لم يُوَرِّث الأسد الأب ابنه بلداً خالياً من التحديات، الحقيقة أبعد ماتكون عن ذلك، فقد أورثه بلداً هو بحد ذاته تحدياً كبيراً في منطقة ملأى بالتحديات الكبرى، التي ضاعف من حدتها اقترانها بتحديات داخلية، كانت النتيجة الطبيعية لخضوع أحد أكثر شعوب المنطقة انفتاحاً ووعياً، في حياته السياسية والاجتماعية، وحتى الدينية، لأشد نماذج الحكم صرامةً، وبتفردٍ مثير، ربما لا يقابله سوى نظام حكم (هيئة أمن الدولة – ستازي) في ألمانيا الشرقية المندثرة، على أن الأب عرف كيف يتعامل مع أغلب هذه التحديات، بطرق تراوحت بين المرونة والقسوة الشديدة، بل عرف كيف يُحَوِّلَ بعضها إلى فرصٍ لاتتكرر، استفاد منها هو ونظامه، لا سوريةَ وشعبها.
لست هنا في وارد تعداد التحديات التي واجهت الأسد الأب، والتي حَوَّلَها بصبره وعناده، والأهم هدوءه وواقعيته في التعامل معها، إلى فرصٍ استفاد منها، ولا أن أصوره كعبقري موهوب في السياسة وفنونها، فالحقيقة هي أنه ليس كذلك، ولا أخاله كان لديه الوقت أو الاهتمام للظهور كذلك، فهو بعد أن قضى الجزء الأطول من حياته في صراعات مريرة مع الظروف ورفاق الأمس، تطلبت منه قدراً كبيراً من القسوة والميكافيللية لتحييدهم جميعاً، والوصول لسلطة كانت عينه عليها منذ دخوله معترك الحياة العملية، فقد خلص ببساطة إلى نتيجة مقنعه جداً (لهُ على الأقل)، وهي أن يسخر كل جهده وتفكيره في الهزيع المتأخر من حياته لهدفٍ واحدٍ فقط، وهو المحافظة على هذه السلطة بأي ثمن، واعتبار كل مادون ذلك أمور ثانوية.
مع الوقت تَعَلَّمَ الأسد الأب كيف يزاوج بين لعبة الإطباق على السلطة داخلياً، واللعبة الإقليمية والدولية من حوله، الأمر الذي عبَّرَ عنه صديقه “مصطفى طلاس” الذي سبق كل رفاق الأسد في فهم مكنوناته، في مقولته التي حَمَّلَها المخيال السوري في المقلبين الموالي والمعارض أكثر بكثير مما تحتمل، حين قال: (حافظ الأسد تمكن من نسج نظامه بالنظام العالمي)، ولعل السؤال المشروع الذي تطرحه هذه المقولة هو : وهل فهم الأسد الأب النظام العالمي لينسج نظامه فيه؟
الحقيقه أن الجواب موجود في المقولة نفسها، فلعل العماد الراحل الذي رافق الأسد في جميع مراحل صعوده أدرك بذكائه (وسلاسته) أن كل مايهم الأسد من النظام العالمي أو الإقليمي هو مدى تأثيره في قدرته على الاحتفاظ بالسلطة المطلقة في بلده، وأن تَعَامُلَهُ مع كل القضايا العالمية والاقليمية، كما الداخلية، سيكون فقط من خلال هذه الزاوية حصراً.
الخوف والحذر الشديدين على سلطة لن يتسامح مع كل ما ينازعه إياها، أو يتهددها، هو الناموس الوحيد الذي حَكَمَ نهج الأسد الأب مع كل ماحوله، والذي مارسه بمنتهى الواقعية والحزم، اللذان لا مكان فيهما لأي ابتكارات أو اجتهادات أو حذلقات فكرية وسياسية (أو لغوية) لم تعنِ له شيئاً يوماً، ولعلَّ أبلغ مقولاته السياسية هي التي اختار أن يعبر عنها بالصمت، الذي لم يكن ضمن ما وَرَّثَهُ لابنه.
