النصّ، الذي يتوجب أن يكون مستنكَراً على أصعدة شتى، يقول التالي: «تعتبر الرئاسةُ حركةَ حماس، بتهرّبها من الوحدة الوطنية، وتقديم الذرائع المجانية لدولة الاحتلال، شريكاً في تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة بكل ما تتسبب به من معاناة ودمار وقتل لشعبنا». ويضيف: «تدعو الرئاسة حركة حماس إلى تغليب المصالح الوطنية العليا ونزع الذرائع من يد الاحتلال بغية وقف هذه المذبحة المفتوحة بحقّ شعبنا».
الذي صاغ بيان رئاسة «المقاطعة» توقف عند هذا الدرك من المساواة بين الضحية والجلاد، بخصوص مجزرة مواصي خان يونس تحديداً، فلم يُكمل نصاب تحميل المسؤولية بالإفصاح عن كيفية «نزع الذرائع» من الاحتلال: عن طريق استسلام المقاومة الفلسطينية، وتسليم أسلحتها، ورفع الراية البيضاء (تماماً كما يطالب البيت الأبيض) مثلاً؟ أم عن طريق جلب «المقاطعة» إلى القطاع، كي تمارس أجهزتها ذات «السلطة» التي تمارسها في جنين ونابلس وطولكرم كلما اجتاحها الاحتلال وعاث فيها تقتيلاً وتدميراً؟
لكنّ بيان الرئاسة لا يمتشق (واستخدام هذا الفعل العنتري، بالذات، مقصود بالطبع) مفردةً واحدة عن تحمّل مسؤوليات قانونية وأخلاقية وسياسية عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي تُرتكب يومياً في الضفة الغربية، نابلس وجنين وطولكرم وعشرات البلدات والقرى الفلسطينية؛ بالنظر إلى أنّ سلطة عباس، وليس «حماس» هي التي «تحكم» فيها، حتى على مستوى شرطة لا حول لها ولا طول أمام جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
وهذه سطور لا تُعفي حركة «حماس» من أخطاء شتى، وطنية وسياسية وعقائدية وحقوقية، بعضها ارتقى إلى مصافّ الإجرام بحقّ الشعب الفلسطيني وقضيته؛ لكنّ موازين حساب كهذا لا يصحّ، أخلاقياً أوّلاً ثمّ سياسياً وعقلياً، أن تبلغ شأو وضع الحركة مع الاحتلال الإسرائيلي تحت معيار واحد، متماثل وجامد وصوري. وأياً كانت مقادير الصواب والخطأ في حسابات «حماس» فجر 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وهذا ملفّ استحقاقات يتوجب على الحركة أن تجابه أسئلتها وتجيب عنها؛ فإنها ليست البتة عتبة لتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من أيّ وكلّ جريمة حرب وانتهاك ومجزرة شهدها القطاع، خلال الأشهر الثمانية من حرب الإبادة الإسرائيلية.
والحال أنّ بيان سلطة رام الله يعيد التشديد على حقيقة أنّ عباس بدأ من طينة قيادي فتحاوي تصادف أنه ورث الانتفاضة الأولى من الراحل خليل الوزير (أبو جهاد) فحوّلها من حركة مقاومة إلى جهاز بيروقراطي؛ ومن طينة قيادي أكسبته «الواقعية» و«الذرائعية» حظوة خاصة لدى واشنطن وتل أبيب، فصار رئيس الوزراء الذي دخل مع عرفات في معركة مفتوحة شاملة: من اشتراطات ريشارد أرميتاج، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، حول ضرورة أن يكون الإشراف على المؤسسات الأمنية الفلسطينية منحصراً في يد عباس وحده؛ إلى الموقف الرسمي الفلسطيني ممّا تبقى من «عملية السلام» والعلاقة مع الولايات المتحدة والمحيط العربي والإقليمي والدولي، والشرعية الوطنية ذاتها…
ولقد توجّب أن يستولد المجتمع الإسرائيلي نموذج بنيامين نتنياهو، بعد أمثال إسحق رابين وشمعون بيريس وإيهود باراك وإيهود أولمرت، كي يُردّ عباس إلى طينة «مَنْ يَهُنْ، يسهل الهوان عليه». وهذه سطور لا تخوّن أحداً، بالطبع، ليس لأنّ التخوين أمر جلل فحسب؛ بل جوهرياً لأنّ مفهوم «الخيانة» ذاته قد تبدّلت مستوياته الاصطلاحية والدلالية. الأمر، من وجهة نظر وقائعية صرفة، ينطوي على لائحة ليست بالقصيرة، من مواقف الخنوع أو التراجع أو إساءة التقدير وسوء اتخاذ القرار؛ وبالتالي لم تكن مسؤولية عباس عن تأجيل مناقشة تقرير غولدستون، مثلاً، سوى واقعة بين عشرات ضمن منهج عتيق متواصل، ومتأصل.
