وكما في القول الكريم: «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، كذلك شأن كل عمل دبلوماسي جدّي، يكون الإعلام آخر من يعلم! ولكن يمكننا تجميع شذرات التحركات، وشقف التوافقات، لندرك أن ثمة أمراً جدياً وراء الأكمة.
وإذ يتقاطر المستكشفون الاستراتيجيون، ودبلوماسيو «المسار الثاني» على فنادق كوبنهاغن لتدبير طبخة ما، يتضح بعض الملامح. لا شك في أن تركيا لديها من الجغرافيا ومسارب مالية ما يجعلها منخرطة حتى الإبط. ولا شك في أن الصين بما تملكه من روافع في موسكو تضغط وتتحرك بكل وزنها.
ما سيطرح على الطاولة لن يُرضي تماماً طرفَي النزاع. ولكن بعد إطلاق مائة مليون قذيفة لأكثر من 520 يوماً، لم تتمكن روسيا من تحقيق أهدافها المعلنة. وفي المقابل يبدو أن طريق أوكرانيا لتحرير أراضيها لن يكون متيسراً قبل الشتاء، والحرب ستكون طويلة. ولن يتمكن الطرفان من الاستمرار في الحرب بوتيرتها الراهنة. في انتظار ذلك، ينجرف العالم نحو أزمات خانقة، ويتأرجح على شفا الصدام بين الغرب وروسيا.
سيبقى الشعب الأوكراني مع الرئيس زيلينسكي يقاتل من أجل تحرير أرضه بأكملها، وستستمر روسيا في شحذ سيوف الهجوم لجولة أخرى لعلها تتجاوز خيبتها. لكن لحظة المراوحة المرتقبة في ساحة القتال، قد تفتح نافذة تحاول الدبلوماسية الدولية أن تنفذ منها.
لكن الأهم هو تلك التحركات في دوائر أخرى. ذلك أن قضية إعادة الإعمار تصبح يوماً بعد يوم مصيرية لأوكرانيا. ومن هنا تنبع أهمية الدور النشط للبلدين اللذين يملكان الصناديق السيادية الأغنى في العالم على الإطلاق! إنهما: النرويج والمملكة العربية السعودية. للنرويج تاريخ طويل في حل النزاعات وفي توظيف رأسمالها السيادي في صنع السلام، ودورها مفهوم بصفتها الأطلسية والاسكندنافية.
المملكة بدورها الدولي الدبلوماسي البازغ، وبما تحمله من روافع تجاه روسيا، ومن قدرات لتحفيزها على التوافقات المحتملة، تحتل موقعاً محورياً، وهذا ما يعطي زيارة وزير الخارجية السعودي كييف ولقائه زيلينسكي في فبراير 2023 دلالاتها العميقة.
فبعد هذه الحرب الغاشمة، تبحث إدارة زيلينسكي، عن إعادة إعمار باهظة. وحدها فاتورة إزالة الألغام الروسية من أوكرانيا، تقدَّر بما يقارب نصف تريليون دولار وتستغرق عشرين عاماً.
لكن أحد الدوافع الأساسية التي تدفع النرويج والمملكة العربية السعودية لهذا التدخل الكثيف، ناجمة عن المعضلات الأخطر التي تهدد السلم الدولي والاقتصاد العالمي. ستنعكس هذه المخاطر بشكل أساسي على بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا.
فبالإضافة لتكسر سلاسل الإنتاج والتموين والموارد الأولية، تتعرض الزراعة في أفريقيا وآسيا لخطر الانهيار الاجتماعي والسياسي التام. إذ تتشارك روسيا وأوكرانيا أهم الحصص ليس في إنتاج الحبوب فحسب بل في إنتاج البوتاس ومن الأسمدة الآزوتية. بفضل العولمة بعد الحرب العالمية الثانية، تمكنت هذه الدول في الماضي من تكثيف استخدامها للأسمدة ومضاعفة إنتاجها الزراعي من 4 إلى 5 مرات، وتحقيق نمو سكاني وصل في بعض المناطق من 4 إلى 7 في أفريقيا.
يسبب انهيار قدرات تصدير روسيا وأوكرانيا كارثة في جنوب آسيا وباكستان ووسط أفريقيا، ويتبعه دومينو من التداعيات التي قد تؤدي للمجاعات وانهيار الاقتصاد والمجتمعات في مناطق واسعة من «الجنوب». ولدى المملكة اهتمام ومصالح كبيرة في الجنوب وبخاصة دول الشرق الأوسط وأفريقيا التي تعاني أصلاً من صعوبات خانقة، ليس أقلها الهجرة وتغير المناخ والتمرد المحلي.