أُدرِكُ سلفاً أن أية مقارنة أو مقاربة بين أسلوبي أداء الأسدين، الأب والإبن، لن تستقيم أبداً، ليس فقط لتباينات شديدة وحادة في تكوينهما النفسي والذهني، والاختلاف الشديد في ظروف صعود كل منهما للسلطة، ولكن لسبب آخر أكثر أصالةً ووجاهةً، وهو أنه في الوقت الذي كان من السهل جداً قراءة الأسد الأب، وتحديد أسلوب عمله، الذي انحصر كلياً في أمر واحد لاثاني له، السلطة المطلقة والمحافظة عليها، فإنه من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل الوصول لقراءة سليمة لأسلوب عمل الأسد الإبن، لسبب بسيط جداً، وهو أن هذا الأسلوب غير موجود أصلاً، ولا أخالهُ هو نفسه بِقَادرٍ على تحديد ملامحه، الأمر الذي لم يمنعه على الإطلاق من التحدث مطولاً وتكراراً وبإسهابٍ شديد، عن وفي وحول كل شيء، ومن ثم التعبير عن كل ذلك … بلا شيء …!!!
من التحديات الكثيرة التي واجهت الأسد الأب علاقته بإيران التي وجد فيها حليفاً اضطرارياً وشراً لا بد منه، كان بحاجة ماسة له، لتدعيم أوراقه الاقليمية والعربية، في مواجهة مجموعة خصوم أهمهم منافسه البعثي في بغداد، والذي ما انفك يوماً يحاول نزع أي شرعية عنه، عربية وبعثية، وحتى طائفية، وأحياناً أمام باقي الزعماء العرب في اجتماعات القمم العربية المغلقة.
عرف الأسد الأب ببراعه كيف يتموضع تماماً بين طهران والرياض التي دعمت حرب منافسه البعثي الطويلة مع إيران، واستطاع بصبر وبراعة أن يُحَوِّلَ مأزق علاقته الحساسة بالطرفين إلى فرصة ثمينة لابتزازهما معاً، ولكن بطريقة لم تزعج أي منهما، فقد حافظ على مراعاته لثوابت مهمه في العلاقة معهما لم يتخطها يوماً، ومع الوقت تحولت هذه العلاقه لضرورة مفيدة له وللطرفين معاً، في الوقت الذي ترك فيه منافسه الشرس صدام حسين يغرق في سلسلة أخطاءه المميتة.
مناكفات صدام حسين لحافظ الأسد أصبحت تحدياً حقيقياً له، ولكل مايفترض أن يمثله الفكر القومي الذي يقوم عليه نظامهما (ولو ظاهرياً)، عندما قرر صدام غزو الكويت، فرغم أن خطوة صدام الكارثية أثبتت أن تحذيرات الأسد لحكام الخليج من تهوره ورعونته كانت في مكانها تماماً، إلا أن تداعياتها بالمقابل وضعت الأسد في موقف حرج جداً حيال الخيار الصعب الذي اضطرت له العربية السعودية في الاستعانه بتحالف عسكري غربي لإخراج صدام من الكويت وحماية السعودية نفسها التي أصبحت على تماس مباشر مع قواته على أراضيها.
في هذا المفصل الحرج في علاقة الأسد الأب بالسعودية، كان يكفي الملك فهد منه ألا يوجه انتقادات علنية لاستقدام قوات غربية عموماً وأمريكية خصوصاً، ترابض على الأراضي السعودية لحمايتها من تمدد مغامرة صدام العسكرية إليها، ومن ثم لاستخدامها كنقطة انطلاق لتحرير الكويت وإخراج صدام منها بالقوة، وقد كانت تلك الرغبة الوحيدة التي نقلها الأمير “بندر بن سلطان” سفير المملكة في واشنطن وقتها، وعرَّاب عملية استقدام القوات الأميركية للسعودية، عندما أوفده الملك فهد للقاء الأسد الأب في إطار التحضيرات لحرب الخليج الأولى.
