"اليأس قريب من قلبي
ورفاقي يتدلّون عراة كحبال القنّبِ
خمس نوافذ أُغلقت الآن
فنامي أيتها الوردة!
ورفاقي يتدلّون عراة كحبال القنّبِ
خمس نوافذ أُغلقت الآن
فنامي أيتها الوردة!
خمس شواهد تنتصب الآن على نحو دموي خمس زنابق تهوي في الليلِ
ولا تصل الأرض
سلاماً أيّتها الوردةُ..
خمسة أوتاد تتلكّأ في منتصف القلب
سلاماً لي وسلاماً لبلادي
وسلاماً لملايين الأعشاش المهجورة في منتصف القلبِ
سلاماً للوردة..".
كتب القصيدة في أيلول 1975، أي بعد شهر من إعدام الرفاق، ومن ثم نشرت في ديوان مستقل عام 1980 طبعته "دار الحقائق" البيروتية وحمل نفس الاسم، فيما تصدرته العبارة التالية: "... وأما أنا فأرى أن الحرية قضية عظمى، تستحق أن يعفى الإنسان من الموت في سبيلها!". أبو عفش شاعر كبير، وربما كان من أفضل شعراء النثر في سورية، حتى لا نبخسه حقه ونكون موضوعيين في تقييمنا لإبداعه الذي شاخ وغرب مجده مع السنين؛ وقصيدته تلك، عُدت من أجمل وأصدق ما كتبه على الإطلاق؛ لذلك، منذ تلك اللحظة، اعتبرته شاعراً شجاعاً وعظيماً له حصة كبيرة في أن يصبح رمزاً أدبياً ثورياً لأجيال لاحقة، وضميراً نظيفاً للشعب السوري المظلوم والمكلوم والمفجوع طوال وجوده القسري تحت ربقة المحتل الأسدي المحلي البغيض؛ أكثر من الشعوب الأخرى المحتلة من قبل الأجنبي؛ والتي دافع عنها عفش بقصائده، وتغنى بنضالاتها وبطولاتها، واعتاش ردحاً طويلاً من وراء ذلك كشاعر ملتزم!
وما دام أنه لا يهم من أنت، بحيث لا نقف عند مسيحية أبو عفش باعتباره يسارياً علمانياً، رغم كل الإيحاءات الكنسية في أشعاره الأخيرة، بل المهم موقفه من الأحداث الجارية ورؤيته الفكرية لها؛ فلابد لنا أن نتوقف هنا ونقول إن الصدمة كانت كبيرة بالنسبة لي وللآخرين المحبين لأشعاره، بسبب عدم وقوفه مع شعبه ومناصرته لثورته من أجل الحرية الكرامة، حتى في بدايتها السلمية كما فعل يوسف عبدلكي وغيره من اليساريين الذين توقفوا فيما بعد وغيّروا مواقفهم لحجج واهية؛ إلا إذا اعتبرنا أنه لا يشاهد ولا يتابع سوى القنوات التلفزيونية الأسدية واللبنانية - الإيرانية؛ وانطلت عليه خزعبلات مقاومة حثالات الله وممانعة جرذان بوطاقة القرداحيين!
مهما ارتدى الشاعر قناع الانعزالية والانطوائية واعتمر وشاح الكسل والعطالة، فلا يمكنه أن يخرج إبداعه وفنه عن دائرة قضايا شعبه ووطنه، كما يقول الشاعر نيقولاي نيكراسوف:
كن مواطناً، اخدم الفن،
عش من أجل خير جارك،
وأخضع عبقريتك لشعور الحب الشامل...