لا يمكننا القول إن الدخان الأبيض لاتفاقات وقف القتال سيرتفع من مدخنة الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول)، لكن لا دخان بلا نار، والرقصة الدولية الجارية توحي بأن المسار ينضج على نار هادئة.
لدى الطرفين، الروسي والأوكراني، ما يجعلهما غير واثقَين بالمستقبل. تعرف أوكرانيا أنها، من الناحية الديمغرافية، ستعاني من صعوبات في منافسة روسيا في حرب استنزاف طويلة يرسل فيها بوتين أرتالاً من آلاف الشبان لمسالخ الحرب. وتعلم أوكرانيا أن الغرب لن يخاطر بحشر بوتين في الزاوية.
وكما هو واضح، فإن أقصى ما يمكن الوصول إليه عسكرياً، في الأفق المنظور، هي اختراقات أوكرانية رئيسية في بعض القطاعات. لكنّ المختصين العسكريين لا يتوقعون أن تتمكن أوكرانيا بسهولة من محاصرة أو استعادة القرم.
في المقابل يشير مستوى الاستحكامات الروسية الفائقة، إلى أن روسيا صارت مقتنعة بأنها لن تستطيع تحقيق الأهداف الأساسية لغزوها. ولعلها تفكر في تجميع قواها لاحقاً، لتعيد الكرة بهجوم جديد، ولكن يلزمها أن تلتقط أنفاسها لتعويض خسائرها في العتاد وإعادة تنظيم قواتها. والأهم أنها تحتاج إلى هضم تداعيات ودلالات ما بعد بريغوجين وما بعد بعده. فالتفاعلات الداخلية الروسية تختمر، وتترك الكثير والكثير من التساؤلات للمستقبل.
في مناخ كهذا، فإن جُلّ ما يمكن أن تتوصل إليه هذه الجهود الدولية، هو وقف إطلاق النار، مع فرض مناطق عازلة عميقة مجردة من السلاح، لتبقى أوروبا على حد السيف مع استمرار الأعمال العدائية المتفرقة.
يشبه هذا الواقع ما حصل بين البلدين بعد احتلال روسيا للدونباس 2014، حيث حتى 2022 قُتل فيها خمسة عشر ألف قتيل في «مناوشات» ما بعد وقف إطلاق النار.
إذا سيبقى الأمن الأوروبي على مرجل متّقد، وسيستمر حتماً الحصار السياسي والاقتصادي والتقني لروسيا، ليمضي الأطلسي في شحذ أسلحته وتحصين قلاعه. ويبدو أن الحلف مستعجل في تعزيز متاريسه بغضّ النظر عن البطء الاستراتيجي الأوروبي المزمن. ويحمل دلالات خصوصاً الاجتماع الذي حضره الرئيس بايدن مع قادة عشر دول أوروبية شمالية، إضافةً إلى بريطانيا، لتشكيل تحالف عسكري جديد في شمال أوروبا.
ما قبل 24 فبراير 1922 لا يشبه ما بعده. وتتحول أوكرانيا عملياً، إلى درع متقدمة للحلف الأطلسي بنسخته الجديدة. وسيجد الحلف أن دخول أوكرانيا بعد وقف إطلاق النار، ضرورة حيوية. هذا هو الخيار الآمن، الأسهل والأوفر بالمقارنة مع الخيار البديل بأن نترك أوكرانيا منفردة، مدججة بالسلاح، تدافع عن أوروبا منفردة بقدراتها الديمغرافية والاقتصادية الذاتية المحدودة.
الأهم أن الحلف لن يترك أوكرانيا خارج مظلته النووية، فما لم يفعل ذلك ستندفع أوكرانيا التي تملك القدرات الفنية من الزمن السوفياتي لاستعادة قدراتها النووية بخاصة. فبعد أن استغنت عن أسلحتها النووية 1994 بضمانات روسية وغربية، لا شك في أنها لن تطمئن بعدها للضمانات الروسية.
والأهم أيضاً أن روسيا لا يمكن أن تكون كما كانت قبل فبراير 2022، وثمة تحولات بائنة، ليس في المجتمع ووسائل الإعلام فحسب، بل على الصعيد الهيكلي والسياسي.