يصف الأمير بندر لقاءه الطويل بحافظ الأسد، (الذي كان خلافاً لابنه يسمع أضعاف ما يتكلم)، والذي أنصت للأمير طوال المقابلة، وقبيل خروجه وقف معه مودعاً وقال له: (انقل سلامي لأبوفيصل وقل له أن سورية ستكون في خندق واحد مع السعودية للدفاع عنها),
كعادته، اتخذ الأسد الأب قراره بناء على معطيات أوسع بكثير من الحدث، على أهميته، تتعلق بواقع سياسي عالمي جديد، انتقل من ثنائي القطبية إلى أُحَادِيِها بامتياز على يد رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف، وهاهي الفرصة قد أتته ليثبت أنه لايستوعب هذا التغيير الجيوسياسي العالمي فقط، ولكنه مستعد للمضي لأبعد حد للتماهي مع شروطه الجديدة، أما كُتُب (التربية القومية الإشتراكية) التي كانت مقررة في مراحل الدراسة في بلده، فلها أن تستمر في رحلتها المعتادة إلى دكاكين الموالح وبسطات الترمس ليستفاد من ورقها في اللف هناك.
كما عَوَّدَ السعودية دوماً، وَفَا الأسد الأب بكلمته للملك فهد وأرسل قوات مقاتلة إلى حفر الباطن اختار لقيادتها أحد أكثر ضباطه احترافاً وأَقَلَّهم (شلليةً) هو اللواء (وقتها) علي حبيب، الذي سيصبح مع ابنه لاحقاً (العماد) وزير الدفاع ونائب القائد العام، وليضمن الأسد الأب مقعداً أصيلاً على طاولة مفاوضات مدريد، التي وعد بها بوش الأب بعد الانتهاء من تحرير الكويت، الأمر الذي حصل فعلاً، وضوءاً أمريكياً ودولياً أخضر لإخراج ميشيل عون من قصر بعبدا، بعد أن كان قد وضع كل بيضه في سلة صدام حسين.
في علاقته المعقدة والمركبة مع إيران التزم الأسد الأب بثوابت معينة، لم يتنازل عنها يوماً، فهو في الوقت الذي أَمَّنَ فيه لطهران نافذةً إقليمية تطل منها على المنطقة، فقد حرص أن يكون المتكأ الحقيقي لهذه النافذة على الأراضي اللبنانية وليس السورية، على أن يكفل تواجده العسكري والاستخباري الكثيف هناك مهمة الضبط المستمر للتواجد الإيراني ومدى توغله في الحياة السياسية اللبنانية، ومراعاته لميزان القوى الإقليمي، في الوقت الذي وقف فيه بحزم ضد أي دخول لإيران في الحياة السياسية أو الاجتماعية السورية.
إذا كانت معادلة الكفة مع صدام سبباً تكتيكياً وجيهاً دفع الأسد الأب للحفاظ على علاقات متينة مع إيران، فإن ذلك لاينفي سبباً آخر ربما يكون استراتيجياً في هذا الخيار الخلافي، ولعله يكمن في أن الأسد كان قد لحظ مبكراً أن ورقة الشاه (الذي كان الأسد قد زاره في طهران أواسط السبعينات) قد سقطت فعلاً عند الولايات المتحدة عندما وجهت له النصيحة القاتلة بمغادرة طهران (ريثما تهدأ الأمور قليلاً !!)، في رحلة عرف الشاه منذ اللحظة الأولى أنها الأخيرة، وأنه لن يرى بلده بعدها على الإطلاق.
بعين الحذر والتوجس أدرك الأسد أن نظام الملالي الذي يتناقض كلياً بالشكل والمضمون مع نظامه، هو آتٍ ليبقى، وليكون له دور في المنطقة، فمن باب أولى له أن يستفيد مما قد يحمله حضوره من إيجابيات لنظامه، وأن يخفف قدر الإمكان من سلبياته، التي لم تغفل عينه عنها يوماً، ولعل ميكيافيلية الأسد الأب الشديدة هي التي ساعدته على قراءة أمر مهم جداً وفي مرحلة مبكرة، وهو أن نظام الملالي يتمتع أيضاً بميكيافيلية لاتقل أبداً عنه، رشحته ليكون لاعباً إقليمياً محترفاً، ربما على مستوى يتجاوز بمراحل الأسد ونظامه.
