ومع ما يبدو أنه محاولة لتقدم طفيف في مسار التقارب بين تركيا والنظام، الذي تطمح عبره أنقرة لإفشال مشروع “الإدارة الذاتية”، وهجمات تتعرض لها “قسد” شرقي دير الزور، ونشاط تنظيم “الدولة الإسلامية” وتوقعات بانسحاب أمريكي في حال وصل دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، تبحث “الإدارة” عن خلاص.
وتعي أنقرة، وفق تقدير موقف نشره مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أن الملفات المطروحة على طاولة تقاربها مع النظام معقدة وتفوق قدرات الجانبين على تحقيقها، إذ تتشابك مصالح الفواعل المحلية والإقليمية والدولية في سوريا.
“الإدارة الذاتية” بادرت
منذ بدء مسار التطبيع بين تركيا والنظام السوري، أبدت “الإدارة الذاتية” ومكوناتها استعدادها للحوار مع جميع الأطراف، وخصصت أطرافًا في بعض الأحيان، إذ قالت إنها مستعدة للحوار مع عدوها المحلي، المعارضة السورية المدعومة من تركيا.وأبدت لاحقًا استعدادها للحوار مع النظام السوري، وأخرى مع تركيا نفسها.
وفي مطلع تموز الماضي، قال نائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي في “الإدارة الذاتية”، حسن كوجر ، إن تركيا تريد استخدام جميع الأطراف في سوريا لتحقيق أجنداتها، لذلك ينبغي على “حكومة دمشق” ألا تنخدع بهذه الألاعيب.
وأضاف، “نحن لا نشكل أي تهديد لأي طرف ولسنا أعداء لأي طرف، نحن نسعى لنبني سوريا والحفاظ على سيادة أراضي البلاد، قلناها دائمًا إننا على استعداد لتحرير المناطق السورية المحتلة بالتشارك مع الجيش السوري”.
وفي 20 من تموز الماضي، أبدت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهي الجناح العسكري لـ”الإدارة الذاتية”، استعدادها للانخراط في مسارات للحوار مع جميع الأطراف، بمن فيهم تركيا، بهدف إنهاء القتال في سوريا.
وقال القائد العام لـ”قسد” مظلوم عبدي، “نحن مستعدون للحوار مع جميع القوى، بما في ذلك تركيا، وسندعم أي حوار يؤدي إلى وقف القتال والحل السياسي للأزمة”.
وأضاف عبدي، أن “قسد” عملت دائمًا من أجل وحدة الجغرافيا السورية ومنع تقسيمها، وستواصل ذلك، معتبرًا أن سياستها اليوم “تحافظ على وحدة الأراضي السورية”.
سبق ذلك مطلع الشهر نفسه حديث عبدي عن أنه يرحب بكل سوري “وطني” على أرضه وبين إخوته في مناطق سيطرة قواته شمال شرقي سوريا، مشيرًا إلى أن يده ممدودة لجميع السوريين.
من جانبه دعا “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) عبر بيان، القوى السياسية السورية لتكون على قدر المسؤولية تجاه مصير السوريين، مشيرًا إلى أن “الحوار الوطني والعاقل هو السبيل لتجاوز مأساتنا وفرض رؤية الشعب السوري على الساحة الدولية كمرتكز لأي مشروع يستهدف الحل”.
ماذا عن تركيا؟
تجاهلت تركيا دعوات “قسد” للحوار، باستثناء تصريح سابق لرئيس حزب “الحركة القومية” التركي، دولت بهشيلي، وهو الحليف الوثيق للحزب الحاكم في البلاد، قال فيه إن “الولايات المتحدة ترى بأن الحوار مع الإرهابيين أمر ذو أهمية استراتيجية”، في إشارة للمساعي الأمريكية لإقامة حوار بين الجانبين.ويعتقد الباحث في شؤون فواعل ما دون الدولة بمركز “عمران للدراسات”، أسامة شيخ علي، أنه رغم نظرة تركيا لـ”الادارة الذاتية” أنها مشروع انفصالي، ولا ترضى بخلق كيان بهذا الحجم على حدودها الجنوبية لكنها تواصلت سابقًا لنتيجة أنه يمكن فصل علاقة هذا الكيان بـ”حزب العمال الكردستاني” (PKK) المدرج على “لوائح الإرهاب” لديها.
وتصنف تركيا حزب “العمال الكردستاني” على قوائم “الإرهاب”، كما أن الحزب مصنّف على قوائم “الإرهاب”، لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تركيا تعتبر “قسد” و”الإدارة الذاتية” امتدادًا لـ”العمال الكردستاني”، وهو ما تنفيه “قسد” رغم إقرارها بوجود مقاتلين من الحزب تحت رايتها وشغلهم مناصب قيادية.
