مناسبة هذا الكلام ما صدر من مبادرات سياسية أخيرا، خاصّة وثيقتي "المناطق الثلاث" و"المبادئ الخمسة"، وما أثارتاه من حوار وسجال سياسي خاصّ وعام. طرحت الوثيقتان جملةَ مبادئ سياسية وتنظيمية، ووضعتاها تحت نظر القوى السياسية والفكرية والاجتماعية السورية، لطلب المبارَكة والتأييد والالتحاق، وهذا منطقي، لأنّ ما تختارُه لنفسك تختارُه للآخرين، مع أنّ عدم الإعلان عن الشخصيات المُوقّعة على الوثيقتيْن وعدم معرفتهم من الوسط السياسي والاجتماعي السوري معرفة كافية بابٌ واسعٌ لإثارة الأسئلة وعلامات الاستفهام، الوثيقتان ليستا في موقع المُحتاج لإثارتها، ما كان يقتضي طرح هذه المبادئ للحوار العام والعلني لتكون ثمرةَ جهودٍ واسعةٍ ومعروفةٍ أو تقديم سيرةٍ ذاتيةٍ وسياسيةٍ للشخصيات المُوقّعة عليهما كي يُزاح القلق والشكّ لدى الرأي العام المُعارِض، فالمأزق الذي تعيشه المُعارَضَة، وما فيه من شكّ وعدم ثقة واتهامات قاسية، سيضع الوثيقتيْن، تحت تأثير هذا المناخ، في خانة المُتَّهم حتّى تثبت براءته. وزاد الطين بِلَّة انخراط أصحاب الوثيقتيْن في تنافسٍ غير صحيّ على خلفية توقيع الشيخ أحمد صياصنة عليهما، ثم سحب توقيعه عن الثانية (المبادئ الخمسة) بحجّة تغيير في النصّ جرى بعد التوقيع عليه، يتعلق بتبنّي العلمانية صفةً للدولة، وهو قولٌ ليس مقنعاً في ضوء أنّ "وثيقة المناطق الثلاث"، هي الأخرى، تتبنّى العلمانية بشكل موارب عندما تُعلن أنّ "الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّة أو طائفة أو جماعة عرقية أو تيار سياسي: إنّها دولة سورية فحسب، تحتضن أبناءها كلّهم من دون استثناء، فليس للوطن نعرة عصبية"، وهذا جوهر العلمانية. هل انطلى الكلام الموارب على الشيخ الصياصنة، القادم إلى السياسة من عالم المشيخة والخطابة المُرْتَكِزَة إلى موروث تقليديّ قائمٍ على حفظ آيات القران الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وكتابات الفقهاء، وسّير كثيرة ومتنوعة، من دون اعتدادٍ بالعلوم الحديثة؛ العلمية والسياسية والاجتماعية، وهذا جعل بضاعته السياسية ضعيفةً ولا تمتلك قدرة على تمييز مرامي الكلام وما بين السطور، أم أنّ الحقيقة في مكان آخر، وهي، حسب تقدير كاتب هذه السطور، اعتراض شركائه في "وثيقة المناطق الثلاث" على ذلك، لأنّ توقيعه على "وثيقة المبادئ الخمسة" يعني أنّ وثيقتهم ليست وحيدة في الساحة، وأنّ ثمّة مُبادرات أخرى غيرها تنطوي على مبادئ يمكن الركون إليها. الضّرة مرّة كما يقال، وبالتالي فقدان "وثيقتهم" مكانتها خياراً وحيداً وحصرياً أمام السوريين.