السؤال الأبعد هو: هل سيكون وقف القتال على غرار وقف إطلاق النار عام 2014 وسرعان ما ينهار في مغامرة أخرى؟ أم على غرار وقف إطلاق النار بين الكوريتين الشمالية والجنوبية؟
-----------
الشرق الاوسط
وإذ يتقاطر المستكشفون الاستراتيجيون، ودبلوماسيو «المسار الثاني» على فنادق كوبنهاغن لتدبير طبخة ما، يتضح بعض الملامح. لا شك في أن تركيا لديها من الجغرافيا ومسارب مالية ما يجعلها منخرطة حتى الإبط. ولا شك في أن الصين بما تملكه من روافع في موسكو تضغط وتتحرك بكل وزنها.
ما سيطرح على الطاولة لن يُرضي تماماً طرفَي النزاع. ولكن بعد إطلاق مائة مليون قذيفة لأكثر من 520 يوماً، لم تتمكن روسيا من تحقيق أهدافها المعلنة. وفي المقابل يبدو أن طريق أوكرانيا لتحرير أراضيها لن يكون متيسراً قبل الشتاء، والحرب ستكون طويلة. ولن يتمكن الطرفان من الاستمرار في الحرب بوتيرتها الراهنة. في انتظار ذلك، ينجرف العالم نحو أزمات خانقة، ويتأرجح على شفا الصدام بين الغرب وروسيا.
سيبقى الشعب الأوكراني مع الرئيس زيلينسكي يقاتل من أجل تحرير أرضه بأكملها، وستستمر روسيا في شحذ سيوف الهجوم لجولة أخرى لعلها تتجاوز خيبتها. لكن لحظة المراوحة المرتقبة في ساحة القتال، قد تفتح نافذة تحاول الدبلوماسية الدولية أن تنفذ منها.
لكن الأهم هو تلك التحركات في دوائر أخرى. ذلك أن قضية إعادة الإعمار تصبح يوماً بعد يوم مصيرية لأوكرانيا. ومن هنا تنبع أهمية الدور النشط للبلدين اللذين يملكان الصناديق السيادية الأغنى في العالم على الإطلاق! إنهما: النرويج والمملكة العربية السعودية. للنرويج تاريخ طويل في حل النزاعات وفي توظيف رأسمالها السيادي في صنع السلام، ودورها مفهوم بصفتها الأطلسية والاسكندنافية.
المملكة بدورها الدولي الدبلوماسي البازغ، وبما تحمله من روافع تجاه روسيا، ومن قدرات لتحفيزها على التوافقات المحتملة، تحتل موقعاً محورياً، وهذا ما يعطي زيارة وزير الخارجية السعودي كييف ولقائه زيلينسكي في فبراير 2023 دلالاتها العميقة.
فبعد هذه الحرب الغاشمة، تبحث إدارة زيلينسكي، عن إعادة إعمار باهظة. وحدها فاتورة إزالة الألغام الروسية من أوكرانيا، تقدَّر بما يقارب نصف تريليون دولار وتستغرق عشرين عاماً.
لكن أحد الدوافع الأساسية التي تدفع النرويج والمملكة العربية السعودية لهذا التدخل الكثيف، ناجمة عن المعضلات الأخطر التي تهدد السلم الدولي والاقتصاد العالمي. ستنعكس هذه المخاطر بشكل أساسي على بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا.
فبالإضافة لتكسر سلاسل الإنتاج والتموين والموارد الأولية، تتعرض الزراعة في أفريقيا وآسيا لخطر الانهيار الاجتماعي والسياسي التام. إذ تتشارك روسيا وأوكرانيا أهم الحصص ليس في إنتاج الحبوب فحسب بل في إنتاج البوتاس ومن الأسمدة الآزوتية. بفضل العولمة بعد الحرب العالمية الثانية، تمكنت هذه الدول في الماضي من تكثيف استخدامها للأسمدة ومضاعفة إنتاجها الزراعي من 4 إلى 5 مرات، وتحقيق نمو سكاني وصل في بعض المناطق من 4 إلى 7 في أفريقيا.
يسبب انهيار قدرات تصدير روسيا وأوكرانيا كارثة في جنوب آسيا وباكستان ووسط أفريقيا، ويتبعه دومينو من التداعيات التي قد تؤدي للمجاعات وانهيار الاقتصاد والمجتمعات في مناطق واسعة من «الجنوب». ولدى المملكة اهتمام ومصالح كبيرة في الجنوب وبخاصة دول الشرق الأوسط وأفريقيا التي تعاني أصلاً من صعوبات خانقة، ليس أقلها الهجرة وتغير المناخ والتمرد المحلي.
