعية عبر انتخابات نزيهة شفّافة بإشراف دولي وعربي، الأمر الذي سيضع حدّاً لمسألة التشكيك في الشرعية أو ادّعائها من هذه الجهة أو تلك، لتأتي بعد ذلك الخطوة التالية، أي ضرورة تأمين موقف عربي قوي مساند وداعم للحقّ الفلسطيني.
تبقى كل هذه الآراء في إطار التمنّيات ما لم تهدأ المعركة المستعرة ويتم إطلاق سراح جميع الرهائن والمعتقلين لدى الجانبين كبادرة حسن نية تؤكّد وجود رغبة حقيقية لدى الجهتين في التوصل إلى حلٍّ مستدامٍ يكون في صالح الطرفين وصالح الأمن والاستقرار في الإقليم كله، الأمر الذي سيفتح الآفاق أمام مزيدٍ من الفرص للعيش الحرّ الكريم لشعوب المنطقة وأجيالها المقبلة.
------------
العربي الجديد