منذ وصول حزب البعث إلى الحكم (8 مارس/ آذار 1963)، سعت السلطات المتعاقبة إلى إحكام قبضتها على القطاع العسكري في السلطة، أعني الجيش تحديداً، وكذلك سعت إلى تجريد هذا الجيش من مهمّته النوعية، الدفاع عن البلاد ضد العدوان الخارجي، وعدم التدخّل في الشؤون السياسية الداخلية، وقد دأبت تلك السلطات على تكريس مفهوم "الجيش العقائدي" الذي أتاح نوعاً من التماهي بين العسكر وأيديولوجيا السلطة ممثلةً بحزب البعث. ولاحقاً، أصبحت مؤسستا الجيش والحزب يتبعان تبعية مطلقة للحاكم. وبهذا، باتت الدولة السورية كياناً تتداخل فيه المؤسّسات، إذ لم يعد الدستور ولا القوانين المنبثقة عنه العقد الناظم لإدارة البلاد، بل القوّة التي يُمسك بها الحاكم والمتمثلة بقطاع العسكر، فلم يعُد الجيش قوة داعمة لنظام الحكم فحسب، بل أضحى الأداة التي تُستخدم لحيازة الحكم أصلاً، ذلك أن السلطات التي تعاقبت على حكم البلاد منذ 1954 جميعها انقلابات عسكرية يقودها ضبّاط، وما أن يتمكّنوا من إطاحة أسلافهم، حتى يسارعوا إلى تنصيب أنفسهم رؤساءً للبلاد.
مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 عبر انقلاب عسكري، سارع إلى إحداث أمرين: الأول داخل المنظومة العسكرية، إذ أعاد توزيع المناصب والمراتب القيادية بناءً على معيار الولاءين الشخصي والطائفي، بحيث يصبح الجيش كتلة صلبة تابعة لرأس النظام ويصعب اختراقها. والثاني داخل المنظومة الأمنية، إذ أنشأ كياناتٍ أمنية متعدّدة ذات صلاحيات واسعة، على رأس كل منها ضبّاط موثوقون يختارهم رأس النظام بناء على الولاء ليس للسلطة فحسب، بل لرأس النظام تحديداً. وهكذا أصبحت هذه القوة الأمنية رديفاً عسكرياً لقوّة الجيش، بل باتت المنظومتان (الجيش والأمن) مسخّرتين لحماية النظام، وأصبحتا العصا التي يمسك بها رأس النظام ليضرب بقوّة خصومه أو من ينازعونه على السلطة. وأثمرت هذه الاستراتيجية في أول مواجهة يخوضها حافظ الأسد ضد خصومه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين تمكّن الجيش وأفرع المخابرات من سحق حركة الإخوان المسلمين، ومن ثم الإجهاز على بقية القوى السياسية المناوئة للسلطة. ولعل تلك الاستراتيجية التي أسّسها الأسد الأب هي ذاتها التي اتّبعها الأسد الابن بالتصدّي لانتفاضة السوريين في مارس/ آذار 2011، ولا تزال تلك الاستراتيجية الضامن الفعلي لاستمرار السلطة.
سيكون أي تعاطٍ إعلامي أو بحثي مع جيش النظام في سورية على أساس أنه من مؤسّسات الدولة خطأ موضوعياً على الأقل
وفي مقابل هذه الانتصارات التي حققها الجيش ورديفه الأمني في مواجهة الخصوم السياسيين للسلطة في الداخل السوري، لم يفلح ولا مرّة في النهوض بمهمته الحقيقية، الدفاع عن البلاد بمواجهة خصومها الخارجيين. انهزم هذا الجيش في حرب حزيران/ يونيو 1967 أمام إسرائيل، وكذلك لم ينجح بتحقيق أي نصر مادي ملموس في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بغض النظر عن الدعائية الإعلامية للنظام. وكذلك خذل هذا الجيش القوى الفلسطينية بمواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 1982. بل يمكن التأكيد على أن جيش الأسد كان مهزوماً في جميع المواجهات التي خاضها مع الكيان الصهيوني، ولم يتمكّن في أيٍّ منها من الدفاع عن حرمة البلاد وسيادتها. ولعلّ الواقع الراهن يختزل الكثير مما يمكن قوله، فالجميع يعلم ويرى، منذ خمس سنوات، أن الطيران الإسرائيلي يستبيح الأجواء السورية ويستهدف مواقع النظام والمليشيات الإيرانية ومنشآتهما، بل باتت الجغرافيا السورية مسرحاً للطيران الإسرائيلي الذي يقصف أدقّ الأهداف وأكثرها حساسية في العمق السوري، بل وفي العاصمة دمشق، من دون أي محاولة للردّ ولو شكلية، بينما يعوّض جيش الأسد هزالته أمام إسرائيل من خلال قصف الشعب السوري في المدن والأسواق والمشافي والمدارس ومخيّمات اللجوء، مخلّفاً كلّ يوم عشرات القتلى والجرحى، بل يمكن التأكيد أن المُنجز الأبرز لهذا الجيش، على صعيد قدرته على الردّ، يتمثل بالبراميل المتفجّرة التي كان يُمطرها على رؤوس المدنيين السوريين، ولعل هذا الأمر يؤكّد بحقّ جدارته بقتل السوريين، وتلك هي المهمّة التي أنشئ من أجلها، مقابل فشله المطلق في ما سوى ذلك.
وعليه، سيكون أي تعاطٍ إعلامي أو بحثي مع جيش النظام في سورية على أساس أنه من مؤسّسات الدولة خطأ موضوعياً على الأقل. أما الحقيقة، فتجب قراءتها محاولةً لتسويق قوة غاشمة أجرمت بحقّ الشعب السوري، بدءاً من نهب مقدّرات الشعب من أجل الصرف عليه، مروراً بتقوية نظام قاتل فاسد، وليس انتهاء بحماية هذا النظام وسحق السوريين منذ 13 عاماً.
----------
العربي الجديد