الإيراني ليس لاعباً محترفاً فقط، بل وخَلَّاقاً لأبعد الحدود، ومن هنا كان الإصرار الأميركي المتواصل على (ترشيد) دوره في المنطقة بما يتلاءم مع مصالحه، ولم يكن هدفه يوماً إلغاء هذا الدور بالمطلق، الأمر الذي تدركه إسرائيل الدولة العميقة، وتتماهى معه، بينما تختار إسرائيل نتنياهو واليمين الديني المتطرف اليوم رغم فهمها لمزايا هذا الدور أن تدخله في حساباتها الصبيانية الضيقة، وألعابها (الوَلَّادية) التي لاتحظى دوماً برضى الولايات الولايات المتحدة، بما يخلق أحياناً وضعاً سوريالياً بامتياز، يجد فيه (العم سام) في خصمه الإيراني الحصيف لاعباً يُعْتَمَدُ على أداءه العالي، وفي حليفه الإسرائيلي المتهور عبئاً ثقيلاً عليه وعلى مصالح إسرائيل الحقيقية على المدى الطويل، الأمر الذي تجلى بوضوح في مفاعيل مابعد السابع من أكتوبر الماضي.
لعبة (ترشيد) الدور الإيراني أمريكياً التقطها الإيرانيون مبكراً بدهاء شديد، واضطلع بها غالباً الرئيس “هاشمي رفسنجاني” الذي حافظ دوماً على إيقاع متوازن ومقبول أمريكياً لإدارة الخصومة بين الطرفين،
الأسد الأب بدوره التقط هذا التناغم الأميركي-الإيراني مادفعه لتشجيع علاقة خاصة جداً بين رفسنجاني وأحد أهم معاونيه الذي عهد إليه بملف العلاقة مع إيران، اللواء محمد ناصيف خيريك، الذي تطورت علاقته الشخصية برفسنجاني بعد خروجه من مقعد الرئاسة وتوليه منصب رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام منذ عام 1989 وحتى وفاته عام 2017.
“أبووائل” الذي لطالما شوهد مع رفسنجاني وحدهما في أماكن عامة في دمشق، لم يكن بدوره غريباً عن الملف الإيراني، فقد كان هو شخصياً من عهد إليه الأسد الأب أيام إدارته لفرع الأمن الداخلي/الخطيب بتقديم كل التسهيلات الممكنه للمجموعة الضيقة المحيطة بالخميني في سنوات الثورة الإسلامية الأولى، ومنذ اللحظة التي أدرك فيها الأسد أن ورقة الشاه الأميركية سقطت فعلاً.
برحيل رفسنجاني اختار المرشد خامنئي أن يضطلع هو، وعبر مجموعة من معاونيه، بإدارة العلاقة الدقيقة جداً مع (الخصم) الأميركي، وهو إذ يؤدي دوره هذا بكفاءة واقتدار لافتين، فإنه يدرك تماماً أن لعبةً بهذا المستوى العالي من الابتكار، تلبي مصالح الدولة العميقة ليس في طهران وواشنطن فقط، بل وفي تل أبيب أيضاً، هي عابرة للإدارات والحكومات، وإن كانت سياقاتها العامة ثابتة، فإن تبدل أسماء ووجوه بعض القائمين عليها في الطرف المقابل سيفرض بعض التعديلات التي قد تكون مؤلمة أحياناً في ظروف وشروط هذه اللعبة، وهنا تأتي أهمية الواقعية السياسية التي لم يعدمها الإيرانيون يوماً.