لا يمكننا القول إن الدخان الأبيض لاتفاقات وقف القتال سيرتفع من مدخنة الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول)، لكن لا دخان بلا نار، والرقصة الدولية الجارية توحي بأن المسار ينضج على نار هادئة.
لدى الطرفين، الروسي والأوكراني، ما يجعلهما غير واثقَين بالمستقبل. تعرف أوكرانيا أنها، من الناحية الديمغرافية، ستعاني من صعوبات في منافسة روسيا في حرب استنزاف طويلة يرسل فيها بوتين أرتالاً من آلاف الشبان لمسالخ الحرب. وتعلم أوكرانيا أن الغرب لن يخاطر بحشر بوتين في الزاوية.
وكما هو واضح، فإن أقصى ما يمكن الوصول إليه عسكرياً، في الأفق المنظور، هي اختراقات أوكرانية رئيسية في بعض القطاعات. لكنّ المختصين العسكريين لا يتوقعون أن تتمكن أوكرانيا بسهولة من محاصرة أو استعادة القرم.
في المقابل يشير مستوى الاستحكامات الروسية الفائقة، إلى أن روسيا صارت مقتنعة بأنها لن تستطيع تحقيق الأهداف الأساسية لغزوها. ولعلها تفكر في تجميع قواها لاحقاً، لتعيد الكرة بهجوم جديد، ولكن يلزمها أن تلتقط أنفاسها لتعويض خسائرها في العتاد وإعادة تنظيم قواتها. والأهم أنها تحتاج إلى هضم تداعيات ودلالات ما بعد بريغوجين وما بعد بعده. فالتفاعلات الداخلية الروسية تختمر، وتترك الكثير والكثير من التساؤلات للمستقبل.
في مناخ كهذا، فإن جُلّ ما يمكن أن تتوصل إليه هذه الجهود الدولية، هو وقف إطلاق النار، مع فرض مناطق عازلة عميقة مجردة من السلاح، لتبقى أوروبا على حد السيف مع استمرار الأعمال العدائية المتفرقة.
يشبه هذا الواقع ما حصل بين البلدين بعد احتلال روسيا للدونباس 2014، حيث حتى 2022 قُتل فيها خمسة عشر ألف قتيل في «مناوشات» ما بعد وقف إطلاق النار.
إذا سيبقى الأمن الأوروبي على مرجل متّقد، وسيستمر حتماً الحصار السياسي والاقتصادي والتقني لروسيا، ليمضي الأطلسي في شحذ أسلحته وتحصين قلاعه. ويبدو أن الحلف مستعجل في تعزيز متاريسه بغضّ النظر عن البطء الاستراتيجي الأوروبي المزمن. ويحمل دلالات خصوصاً الاجتماع الذي حضره الرئيس بايدن مع قادة عشر دول أوروبية شمالية، إضافةً إلى بريطانيا، لتشكيل تحالف عسكري جديد في شمال أوروبا.
ما قبل 24 فبراير 1922 لا يشبه ما بعده. وتتحول أوكرانيا عملياً، إلى درع متقدمة للحلف الأطلسي بنسخته الجديدة. وسيجد الحلف أن دخول أوكرانيا بعد وقف إطلاق النار، ضرورة حيوية. هذا هو الخيار الآمن، الأسهل والأوفر بالمقارنة مع الخيار البديل بأن نترك أوكرانيا منفردة، مدججة بالسلاح، تدافع عن أوروبا منفردة بقدراتها الديمغرافية والاقتصادية الذاتية المحدودة.
الأهم أن الحلف لن يترك أوكرانيا خارج مظلته النووية، فما لم يفعل ذلك ستندفع أوكرانيا التي تملك القدرات الفنية من الزمن السوفياتي لاستعادة قدراتها النووية بخاصة. فبعد أن استغنت عن أسلحتها النووية 1994 بضمانات روسية وغربية، لا شك في أنها لن تطمئن بعدها للضمانات الروسية.
والأهم أيضاً أن روسيا لا يمكن أن تكون كما كانت قبل فبراير 2022، وثمة تحولات بائنة، ليس في المجتمع ووسائل الإعلام فحسب، بل على الصعيد الهيكلي والسياسي.
السؤال الأبعد هو: هل سيكون وقف القتال على غرار وقف إطلاق النار عام 2014 وسرعان ما ينهار في مغامرة أخرى؟ أم على غرار وقف إطلاق النار بين الكوريتين الشمالية والجنوبية؟
-----------
الشرق الاوسط