ما دفعني لهذا التقدير تعليق شريك الصياصنة في وثيقة المناطق الثلاث مُضَر الدبس على وثيقة المبادئ الخمسة في حديث لـ"العربي الجديد" (21 إبريل/ نيسان 2024)، إذ عبّر عن استهجانه اختيار القائمين على هذه المبادرة اسماً قريباً من اسم "وثيقة المناطق الثلاث"، وعدّ ذلك "محاولةً لنيْل الشهرة والاستفادة من التأييد الشعبي لوثيقة المناطق الثلاث، وهذا أمر مُستنكَر"، فانتقاد الدبس أصحاب "وثيقة المبادئ الخمسة" لا يعكس تبرّمه من المنافسة، ونزوعه إلى احتكار الفضاء السياسي، وعدم احترامه أسس الديمقراطية فقط، بل يشير إلى وجود تنافس واحتكاك مع أصحاب هذه الوثيقة من أبناء محافظته؛ السويداء، علماً أنّ "المبادئ الخمسة" تتقاطع مع "المناطق الثلاث" في الهدف العام، وإن اختلفت معها في الصياغة، فحدّدت خطواتٍ للوصول إلى هذا الهدف، ما كان يستدعي البحث عن سبيل للدمج أو التنسيق والتعاون في الحدّ الأدنى، فما الحال إذا ظهرت وثائق تعارض "وثيقة المناطق الثلاث"؟. وقد لفتني جنوح الدبس إلى المبالغة عندما زعم إنّ أصحاب وثيقة المبادئ الخمسة اعتمدوا تسميةً قريبةً من تسمية وثيقتهم؛ "المناطق الثلاث"، في "محاولة لنيل الشهرة والاستفادة من التأييد الشعبي لوثيقة المناطق الثلاث"، أين هو هذا "التأييد الشعبي" للوثيقة وكيف قاسه ووصل إلى هذا النتيجة؟... طبعاً المقصود بالتأييد الشعبي جموع المواطنين لا القوى السياسية.
امتازت "وثيقة المناطق الثلاث" بصياغة قوية ومتماسكة، مع نزوع نُخبوي وتجريدي، ما جعل فرص التوافق عليها والاختلاف بشأنها متعادلة، من جهة، وجعل نجاحها شعبياً موضع تساؤل، من جهة ثانية. ولتوضيح ذلك، يمكن البدء من مبدئها الأول؛ "تأميم السياسة"، الذي شرحه نصّ الوثيقة بجعلها عمومية، أي حقّ للجميع. وهو قولٌ مُستغرَبٌ لأنّ السياسة عموميةٌ بالجوهر بفعل طبيعتها وفحواها وأبعادها، وإنّ تآكل هذه العمومية في واقعنا السوري مُرتَبِطٌ بغياب الشروط اللازمة لممارستها؛ من انشغال غالبية المواطنين، تحت ضغط متطلّبات الحياة اليومية، عن الاهتمام بالشأن العام، وصبّ جلّ جهودهم ووقتهم على الشأن الخاص، إلى غياب قدرات وإمكانيات مناسبة لممارستها بسبب الأمّية ومتوسط مستوى التعليم، مروراً بانعدام مناخ عام وأطر رسمية لذلك، بسبب قمع النظام ومحاربته حرّية التعبير والعمل في الشأن العام. هذا وقد زاد شرح النص أهداف المبدأ تأميم السياسة الموقفَ خطورةً بتحويله من مشكلة إلى إشكالية، وهذه تعني الاستحالة لا الضخامة، كما هو دارج في الكتابات الصحافية، عندما قال: "فإنّنا نعلنُ بوضوح، أنّ تسليم القرار العمومي السوري إلى قوة أجنبية... مصادرةً لقرار السوريين ويجب أن يتوقف". ذلك أنّ تسليم القرار السوري لا يتم لدوافع ذاتية، باستثناء حالة الخيانة الوطنية، وهي حالة نادرة الحصول، بل لتوازنات قوى سياسية واقتصادية وعسكرية، ما يجعل السيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي عُرضَة لضغوط وتقلّبات ومساومات وابتزازات مستمرّة، تستدعي من القادة السياسيين العمل على تثقيل أوراق الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية، والانخراط في صراعات وتحالفات ومساومات وتقاطعات ومقايضات، مرحلية ودائمة، وفق الضرورة الوطنية، لتعزيزهما وتثبيتهما، فموقف الوثيقة الحدّي يعزل أصحابها، لأنّه يغلق أمامهم باب الحوار والمناورة والتحالف والتقاطع مع العالم الخارجي. كان الأجدى الحديث عن العمل على الحفاظ على استقلالية القرار الوطني، وعدم التفريط أو التهاون بالسيادة الوطنية.