لا يمكن التماس العذر وإيجاد التبريرات لأبو عفش، فقد تغنى بالحرية وكتب عنها كثيراً، بحيث لا تمر قصيدة له دون أن يذكرها؛ ولديه ديوان كامل باسمها "كم من البلاد أيتها الحرية"! ولكن، هنا يتبادر للذهن السؤال التالي: أية حرية كان ينشدها وينشد لها هذا العفش؟
كما للحرية معنى واحد، للجلاد أيضاً؛ وهنا لا يوجد مجازيات وتأويلات كثيرة؛ ولا يمكننا القول إن هناك جلاداً مافيوياً لكنه يقف مع دول العالم الثالث كبوتين، أو جلاداً قومياً لكنه مُعادٍ للسامية كهتلر، أو جلاداً شيوعياً نظيفاً ومفيداً كستالين؛ لنبرر له مواقفه أو نصمت على ما يفعله من جرائم قتل وتعذيب وتنكيل يندى لها ليس جبين الشعراء فحسب، بل جبين البشرية جمعاء.. انتهت تلك الأزمان الحمراء يا "رفيق" نزيه مع نهاية إمبراطوريتها السوفييتية الشمولية التي لا تزال تفوح منها، ومن وريثتها روسيا، رائحة الدم وغبار الركام والخراب: من أفغانستان، مروراً في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، وصولاً حتى سورية!
الحرية لا تتجزأ، ولا يمكن لأحد أن يأتي بحرية خاصة به، أو يقوم بتفصيل ثوري حسب مقاسه؛ فالإنسان لا يستطيع أن ينظر بهدوء إلى أم منتحبة فقدت وحيدها؛ ولا إلى أب دُمّر بيته؛ ولا إلى زوجة اعتُقل زوجها وأعدم وهي لا تعرف عن مصيره شيئاً، كرفاقك من "المنظمة الشيوعيّة العربيّة" الذين كتبت عنهم أجمل قصائدك!
إن مصير الوطن هو مصير ناسه، وليس مصيراً أنانياً لمن ينقذ نفسه بصمته، أو بغض الطرف عن جرائم عصابته الحاكمة، ويقول "دع ابن الرب يطفيها بنوره"!... أجل، لا، ولن يكون مواطناً صالحاً بروح باردة كروحك السيبيرية المسمومة... لا يمكن لمعاناة الناس ووحشية آل الأسد، أن تقفز من روح الشاعر وتبقى خارج إطار أشعاره.. أجل، يمكن للفن الراقي أن يندمج مع القناعات المدنية، والشعور بالمواطنة، والمكانة الفاعلة، والنشاط الاجتماعي..، ومع ذلك يمكنه يكون ثورياً ومدافعاً بنفس الوقت عن فقراء الخبز؛ أيها الشاعر العاري! ألا تعرف كيف يبدو الشعراء العراة في هذا الزمن؟.. إنهم وحوش بدائية كالشبيحة!
الشعر هو شأن عام مهم، بحيث لا يملك الحق في التهرب من نضال المثل العليا، ومن واجبه أن يكون حراً ويخوض المعركة ضد الاستبداد بلا خوف من أجل إسقاط رأسه الأسدي القيحي المتعفن.. يجب على الشاعر أن يكرس موهبته الشعرية لهذه المهمة، وإلا ستختفي موهبته ويفقد احترامه وشعبيته...
كان الجمهور في حالة فرح ثوري عارمة في المظاهرات.. كانت الساحات ممتلئة بالحشود ومكتظة بالناس، وهي ترقص وتغني وتهتف للحرية... ماذا يريد الشاعر أكثر وأقوى وأغنى من هذه اللوحات ليمجدها ويخلدها بقصائده؟
أذكر أنني رأيت مرة أحد الكتاب والصحفيين في حالة من النيرفان وهو يقف على الرصيف في فعاليات إحدى مظاهرات مدينة مارع بداية الثورة؛ حتى إنه لم يستطع التعبير عن حالته بعد انتهاء المظاهرة، وبقي محلقاً وروحه فتحت فمه على ابتسامة فرح ورضا لانهائيين!!
