كان السوري، الذي عايش الخوف كظله، يعزي نفسه بأن ثمة حياة غريزية أو سرية يمكن أن يعيشها، مقابل الانحناء أمام العاصفة للحفاظ على وجوده وتسيير أموره، إلى أن تحدث صدفة ما تطيح بهذا الاستقرار القاتل، وهو ما حصل بالفعل، ولكن كما يشتهي التاريخ وليس كما نريد. وقد اقتنع السوري العادي بأن ما يتجاوز الحياة الغريزية ترف يمكن الاستغناء عنه، بما في ذلك الحريات، التي بات الإنسان الحالي من دونها مجرد مسخ بائس، وعليه أن يكتفي بالقيام بواجباته، مستغنياً عن حقوقه، فهو نصف مواطن في أحسن الأحوال.
وحين جاءت تلك الصدفة غير المتوقعة، انتفاضات “الربيع العربي”، جرت محاولة عفوية وشجاعة للدعوة إلى حياة كريمة، كما يُفترض أن تُعاش، لكن أثقال الماضي وصراعات الحاضر لم تلبث أن حولتها إلى انفجارات متلاحقة، بغياب أي منطق سياسي أو برامج إنقاذية يُعتدُّ بها، وتبعتها التداعيات المعروفة والمفجعة وما تزال، إلى جانب استمرار الحضور الطاغي للتسلط وهاجس الحفاظ على السلطة بأي ثمن.
ومن نتائج الحدث أن فُرض على السوريين واقع الانقسام، فانقسموا إلى موالاة ومعارضة، إلى أن أدركوا بأن الأمر أكبر من ذلك بكثير، وأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، وأن لا إرادة لهم بما يحصل، فهم ضحية الاستبداد بكافة ألوانه من جهة، وضحية تضارب مصالح القوى الأجنبية المحتلة لأرضهم من جهة ثانية.
الآن، وقد وصلت غالبية الناس إلى حافة الموت جوعاً، جاء دور الموالين ليعارضوا، وهم الذين ارتكبوا خطأً أخلاقياً فادحاً في البدايات، من خلال الوقوف ضد نداء الحرية أو عدم القدرة على اتخاذ موقف واضح منه. كما لم يُدرك الموالون بأن نتائج الاستبداد ستطال الجميع، وهو الخطأ (سوء التقدير) الثاني. فهل يتحول الموالون، أو بالأصح الموالون المتضررون من استمرار الانهيار، إلى عامل تغيير؟ وما هي طبيعته؟
يشير ما يُنشر على وسائل التواصل إلى أن تغييراً مهماً يحدث في وعي هذه الفئة تحت ضغط الظروف المادية الصعبة التي بدأت بالاقتراب من الذروة، حيث الاحتمالات ستكون مفتوحة. بدأ ذلك تدريجياً منذ توقف العمليات العسكرية الكبيرة عام 2019 وإدراك ارتهان البلد للحلفاء قبل الأعداء، فكما انخدع جمهور المعارضين بما سمي “أصدقاء الشعب السوري” عام 2011، تأكد جمهور الموالين الآن بأن حلفاءهم لم يتركوا لهم شيئاً لم يُدمَّر، وأن سلطتهم عاجزة عن فعل أي شيء يُعتدُ به في هذا الصدد.
وصار التذمر من سوء الأوضاع يعبر عن نفسه علانية في الشوارع، وبصيغٍ أكثر تكثيفاً في وسائل التواصل، بما في ذلك تجاوز الخطوط الحمر المعروفة، ويترافق ذلك مع تعليقات ومشاركات يصب معظمها في ذات الاتجاه، بينما قلت أعداد المشبحين بصورة لافتة. وللتخفيف من حدة الكلمات وخطورتها، كضرب من التورية، يتم توجيه النقد إلى شخص الحكومة، التي تتلقى الضربات الصماء بدون أن ترد عليها، ككيس الملاكمة، فهي تعرف أنها غير مقصودة بالنقد ولا يمتلك وزراؤها من أمرهم شيئاً، مثلما يعرف المنتقدون أيضاً.
من الصعب التكهن بما ستحدثه هذه الانتقادات من تأثير، مع أنها لا يمكن أن تتوقف مع استمرار الانهيار الاقتصادي غير المسبوق، رغم اعتقال بعض مطلقيها، فقد بدأ ذلك يُحدث ردات فعل تضامنية لا تقل أهمية عن الانتقادات ذاتها، فضلاً عن عدم قناعة عناصر الأجهزة الأمنية بهذه الاعتقالات ومعاناتهم هم أيضاً من الضائقة المعيشية.
وبالنسبة للسلطة، فظهرها إلى الحائط هذه المرة، إذ لا مؤيدين يجبرهم الخوف منها ومن خطر الأخر على الخضوع، فالخطر الجديد الذي اقترب من تهديد الحياة صار هو الهاجس الطاغي، ولم يعد المرتب الشهري ذا قيمة مهمة ليجري التهديد بقطعه، كما كان يحدث في السابق. وفي كل الحالات، تشكل التحولات الحاصلة في الرأي العام المؤيد وسيلة ضغط لا يُستهان بها، فهي مقبولة من الناس كونها سلمية وليس من السهل تشويهها وتخوينها. وحتى لو لم تتجاوز الانتقادات المطالبة بتحسين درجة العبودية، فإن عجز السلطة عن التجاوب معها قد ينقلها إلى حالة أكثر نوعية. صحيح أن التغيير المطلوب يحتاج إلى مستوى أعلى من التنظيم الحزبي والمدني، ولكن تواصل الانتقادات الحالية يدفع باتجاه تكوين رأي عام معارض لا يمكن تجاوزه من دون تداعيات خطيرة.
يقود الانهيار الاقتصادي إلى حدوث تغييرات عميقة وبطيئة على المستويات الاجتماعية، بما في ذلك العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والسلوكية، وهذا الأمر ليس سلبياً فقط، فهو يعمل على تفكيك الكثير من القيم والحواجز الاجتماعية المعيقة لصالح الحريات الفردية، بما في ذلك على مستوى الأسر، مثلما تفعل عمليات هجرة الشباب، ذكوراً وإناثاً، من مناطق النظام بحثاً عن أي فرصة للعمل والتعليم وغيرها.
ونظراً لتعقيد الحالة السورية وكثرة العوامل المؤثرة فيها، فمن الصعب التكهن بمآلاتها، بما في ذلك نتائج تحولات الرأي العام المؤيد، إلا أن عدم حدوث أي حلحلة سياسية من خلال تفاهمات دولية سيزيد من خطر حدوث انفجارات غير متوقعة، وربما أخطر مما حدث، فالحل السياسي هو ما يمكن أن يوقف الانهيار الحاصل والاندفاع نحو المجهول، في ظل العجز عن إيجاد أي حل ناجع على المستوى الداخلي، إذ لن تفعل الإجراءات المعمول بها سوى تأجيل حصول كارثة قادمة لبعض الوقت
---------
الناس نيوز.