يقفز التقرير سريعاً فوق عنوانه فيختصر شمال غربي سوريا بإدلب، متجاهلاً المناطق التي لا تقع تحت سيطرة الهيئة في الشمال وتخضع لسيطرة مختلفة تتمثل عسكرياً بالفصائل المنضوية تحت تسمية «الجيش الوطني»، وإدارياً بالحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحلية، وسياسياً بالائتلاف الوطني الذي يحظى بقبول خارجي.
يطغى الهاجس الأمني ذو المركزية الغربية على عقول معدّي التقرير، فيشيدون بدور الهيئة في تطويق الجهاديين الذين قد يتخذون من سوريا ملاذاً آمناً
يرفع التقرير هيئة تحرير الشام إلى صدارة «المعارضة السورية المسلحة» حين يصفها بأنها المجموعة الرئيسية فيها. ومن الهيئة يُعنى بجهازها الأمني على وجه الخصوص، فتطغى على مصادر معلوماته اللقاءات التي أجراها الباحثون مع أمرائه، الذين يمنحهم التقرير صفة «الضباط» من عندياته، وهم يشرحون مساعيهم لشلّ المجموعات الجهادية.
يطغى الهاجس الأمني ذو المركزية الغربية على عقول معدّي التقرير، فيشيدون بدور الهيئة في تطويق الجهاديين الذين قد يتخذون من سوريا ملاذاً آمناً للتخطيط لعمليات خارج حدودها، أما ما يجري داخلها فليس مهماً لأنه «أمر واقع». فمثلاً لا يُذكر رأي السكان في حكم الهيئة نهائياً، سلباً أو إيجاباً. المركزي في التقرير هو تثبيت وقف إطلاق النار القائم لأن انهياره قد يؤدي إلى موجات نزوح جديدة مؤسفة لكنها ليست مهمة في ذاتها؛ فالأهم، في التقرير، أن كثافة النازحين ستفتح باب اختلاط الساكنين بشكل يتيح لخلايا داعش التخفي بين الجموع كما فعل خليفتها الأول والثاني. كما أن فقر الأهالي محزن، عرَضاً، وعلى الدول الغربية أن تزيد المساعدات، لكن أساساً لأن تنظيم الدولة يستغل حالتهم المتردية لتجنيدهم. وهكذا... دون أي لباقة يقول التقرير، ضمناً، إن هذه المنطقة من العالم لا تعنيه إلا بقدر ما تشكل خطراً أو تتجنبه.
يمضي التقرير خطوة أبعد مما سبقه من أبحاث ومقالات كتبها بعض متابعي الجماعات الجهادية، كانوا يدعون إلى دعم حكومة الإنقاذ الصورية في إدلب مراعاة لمصلحة الملايين ممن يقعون تحت حكمها. أما هذا التقرير، المغرم بتكرار كلمة «السحق»، فيدعو بالتحديد إلى فتح قنوات استخبارية مع الهيئة للاستفادة من معلوماتها عن الفصائل الجهادية، إذ ليس لدى الأجهزة الأمنية للجماعة آلية لتقاسم معلوماتها عن داعش والقاعدة مع «الأطراف ذات الصلة». فضلاً عن أن هذه الأجهزة، المسكينة كما يجب أن نشعر، لا تزال تعتمد على شبكة مخبرين وتنقصها الأدوات التقنية اللازمة للقيام بعمليات التنصت والمراقبة، كما يقول أحد المسؤولين الأمنيين لواضعي التقرير الذين يتناسون أن رفع الإمكانات المخابراتية للهيئة سيتوجه لإخضاع أعداء حكمها الشمولي سواء أكانوا جهاديين أو غيرهم.
لتقديمها كشريك جدير بالثقة يعتمد التقرير على تصريحات قائدها الجولاني، معتبراً أن تغيّره يعني تغيّر الهيئة، وعلى لقاءات منظمة مع أسماء محددة من مسؤوليها تتاح لزائري إدلب من الباحثين الغربيين. فيُترك لعبد الرحيم عطون، الشرعي العام، شرح تحولات الخطاب الديني للجماعة باتجاه الانفتاح على العالم وتجفيف منابع التطرف. وفي هذه المرّة أضيف إلى مهامه الحديث عن «برنامج إعادة التأهيل العقائدي» الذي يقوده لنزع «الغلو» بين الجهاديين الذين يسجنونهم، ونبذ «الحض على كراهية الأقليات»، متجاهلاً زميله في مجلس الشورى، الشرعي العام لجبهة النصرة قبله، أبو ماريا العراقي، الذي لا يكل من الدعوة إلى قتال «النصيريين» ولا يمل من التحريض على محاربة «الروافض».