لم تقتصر هذه الحالة السامية من الشعور المُبهج على سوريي المظاهرات، وإنما بدت على الصحفيين الأجانب الذين التقيتهم وهم يغطون فعالياتها الاحتفالية الرائعة بكل رغبة وحماس.. يمكن القول إن من أراد المشاركة في الفعاليات السلمية للثورة وجد فرصة وشارك، لأنها كانت شعبية بامتياز وليست حكراً على أحد. فأنا لم أكن إسلامياً قطّ؛ وانتظرت بفارغ الصبر خروج المصلين من الجوامع حتى أدخل بين المتظاهرين وأعبّر عمّا يجول في داخلي من غليان ونهوض روحي؛ وكان هناك الكثيرون مثلي.. حتى إنني أخرجت عدة مظاهرات من المركز الثقافي.. هنا لا توجد حجج ولا مبررات ولا أعذار... الثورة نادت الجميع.. هناك من لبى النداء، وهناك من وضع في آذانه الشمع كيلا يسمع!
لا يمكن للإنسان أن يكون شاعراً وغبياً بنفس الوقت؛ إلا إذا كان أعمى ولا يرى ما يحدث. حتى الشاعر الأعمى كالمعري كان من أشجع الناس في عصره وأكثرهم حكمة وانتقاداً للموروث الديني الصنمي؛ أو كان جباناً ويخاف على نفسه كالمتنبي، الذي همّ بالهروب في معركة ضد الأمير ضبة بن يزيد الأسدي العيني بعدما هجاه بقصيدة تناولت أمه بالسوء؛ لكن خادمه ذكّره بشعره وهو في خضم المعركة: "يا سيدي كيف تهرب وأنت من قلت في قصيدتك: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم"؛ ليرجع إلى القتال وينقذ نفسه من العار؛ ثم يسقط كالرجال في ساحة المعركة!
ستبقى صغيراً وقميئاً يا عفش؛ ولن تكون بمقام العظماء كلوركا الذي أُعدم بالرصاص وهو يلقي أشعاره متغزلاً بحبيبته وحريته؛ وبقي حياً في ضمائرنا كما تنبأ هو في قصيدته "الموت الأسود": أريد أن أنامَ نصفَ ثانية
ثانيةً.. دقيقةً.. دهراً
لكننى أريدهم أن يعلموا بأننى ما زلت حياً..
ولن تكون حتى شجاعاً كالشاعر محمد بشير العاني، الذي أصر على البقاء بالقرب من مياه الفرات ليدفن زوجته أماني المريضة؛ وبعد ذلك واجه مع نجله سيوف وسكاكين الدواعش بكل بسالة. وكان آخر ما كتبه: يا أماني.. ما يخفف عني أني استطعت أن أحفر لكِ قبراً وأن أهيل التراب على جسدك الجميل..
بلى.. هذا ما يخفف عني الآن.. وأنا أراقب الأجساد المعلقات على الأعواد بانتظار شفاعة الأمهات كيما تترجّل..
هذا إن بقيت للأمهات هذه الأيام شفاعة لدى أمراء الحرب (حجّاجي) العصر..
وبالذعر البشري الذي تستطيعه روحي أفكر بالجثث المرمية في المدن والمزارع والبلدات.. جثث برؤوس وبلا رؤوس.. من سيأبه بها أكثر من القطط والكلاب الشاردة..
هل تعرف يا صاحب الضمير الأخلاقي المستتر أن العالم فيكتور فرانكنشتاين الذي قرر بناء إنسان من أشلاء الموتى، في رواية الكاتبة ماري شيلي، ومن ثم بعد تمكنه من تحقيق غايته وجد صنيعه يشبه الوحش القبيح، ما جعله يشعر بالندم؛ لذلك ربما تصحو أخيراً وتقول كلمة حق ضد الطاغية قبل أن تلفظ أنفاسك غير مأسوف عليك وأنت في حضن الوحش؛ الذي يشعر الآن بأنك صاحبه؛ وتقف في خانة المدافعين عن سفكه لدماء السوريين الأبرياء.. تباً لك يا نزيه أبو عفش ولكل اليساريين الصامتين أمثالك؛ والذين يقفون ضمنياً اليوم مع المجرم ضد ضحايانا؛ وما أكثرهم...