واقعية إدراك اللاعب الإيراني لدوره تأتي من مقاطعته لعاملين مهمين يحاول دوماً أن يرصدهما بدقة شديدة، الأول هو تقييمه لمدى قدرته الفعلية على التمدد في منطقة لايرى فيها منافساً حقيقياً له سوى لاعب إقليمي آخر لا يَقِلُّ عنه ميكافيلليةً هو تركيا، التي يدرك أن لديها مشروعها الخاص بها أيضاً في المنطقة، وإن كانت لها أساليبها وأدواتها المختلفه في تنفيذه، والثاني والأهم هو تقييمه لمدى مساحة الاستيعاب والتقبل الأميركي-الإسرائيلي لهذا الدور، وهو إذ يقرأ المشهد الأميركي بوضوح فإن واقعيته الشديدة تتفهم أنه في الوقت الذي قد تقر به الدولة العميقة في الولايات المتحدة بفائدة استمرار دوره لمصالح أمنها القومي، إلا أن مساحة هذا التقبل ومداه تختلفان بشدة باختلاف الرئيس الجالس في المكتب البيضاوي في واشنطن.
برحيل الأسد الأب، انفتحت لإيران آفاق مرحلة جديدة في المنطقة، وبتولي الأسد الابن لم تكن طهران بحاجة لزمن طويل لتكتشف أن هذه المرحلة الجديدة ستكون واعدة جداً لها، ولمخططات تمددها، بعيداً عن حسابات الأب المعقدة وتوجساته التي لم تفارقه يوماً، والتي أدركت إيران مبكراً أنها كانت دوماً في مركز هذه التوجسات، وبامتياز.
الفرق بين الأسدين، الأب والإبن، يمكن اختصاره بعبارة مقتضبه جداً، فبراعة الأب في تحويل التحديات إلى فرص، لم تتفوق عليها إلا براعة الإبن في تحويل الفرص إلى تحديات، أهمها فرصته يوم استلم السلطة في بلده، وكانت غالبية السوريين (بمافيهم الرافضين لمبدأ التوريث البغيض) يبنون آمالاً كبرى على قيامه بإصلاح شامل لنظام تجاوزه الزمن بكل المقاييس، وبلد صارت دون كل مستويات الحياة المعقوله، بعد أن كانت حتى عام 1963 حاضرةً من حواضر الرفاه السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
حتى التحديات التي واجهت الأسد الإبن، كانت تحمل معها ظروف تحويلها إلى فرصٍ ثمينه، له ولنظامه، والأهم لبلده، إلا أن طريقة تعامله معها لم تحرمه فقط من الاستفادة من هذه الفرص، ولكنها ضاعفت من مفاعيلها السلبية عليه وعلى نظامه، أهمها كان مقتل رفيق الحريري، الذي كان وزير الخارجية الفعلي للأسد الأب، واضطلع بدور مباشر في تقديم الأسد الإبن نفسه لكل من الملك فهد والرئيس شيراك في حياة والده، وقبل أن تكون له أية صفة سياسية رسمية، والذي فوجيء بطريقة تعامل مع الإبن والمحيطين به مختلفة بالمطلق عما تعود عليه مع الأب والمحيطين به.
بغض النظر عن مدى صحة كل السرديات التي كانت جاهزة عند جهات عديدة لتتهم نظام الأسد الإبن بالمسؤولية عن مقتل الحريري، والتي استند بعضها إلى طريقة تعامله الفجة معه، فقد كان باستطاعته أن يعكس مجرى الأحداث بالمطلق لصالحه، لو تبنى مبادرة جريئة طالب هو بموجبها بالتحقيق الدولي واستفاد منها في التخلص من كل خصومه المحليين والإقليميين، الذين استفادوا هم من مقتل الحريري، بينما كان هو الخاسر الأكبر والوحيد الذي دفع الثمن خروجاً مُذِلاً لقواته من لبنان، حاولت السعودية دون جدوى إقناعه أن يكون هو المبادر به، وكان حزب الله هو الرابح الأكبر بتخلصه من القوة الوحيدة التي كانت قادرة على ضبط إيقاع عمله، وبخروجها أصبح الحاكم المطلق للبنان.