في المبدأ الثالث؛ "رفض الانطواء المحلي: وحدة سورية"، قالت الوثيقة: "الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّة أو طائفة أو جماعة عرقية أو تيار سياسي: إنّها دولة سورية فحسب، تحتضن أبناءها كلّهم من دون استثناء، فليس للوطن نعرة عصبية". هذا وصفٌ شديد التجريد للدولة الوطنية ليس له نظير في العالم، تُسقطه الوثيقة على سورية، وكأنّ سورية بلا تاريخ ولا بنية ولا هوية. السؤال هنا: هل يمكن أن يقوم وطن من دون نعرة عصبيّة، فنعرة العصبية المبنية على تاريخ ووقائع صحيحة أو مدّعاة هي الملاط الذي يجمع أبناء الوطن. يبدو أنّ أصحاب الوثيقة أرادوا التضحية بالتاريخ والبنية والهوية كي يحصلوا على التوافق، وهذا سيقود إلى عدم التوافق وإلى معارك فكرية وسجالات لا تنتهي. هنا أيضاً، تحوّل الموقف من مشكلة إلى إشكالية، علماً أنّه يمكن للدولة أن تكون ذات تاريخ وبنية وهوية ونعرة عصبية، ويكون نظامها السياسي وقوانينها في مصلحة كلّ مواطنيها، كما هو الحال في الولايات المتّحدة وأوروبا واليابان.
في المبدأ الخامس؛ "وحدتنا في كثرتنا: بناء الثقة"، قالت الوثيقة: "الثقة أداة تأسيس سياسية تؤطّر اجتماعنا الوطني وتعيد بناء رأس مال اجتماعي وطني، يمهّد الطريق لـ(الوحدة في الكثرة)، واحترام التعدّدية وترسيخها قناعةً وعملاً، ويمهّد الانتقال إلى الديمقراطية، فكراً وسلوكاً". ثمّ تدعو السوريين "إلى التعبير عن الثقة، والعمل على تعزيزها، وإيلائها أهمية في السلوك السياسي والخطاب"، متجاهلةً أنّ مسألة الثقة شديدة الحساسية وسريعة العطب وأنّ الوصول إليها بين السوريين، خاصّة بعد ما حصل من قتل ودمار ونزوح وهجرة، وتفكّك المجتمعات المحلية، وانقسام عمومي بين المواطنين، يحتاج إلى أكثر من الدعوة؛ يحتاج إلى معايشة وتعاون. وهذا يحتاجُ إلى زمن طويل نسبياً، وإلى ملاط لتثبيتها. وهذا يستدعي بدوره نسبة عالية من الشفافية والعلنية لا تتناسب مع السرّية وإخفاء الهويات والأوراق.
ثالثة الأثافي، كما تقول العرب، جاءت في الخاتمة، إذ قالت الوثيقة: "إنّنا، أبناء هذه المناطق الثلاث، التي لا تزال تنبض بروح الثورة، وتحتفظ بذاكرتها، بآلامها وآمالها، على مرّ السنين، بتقدّمها وتعثّرها، نعلن أنّنا نعمل معاً انطلاقاً من هذه المبادئ السابقة، طامحين إلى خلق روح جديدة في التفكير في مستقبل وطننا، وفتح حوار سوري عمومي عابر للمحليات، والعصبيات كلّها، يقود إلى تصوّر مُشترَك للخطوات الأولى لبناء اجتماع سياسي تواصلي توافقي وطني حقيقي، قادر على تمثيل طموحات السوريين وتضحياتهم، وآلامهم. وندعو السوريين، في كلّ أنحاء الوطن، إلى المساهمة معنا، والانضمام إلينا، لتحقيق هذه الغاية النبيلة". فرغم الروح الطيّبة بدعوة كلّ السوريين، بمن فيهم الموالون للنظام، للمساهمة في التحرّك إلا أنّها تعسّفت وتجاوزت المعقول حين اعتبرت "إنّنا، أبناء هذه المناطق الثلاث، التي لا تزال تنبض بروح الثورة، وتحتفظ في ذاكرتها بآلامها وآمالها، على مرّ السنين، بتقدّمها وتعثرها... إلخ"، باخستا المناطق السورية الأخرى نضالها وتضحياتها، ناكرة عليها قيامها بمثل هذا الجهد، وحملها آلامه وآماله. لن يكون مفاجئاً أن يرفض المواطنون من المناطق الأخرى، بما في ذلك قوى سياسية واجتماعية، التعاطي بأريحية مع مبادرة تُنكر عليهم نضالهم وتضحياتهم، وتدعوهم للالتحاق بها فقط.
تنطوي النُخبوية والتجريد على خطر قتل المبادرة، عبر عزلها عن وسطها الطبيعي، على خلفية فوقيتها وتعاليها، ما يجعلهما؛ النخبوية والتجريد، لا تناسبان عملاً سياسياً جاداً مهما كان هدفه أو قوّة من يقف خلفه.
-----------
العربي الجديد