----------
اورينت نت
سلاماً أيّتها الوردةُ..
خمسة أوتاد تتلكّأ في منتصف القلب
سلاماً لي وسلاماً لبلادي
وسلاماً لملايين الأعشاش المهجورة في منتصف القلبِ
سلاماً للوردة..".
كتب القصيدة في أيلول 1975، أي بعد شهر من إعدام الرفاق، ومن ثم نشرت في ديوان مستقل عام 1980 طبعته "دار الحقائق" البيروتية وحمل نفس الاسم، فيما تصدرته العبارة التالية: "... وأما أنا فأرى أن الحرية قضية عظمى، تستحق أن يعفى الإنسان من الموت في سبيلها!". أبو عفش شاعر كبير، وربما كان من أفضل شعراء النثر في سورية، حتى لا نبخسه حقه ونكون موضوعيين في تقييمنا لإبداعه الذي شاخ وغرب مجده مع السنين؛ وقصيدته تلك، عُدت من أجمل وأصدق ما كتبه على الإطلاق؛ لذلك، منذ تلك اللحظة، اعتبرته شاعراً شجاعاً وعظيماً له حصة كبيرة في أن يصبح رمزاً أدبياً ثورياً لأجيال لاحقة، وضميراً نظيفاً للشعب السوري المظلوم والمكلوم والمفجوع طوال وجوده القسري تحت ربقة المحتل الأسدي المحلي البغيض؛ أكثر من الشعوب الأخرى المحتلة من قبل الأجنبي؛ والتي دافع عنها عفش بقصائده، وتغنى بنضالاتها وبطولاتها، واعتاش ردحاً طويلاً من وراء ذلك كشاعر ملتزم!
وما دام أنه لا يهم من أنت، بحيث لا نقف عند مسيحية أبو عفش باعتباره يسارياً علمانياً، رغم كل الإيحاءات الكنسية في أشعاره الأخيرة، بل المهم موقفه من الأحداث الجارية ورؤيته الفكرية لها؛ فلابد لنا أن نتوقف هنا ونقول إن الصدمة كانت كبيرة بالنسبة لي وللآخرين المحبين لأشعاره، بسبب عدم وقوفه مع شعبه ومناصرته لثورته من أجل الحرية الكرامة، حتى في بدايتها السلمية كما فعل يوسف عبدلكي وغيره من اليساريين الذين توقفوا فيما بعد وغيّروا مواقفهم لحجج واهية؛ إلا إذا اعتبرنا أنه لا يشاهد ولا يتابع سوى القنوات التلفزيونية الأسدية واللبنانية - الإيرانية؛ وانطلت عليه خزعبلات مقاومة حثالات الله وممانعة جرذان بوطاقة القرداحيين!
مهما ارتدى الشاعر قناع الانعزالية والانطوائية واعتمر وشاح الكسل والعطالة، فلا يمكنه أن يخرج إبداعه وفنه عن دائرة قضايا شعبه ووطنه، كما يقول الشاعر نيقولاي نيكراسوف:
كن مواطناً، اخدم الفن،
عش من أجل خير جارك،
وأخضع عبقريتك لشعور الحب الشامل...