أو، في مثال ثانٍ، كيف يُنسى تفاؤله الأسطوري، الذي ظلّ يُحسد عليه حقاً في كلّ دائرة دبلوماسية على وجه الأرض، من أنّ عملية السلام مع الإسرائيليين سوف تبلغ نهايتها السعيدة، بما في ذلك حلّ القضايا العالقة مثل القدس والمستوطنات واللاجئين، أو حتى ولادة الدولة الفلسطينية؛ قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن؟ وكيف يُنسى توصيفه للسفن الأجنبية الساعية إلى كسر الحصار على غزّة، والتي كان يتواجد على متنها عدد من خيرة أصدقاء القضية الفلسطينية في العالم، بأنها «لعبة سخيفة»؟
وهذه السطور ذاتها، ولأنّ كاتبها مواطن سوري في مقام جوهري من مساءلة عباس وسلطته، تستعيد مواقفه على سبيل تبرئة النظام السوري من الفظائع التي شهدها مخيم اليرموك الفلسطيني، في ظاهر دمشق، طوال أكثر من 18 شهراً ابتداء من ربيع 2011؛ وذاك حصار «يرقى إلى جريمة حرب» حسب نافي بيلاي، رئيسة مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. يومها اعتبر عباس أنّ الضحايا المحاصَرين، وليس القتلة المحاصِرين، هم «خَوَنة للقضية» و«أيدي قذرة مستأجرة»؛ وأنه «إذا أراد الفلسطينيون أن يقاتلوا، معروف أين يقاتلون وليس في اليرموك».
أين يقاتلون، مثلاً؟ في الضفة الغربية، كي تعتقلهم السلطة؟ أم في قطاع غزة، كي تتحمل «حماس» مسؤولية ما يُرتكب ضدهم من مجازر وجرائم حرب؟ وإذا كانوا، في اليرموك، من جماعة «المبلغ المدفوع لهم أكبر من الخروج من المخيم» كما عبّر عباس؛ فمَن الذي سيدفع لهم أكثر، كي ينتقلوا إلى أمكنة «معروفة» امتنع عباس عن تسميتها؟ وهل كان غافلاً، حقاً، عن حقيقة أنّ تصريحاته تلك تتطابق مع خطاب النظام السوري الرسمي، حول الفلسطينيين بوصفهم «ضيوفاً في الدول العربية» ويتوجب على الضيف «أن يحترم أصول الضيافة»؟
ولقد تناسى عباس أنّ تلك «الأيدي القذرة المستأجَرة» لم تكن تمتلك حوّامات تقصف المخيّم بالبراميل المتفجرة؛ وأنّ غالبية منظمات الإغاثة الأممية والدولية شهدت بأنّ النظام السوري، وليس «الخونة للقضية» هو الذي تعمد عرقلة إيصال الإمدادات الغذائية والطبية إلى المخيّم؟ كما تجاهل تصريحات مندوبه إلى النظام، أحمد مجدلاني القيادي في «جبهة النضال الشعبي» الذي جزم بأنّ «داعش» و«جبهة النصرة» وراء «تشريد نحو 360 ألف لاجئ فلسطيني من 11 مخيماً، و3 تجمعات للاجئين» منذ أواخر 2012.
وإذا صحّ أنّ الفوارق/ المطابقات بين جرائم حرب النظام السوري في مخيم اليرموك، وجرائم الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس وسائر قطاع غزّة، عديدة ونوعية؛ فليس أقلّ صحّة أنّ قراءتها بمنظار سلطة رام الله يمكن أن تقرّب بينها كثيراً، لجهة علاقات القاتل والضحية في المقام الأوّل.