والحق أن إبقاء أبي ماريا في الظل، عند حضور الضيوف، رغم أهميته في قيادة الهيئة، عائد إلى أنه من عابري الحدود من الجهاديين العراقيين أصلاً. وهنا تجدر الإشارة إلى إحدى التدليسات الكثيرة في التقرير، وهي تمييع مسألة انتماء جبهة النصرة إلى دولة العراق الإسلامية أساساً، بزعم أن الجولاني تعاون مع التنظيم العراقي وتلقى منه مساعدة مالية ولوجستية ثم رفض «الاندماج» به. ومن الثابت لدى أي «خبير» مفترض أن مؤسس الجبهة عبَر الحدود قادماً من العراق، بصحبة مجموعة عراقية بأكثرها، موفداً من تنظيمه الأم لتأسيس فرع له في «الشام»!
بين السوريين الذين كانوا في التنظيم العراقي يُذكر أنس خطّاب، المعروف بأبي أحمد حدود، نائب الجولاني الآن. وهو بعيد عن الإعلام، ليس له تصريح ولا صورة ولا لقاء بمحترفي السياحة البحثية واقتراح السياسات «الأكثر ابتكاراً». ومن غير المفهوم أن يكون الرجل الثاني في جماعة «منفتحة» على هذه الدرجة من الغموض، لا تتضح توجهاته المرتقبة في حال قيادته للتنظيم إن تعرض أميره الحالي لأي خطر محتمل.
أبو أحمد حدود وأبو ماريا العراقي مثالان للقول إن تحولات الجولاني الطموحة لا تعني بالضرورة تحول الهيئة التي تتكون من تيارات مختلفة تتعايش بحكم الضرورة وبفعل المراوغات اللفظية الزلقة لقائدها والتوازنات العملية التي يديرها يوماً بيوم بين أجنحة تنظيمه. وإن أي دعوة للانفتاح على هيئة تحرير الشام يجب أن تأخذ في الاعتبار هذه التركيبة الداخلية المعقدة المؤلفة من سوريين وغيرهم، أفراداً ومجموعات، والاحتمال الدائم لانفراط عقد هذا الائتلاف.
فائض القوة التي تراكمها الهيئة، وزيادة مواردها من الضرائب والشراكات والاستثمارات والمعابر وتشليح المنظمات، لا بد أن يتجه نحو أهداف أخرى
أبعد من سياج مجلس الشورى الشكلي والمتغيّر يبدو الجولاني كمستبد في طور ترسيخ سلطته، مستعيناً بما يدعو التقرير إلى تقويته، أي جهازه الأمني. وفي هذه المرحلة علينا أن نلاحظ أن مطاردة خلايا داعش وترويض الجماعات الجهادية الناشزة مهمة قد انتهى أكثرها، ولم تعد تتطلب من الأمنيين إلا الاستمرارية شبه الروتينية، ولا تحتاج إلى الاستعانة بالجناح العسكري الذي يمر بحالة بطالة في جبهاته المستقرة مع النظام خلا بعض المناوشات. وإن فائض القوة التي تراكمها الهيئة، وزيادة مواردها من الضرائب والشراكات والاستثمارات والمعابر وتشليح المنظمات، لا بد أن يتجه نحو أهداف أخرى، وهو ما ظهر في محاولتها التوسعية في تشرين الأول عام 2022.
من غير المفهوم أن تقريراً وضعه «خبراء» في مؤسسة بحثية معروفة لا يفوته أن يذكر حادثة أقدم فيها مسلح، ربما كان يفتقر إلى التدريب كما يقول التقرير، على قتل متسوق في مدينة إدلب بشكل عشوائي، قبل أن يصيح «باقية»، وهو شعار تنظيم الدولة؛ في حين يتجاهل تماماً معركة كبيرة كتلك التي حدثت منذ أشهر، تحرك فيها أمنيو الهيئة وعسكريوها شمالاً ليقاتلوا فصائل من الجيش الوطني، وهدفوا إلى تقويض السلطات الموجودة وإدخال كل المناطق المحرّرة في دوامة التصنيف بالإرهاب ثم استدعاء الباحثين للتلاعب عليه وتبييض الصفحة.
----------
تلفزيون سوريا