لا يمكن التماس العذر وإيجاد التبريرات لأبو عفش، فقد تغنى بالحرية وكتب عنها كثيراً، بحيث لا تمر قصيدة له دون أن يذكرها؛ ولديه ديوان كامل باسمها "كم من البلاد أيتها الحرية"! ولكن، هنا يتبادر للذهن السؤال التالي: أية حرية كان ينشدها وينشد لها هذا العفش؟
كما للحرية معنى واحد، للجلاد أيضاً؛ وهنا لا يوجد مجازيات وتأويلات كثيرة؛ ولا يمكننا القول إن هناك جلاداً مافيوياً لكنه يقف مع دول العالم الثالث كبوتين، أو جلاداً قومياً لكنه مُعادٍ للسامية كهتلر، أو جلاداً شيوعياً نظيفاً ومفيداً كستالين؛ لنبرر له مواقفه أو نصمت على ما يفعله من جرائم قتل وتعذيب وتنكيل يندى لها ليس جبين الشعراء فحسب، بل جبين البشرية جمعاء.. انتهت تلك الأزمان الحمراء يا "رفيق" نزيه مع نهاية إمبراطوريتها السوفييتية الشمولية التي لا تزال تفوح منها، ومن وريثتها روسيا، رائحة الدم وغبار الركام والخراب: من أفغانستان، مروراً في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، وصولاً حتى سورية!
الحرية لا تتجزأ، ولا يمكن لأحد أن يأتي بحرية خاصة به، أو يقوم بتفصيل ثوري حسب مقاسه؛ فالإنسان لا يستطيع أن ينظر بهدوء إلى أم منتحبة فقدت وحيدها؛ ولا إلى أب دُمّر بيته؛ ولا إلى زوجة اعتُقل زوجها وأعدم وهي لا تعرف عن مصيره شيئاً، كرفاقك من "المنظمة الشيوعيّة العربيّة" الذين كتبت عنهم أجمل قصائدك!
إن مصير الوطن هو مصير ناسه، وليس مصيراً أنانياً لمن ينقذ نفسه بصمته، أو بغض الطرف عن جرائم عصابته الحاكمة، ويقول "دع ابن الرب يطفيها بنوره"!... أجل، لا، ولن يكون مواطناً صالحاً بروح باردة كروحك السيبيرية المسمومة... لا يمكن لمعاناة الناس ووحشية آل الأسد، أن تقفز من روح الشاعر وتبقى خارج إطار أشعاره.. أجل، يمكن للفن الراقي أن يندمج مع القناعات المدنية، والشعور بالمواطنة، والمكانة الفاعلة، والنشاط الاجتماعي..، ومع ذلك يمكنه يكون ثورياً ومدافعاً بنفس الوقت عن فقراء الخبز؛ أيها الشاعر العاري! ألا تعرف كيف يبدو الشعراء العراة في هذا الزمن؟.. إنهم وحوش بدائية كالشبيحة!
الشعر هو شأن عام مهم، بحيث لا يملك الحق في التهرب من نضال المثل العليا، ومن واجبه أن يكون حراً ويخوض المعركة ضد الاستبداد بلا خوف من أجل إسقاط رأسه الأسدي القيحي المتعفن.. يجب على الشاعر أن يكرس موهبته الشعرية لهذه المهمة، وإلا ستختفي موهبته ويفقد احترامه وشعبيته...
كان الجمهور في حالة فرح ثوري عارمة في المظاهرات.. كانت الساحات ممتلئة بالحشود ومكتظة بالناس، وهي ترقص وتغني وتهتف للحرية... ماذا يريد الشاعر أكثر وأقوى وأغنى من هذه اللوحات ليمجدها ويخلدها بقصائده؟
أذكر أنني رأيت مرة أحد الكتاب والصحفيين في حالة من النيرفان وهو يقف على الرصيف في فعاليات إحدى مظاهرات مدينة مارع بداية الثورة؛ حتى إنه لم يستطع التعبير عن حالته بعد انتهاء المظاهرة، وبقي محلقاً وروحه فتحت فمه على ابتسامة فرح ورضا لانهائيين!!