التحديات الكبرى تحمل معها فرصاً كبرى، ولكن فقط لمن يراها، ويتحفز للإستفادة منها، وإذا كان الحراك السوري في آذار/مارس 2011 هو التحدي الحقيقي لنظام الأسد الإبن، فقد حمل معه أيضاً فرصة حقيقة له للانقلاب على كل مامن شأنه أن يقيد حركته، والتخلص من (حرس قديم) لطالما تبنت دعايته الغير رسمية أنه هو الذي يقف في وجه طموحاته ومخططاته لبناء سورية جديدة حداثية ومعاصرة، ولكن مجريات الأحداث أثبتت أنه ليس هناك حرس قديم ولا جديد، ولا مخططات لسورية حديثة ولا معاصرة، المخطط الوحيد القديم-الجديد منذ زمن الأب هو القبض على السلطة، انضافت له رغبة أخرى لا أدعي أنها كانت غير موجودة مع أباه، ولكنها لم تكن أساسية، وتنعدم قيمتها أمام السلطة ….. وهي الثروة … فخسر الابن الأولى ويكاد يخسر الثانية، وصار بلده رهين مشاريع الآخرين ورغباتهم، وتحول من لاعب إلى لعبة، يخشى فيها حلفاءه قبل خصومه.
الطريقة المختلفة جداً لإدارة علاقات الأسد الإبن مع طهران ضاعف من مفاعيلها السلبية على نظامه وبلده حاجته الماسة للدعم الإيراني لمواجهة احتجاجات شعبية كان من الممكن جداً التعامل معها بأقل قدر ممكن من الخسائر، كان الإبن مستعداً لتقديم التنازلات مع الجميع، وللجميع، السوريون وحدهم الذين رؤوا فيه أملاً بالتغيير يوماً، هم الذين لم يكونوا ضمن حساباته، ولم يفكر يوماً في تقديم أي تنازلات معهم، هي في الحقيقة أدنى درجات حقوقهم، وفي الوقت الذي تنازل فيه السوريون مع والده عن حرياتهم مقابل أمنهم، خسروا معه الأمرين، وخسر هو أيضاً، وصارت إيران موجودة في كل مفاصل الحياة السورية، رغم كل الرفض الشعبي السوري لها، خصوصاً في صفوف حاضنته العلوية.
تتسارع المتغيرات اليوم على المسرح السوري، بإنهاء أدوار معينة وخروج لاعبين معينين، صحيح أنها متغيرات صغرى، ولكنها تحمل دلالات كبرى لمن يجيد القراءة، لذلك كان لابد من هذه النظرة الاستعادية المسهبة، لأنها ضرورية جداً لفهم اليوم، واستشراف الغد، بدلاً من الاستغراق في زوابع التكهنات التي تثيرها الأحداث، كلاً على حدة، والتي لن تفضي إلى قراءة سليمة، لذلك كان لابد من أخذ خطوتين للوراء وإعادة تقييم شاملة لبعض اللاعبين المهمين المنخرطين في الشأن السوري، على ضوء قدراتهم وإمكانياتهم الحقيقية التي يحب قراءتها بنهجهم الفعلي، لا بالسرديات المتداوله عنهم، ولا بالتمنيات والتخيلات لأدوار ماكانت إمكاناتهم يوماً قمينةً باضطلاعهم بها.
مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية ذات الطابع الجراحي في المشهد السوري مؤخراً، واستهدافها لمواقع ذات طابع أمني وعسكري واستخباري، تتبع مباشرةً لإيران وأذرعها في سورية، وكذلك الإعلان اللافت عن تعطيل (وُصِفَ أنه مؤقت) لدور أحد اللاعبين المؤثرين في المشهد السوري، ومن ثم التحييد المتزامن للاعبين ثانويين آخرين، كثر تداول سرديات متعددة حول مايجري فعلاً، منها ما يتحدث عن صفقة دولية (برعاية أطراف عربية أو مباشرةً) لإبعاد النظام عن إيران، مقابل تعويمه، يقوم النظام بموجبها بتسريب إحداثيات أهداف إيرانية في سورية، الأمر الذي أستبعده تماماً لأسباب عديدة، أهمها أن إسرائيل اليوم بمقدراتها الاستخبارية التقنية والبشرية، تسيطر تماماً على المجال الجوي والسيبراني السوري، وليست بحاجة لأية تسريبات، وإيران تدرك ذلك ولكن هذا لن يمنعها من ابتزاز النظام بهذه الفرضية، لفرض أمور معينه عليه، الخلاصة الحقيقية هي أن النظام حتى لو كانت لديه الرغبة اليوم في تحييد إيران عن سورية، فهو بالتأكيد تنقصه القدرة للقيام بذلك.