ويرى الباحث أن تركيا قد تقبل بسيناريو من هذا النوع، لكن القضية معقدة جدًا خصوصًا مع وجود تجربة سابقة عندما نشأ اتفاق أمريكي- تركي بخصوص منبج سابقًا، ولم يصل إلى أي نتيجة حتى اليوم.
ويمكن النظر لحالة عدم الثقة باتفاق أنقرة مع واشنطن حول “الإدارة الذاتية”، بتصريحات الرئيس التركي ، رجب طيب أردوغان، المتكررة حول الوعود التي قُطعت سابقًا حول “قسد” من قبل واشنطن، ولم تنفذ حتى اليوم.
وعلى الرغم من أن أنقرة تتقارب مع دمشق اليوم بهدف مكافحة “الإدارة الذاتية”، يرى الباحث أسامة شيخ علي، أن النقطة التي تهم تركيا في هذه المرحلة هو تفادي حصول “الإدارة الذاتية”، أو مكونها الأساسي “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي يحمل إيديولوجيا “العمال الكردستاني”، على مقعد في صناعة القرار بدمشق نتيجة تفاهم ما.
وبطبيعة الحال مهما كان الشكل المستقبلي للمنطقة، تدرك تركيا أن لـ”الاتحاد الديمقراطي” حاضنة شعبية في شمال شرقي سوريا، وتحاول سواء عسكريًا أو سياسيًا تفتيت هذا الكيان وتجزئته وتقسيمه أو حتى حلّه، وإذا حصل على اعتراف دستوري من دمشق، ستقف أنقرة عاجزة عن التأثير فيه مستقبلًا، وفق الباحث.
هل يقبل “العمال الكردستاني”
اتهامات تركيا لـ”الإدارة الذاتية” بالارتباط الوثيق مع “العمال الكردستاني” ليست بعيدة عن الواقع، إذ يتحكم الأخير بمفاصل القرار شمال شرقي سوريا، وينسحب ذلك على القطاعات الاقتصادية، والأمنية، والعسكرية، وحتى الخدمية.وعلى سبيل المثال لا الحصر، يدار شمال شرقي سوريا على طريقة “الكومينات” (أقاليم) التي لطالما تحدث عنها زعيم “PKK”، عبد الله أوجلان.
وتتمسك “الإدارة الذاتية” بنفي تبعيتها لـ”PKK”، رغم أن قائدها مظلوم عبدي أقر سابقًا بوجود مقاتلين من “الحزب” في “قسد”، لكنه عاد بعد سنوات ليتحدث لموقع “المونيتور ” الأمريكي، معتبرًا “اتهامات تركيا لـ(قسد) أعذارًا لشن هجمات في سوريا”.
وأضاف عبدي أن “قسد” لا تشكل أي تهديد لتركيا أو حدودها أو أمنها القومي، مشيرًا إلى أن قواته مكوّنة من كرد سوريين، يريدون “علاقة سلمية” معها.
وبينما يحاول عبدي تصوير الواقع على أنه مغاير للاتهامات التركية حول “العمال” و”قسد”، لا تغيب صور عبد الله أوجلان عن شوارع محافظات ذات غالبية عربية كالرقة ودير الزور، إذ تطالب أحزاب كردية تركيا بالإفراج عن أوجلان، عبر اعتصامات ومظاهرات شمال شرقي سوريا.
يعتقد الباحث أسامة شيخ علي أن “العمال الكردستاني” قد يسمح بفصل “الإدارة الذاتية” عنه حتى لا يخسر المكاسب التي تحققت في سوريا، خصوصًا أن أمريكا دعمت بشكل أكبر تيارًا براغماتيًا ضمن “قوات سوريا الديموقراطية” وضمن “الإدارة الذاتية”، لتقليص نفوذ “العمال”.
وأضاف الباحث لعنب بلدي أن تحقيق تقارب بين تركيا والنظام سيشكل ضغطًا كبيرًا على “الإدارة الذاتية” ومن الممكن أن يفقدها الكثير من مكاسبها، لكن إذا نظرنا للمنطقة ككل بشكل أعم وأوسع يمكن رؤية شمال شرقي سوريا وشمال غربي العراق، ينفصلان تدريجيًا عن قنديل (حيث يتمركز العمال الكردستاني).
ويتعرض “حزب العمال” لضغط عسكري كبير في كردستان العراق، خصوصًا في محافظة دهوك والمناطق الحدودية مع سوريا، بعد أن توصلت أنقرة لاتفاق مع بغداد يقضي بتصنيف “الحزب” كمنظمة إرهابية في العراق.
وبناءً على الاتفاق التركي- العراقي، يمكن التوقع أن الضغط القائم على “PKK” سيؤدي أخيرًا لقطع اتصال الأخير بمناطق شمال شرقي سوريا، ما قد يتيح التوصل لتفاهم يقصى بموجبه من الخارطة السورية.
---------
عنب بلدي