لم تقتصر هذه الحالة السامية من الشعور المُبهج على سوريي المظاهرات، وإنما بدت على الصحفيين الأجانب الذين التقيتهم وهم يغطون فعالياتها الاحتفالية الرائعة بكل رغبة وحماس.. يمكن القول إن من أراد المشاركة في الفعاليات السلمية للثورة وجد فرصة وشارك، لأنها كانت شعبية بامتياز وليست حكراً على أحد. فأنا لم أكن إسلامياً قطّ؛ وانتظرت بفارغ الصبر خروج المصلين من الجوامع حتى أدخل بين المتظاهرين وأعبّر عمّا يجول في داخلي من غليان ونهوض روحي؛ وكان هناك الكثيرون مثلي.. حتى إنني أخرجت عدة مظاهرات من المركز الثقافي.. هنا لا توجد حجج ولا مبررات ولا أعذار... الثورة نادت الجميع.. هناك من لبى النداء، وهناك من وضع في آذانه الشمع كيلا يسمع!
لا يمكن للإنسان أن يكون شاعراً وغبياً بنفس الوقت؛ إلا إذا كان أعمى ولا يرى ما يحدث. حتى الشاعر الأعمى كالمعري كان من أشجع الناس في عصره وأكثرهم حكمة وانتقاداً للموروث الديني الصنمي؛ أو كان جباناً ويخاف على نفسه كالمتنبي، الذي همّ بالهروب في معركة ضد الأمير ضبة بن يزيد الأسدي العيني بعدما هجاه بقصيدة تناولت أمه بالسوء؛ لكن خادمه ذكّره بشعره وهو في خضم المعركة: "يا سيدي كيف تهرب وأنت من قلت في قصيدتك: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم"؛ ليرجع إلى القتال وينقذ نفسه من العار؛ ثم يسقط كالرجال في ساحة المعركة!
ستبقى صغيراً وقميئاً يا عفش؛ ولن تكون بمقام العظماء كلوركا الذي أُعدم بالرصاص وهو يلقي أشعاره متغزلاً بحبيبته وحريته؛ وبقي حياً في ضمائرنا كما تنبأ هو في قصيدته "الموت الأسود": أريد أن أنامَ نصفَ ثانية
ثانيةً.. دقيقةً.. دهراً
لكننى أريدهم أن يعلموا بأننى ما زلت حياً..
ولن تكون حتى شجاعاً كالشاعر محمد بشير العاني، الذي أصر على البقاء بالقرب من مياه الفرات ليدفن زوجته أماني المريضة؛ وبعد ذلك واجه مع نجله سيوف وسكاكين الدواعش بكل بسالة. وكان آخر ما كتبه: يا أماني.. ما يخفف عني أني استطعت أن أحفر لكِ قبراً وأن أهيل التراب على جسدك الجميل..
بلى.. هذا ما يخفف عني الآن.. وأنا أراقب الأجساد المعلقات على الأعواد بانتظار شفاعة الأمهات كيما تترجّل..
هذا إن بقيت للأمهات هذه الأيام شفاعة لدى أمراء الحرب (حجّاجي) العصر..
وبالذعر البشري الذي تستطيعه روحي أفكر بالجثث المرمية في المدن والمزارع والبلدات.. جثث برؤوس وبلا رؤوس.. من سيأبه بها أكثر من القطط والكلاب الشاردة..
هل تعرف يا صاحب الضمير الأخلاقي المستتر أن العالم فيكتور فرانكنشتاين الذي قرر بناء إنسان من أشلاء الموتى، في رواية الكاتبة ماري شيلي، ومن ثم بعد تمكنه من تحقيق غايته وجد صنيعه يشبه الوحش القبيح، ما جعله يشعر بالندم؛ لذلك ربما تصحو أخيراً وتقول كلمة حق ضد الطاغية قبل أن تلفظ أنفاسك غير مأسوف عليك وأنت في حضن الوحش؛ الذي يشعر الآن بأنك صاحبه؛ وتقف في خانة المدافعين عن سفكه لدماء السوريين الأبرياء.. تباً لك يا نزيه أبو عفش ولكل اليساريين الصامتين أمثالك؛ والذين يقفون ضمنياً اليوم مع المجرم ضد ضحايانا؛ وما أكثرهم...
----------
اورينت نت