الأمر المهم الآخر الذي يستحق التوقف عنده، وقراءته بعيداً عن العواطف، السلبية والإيجابية، هو أنه في الوقت الذي تحمل فيه تطورات العلاقات العربية مع النظام أسباب وجيهة تؤيد فرضية محاولات تعويمه، إلا أن الأمور قد تكون تحمل في طياتها معطيات مختلفة تماماً، وإذا أردنا قراءة الأمور من خلال النهج الفعلي لأصحابها، فأنا لا أعتقد أن لدى الأمير محمد بن سلمان عطايا مجانية لبشار الأسد، ولا لغيره، بعد أن عطل نظام الأعطيات بالمطلق في بلده، وإن كانت التركيبة النفسية والذهنية للأسد الإبن وسلوكه السياسي يرجحان أن يكون جزءاً من صفقة سياسية إقليمية برعاية عربية و رضى دولي، فإن سجله الحافل بإضاعته للفرص ومضاعفته للتحديات يشيان بخلاصة مختلفة تماماً، في الوقت الذي يحفل سجل غريمه الإيراني (وأتمسك هنا بتوصيف الغريم) بقدرة لافتة على امتصاص الصدمات وتذويبها، بل وتحويلها إلى فرص سانحة يعرف تماماً كيف يستفيد منها ولأبعد الحدود، يساعده في ذلك حقيقة أن سورية ليست سوى تفصيل صغير في لعبته مع الراعين العرب المفترضين لصفقة تعويم الأسد وإبعاده عنها، (إن وجدت)، بل وأكثر من ذلك، فإن بازارات إيران مع هؤلاء الراعين العرب (وأكرر المفترضين) ليست سوى تفاصيل مهمه ولكنها غير حاسمة في بازارات إيران مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي لم تتوقف يوماً.
لا أنفي على الإطلاق حالة التجاذب بين النظام وإيران، والتي كانت حاضرة في لغة الجسد في لقاء الأسد بالمرشد لتقديم واجب العزاء (المتأخر) بالرئيس رئيسي، وكل ما رافق تلك الزيارة من ظروف وملابسات، بعضها ظهر للعلن، وبعضها لم يظهر، ولكنني أختلف في تفسير مآلاتها، التي لا أعتقد للحظة واحدة أنها تعني أن المرشد سيكون هو الوحيد دون كرسي، عندما تتوقف الموسيقى عن العزف، في لعبة الكراسي الموسيقية الشهيرة.
لعبة الكراسي الموسيقية قائمة، وقد يكون مؤسفاً للبعض، ومفرحاً لبعض آخر، أن الأسد هو أضعف اللاعبين فيها، وإيقاع اللعبة ستضبطه الإنتخابات الرئاسية الأميركية آخر العام، والتي من الواضح جداً أن المرشد مستعد تماماً للتعاطي مع نتائجها أياً كانت، فهو من جهة صَعَّدَ رئيساً جديداً ذو واجهة إصلاحية، في الوقت الذي لايزال فيه هو ومؤسسة الحرس الثوري قابضين على كل القرارات الإيرانية المصيرية، وفي الوقت الذي ترك فيه حماس لحتفها مع غطرسة نتنياهو وحماقاته، إلا أنه لايزال يراهن على دورٍ لها قد يحتاجه في المستقبل القريب.
ضمن كل هذه المعطيات، من سيكون المرشح الحقيقي والمنطقي ليكون فاعلاً في صفقات سياسية إقليمية … إن وجدت؟ ومن سيكون في شباك الآخر؟ الأسد أم خامنئي؟
-------------------
وايت هاوس بالعربي