--------------
القدس العربي
الذي صاغ بيان رئاسة «المقاطعة» توقف عند هذا الدرك من المساواة بين الضحية والجلاد، بخصوص مجزرة مواصي خان يونس تحديداً، فلم يُكمل نصاب تحميل المسؤولية بالإفصاح عن كيفية «نزع الذرائع» من الاحتلال: عن طريق استسلام المقاومة الفلسطينية، وتسليم أسلحتها، ورفع الراية البيضاء (تماماً كما يطالب البيت الأبيض) مثلاً؟ أم عن طريق جلب «المقاطعة» إلى القطاع، كي تمارس أجهزتها ذات «السلطة» التي تمارسها في جنين ونابلس وطولكرم كلما اجتاحها الاحتلال وعاث فيها تقتيلاً وتدميراً؟
لكنّ بيان الرئاسة لا يمتشق (واستخدام هذا الفعل العنتري، بالذات، مقصود بالطبع) مفردةً واحدة عن تحمّل مسؤوليات قانونية وأخلاقية وسياسية عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي تُرتكب يومياً في الضفة الغربية، نابلس وجنين وطولكرم وعشرات البلدات والقرى الفلسطينية؛ بالنظر إلى أنّ سلطة عباس، وليس «حماس» هي التي «تحكم» فيها، حتى على مستوى شرطة لا حول لها ولا طول أمام جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
وهذه سطور لا تُعفي حركة «حماس» من أخطاء شتى، وطنية وسياسية وعقائدية وحقوقية، بعضها ارتقى إلى مصافّ الإجرام بحقّ الشعب الفلسطيني وقضيته؛ لكنّ موازين حساب كهذا لا يصحّ، أخلاقياً أوّلاً ثمّ سياسياً وعقلياً، أن تبلغ شأو وضع الحركة مع الاحتلال الإسرائيلي تحت معيار واحد، متماثل وجامد وصوري. وأياً كانت مقادير الصواب والخطأ في حسابات «حماس» فجر 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وهذا ملفّ استحقاقات يتوجب على الحركة أن تجابه أسئلتها وتجيب عنها؛ فإنها ليست البتة عتبة لتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من أيّ وكلّ جريمة حرب وانتهاك ومجزرة شهدها القطاع، خلال الأشهر الثمانية من حرب الإبادة الإسرائيلية.
والحال أنّ بيان سلطة رام الله يعيد التشديد على حقيقة أنّ عباس بدأ من طينة قيادي فتحاوي تصادف أنه ورث الانتفاضة الأولى من الراحل خليل الوزير (أبو جهاد) فحوّلها من حركة مقاومة إلى جهاز بيروقراطي؛ ومن طينة قيادي أكسبته «الواقعية» و«الذرائعية» حظوة خاصة لدى واشنطن وتل أبيب، فصار رئيس الوزراء الذي دخل مع عرفات في معركة مفتوحة شاملة: من اشتراطات ريشارد أرميتاج، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، حول ضرورة أن يكون الإشراف على المؤسسات الأمنية الفلسطينية منحصراً في يد عباس وحده؛ إلى الموقف الرسمي الفلسطيني ممّا تبقى من «عملية السلام» والعلاقة مع الولايات المتحدة والمحيط العربي والإقليمي والدولي، والشرعية الوطنية ذاتها…
ولقد توجّب أن يستولد المجتمع الإسرائيلي نموذج بنيامين نتنياهو، بعد أمثال إسحق رابين وشمعون بيريس وإيهود باراك وإيهود أولمرت، كي يُردّ عباس إلى طينة «مَنْ يَهُنْ، يسهل الهوان عليه». وهذه سطور لا تخوّن أحداً، بالطبع، ليس لأنّ التخوين أمر جلل فحسب؛ بل جوهرياً لأنّ مفهوم «الخيانة» ذاته قد تبدّلت مستوياته الاصطلاحية والدلالية. الأمر، من وجهة نظر وقائعية صرفة، ينطوي على لائحة ليست بالقصيرة، من مواقف الخنوع أو التراجع أو إساءة التقدير وسوء اتخاذ القرار؛ وبالتالي لم تكن مسؤولية عباس عن تأجيل مناقشة تقرير غولدستون، مثلاً، سوى واقعة بين عشرات ضمن منهج عتيق متواصل، ومتأصل.
أو، في مثال ثانٍ، كيف يُنسى تفاؤله الأسطوري، الذي ظلّ يُحسد عليه حقاً في كلّ دائرة دبلوماسية على وجه الأرض، من أنّ عملية السلام مع الإسرائيليين سوف تبلغ نهايتها السعيدة، بما في ذلك حلّ القضايا العالقة مثل القدس والمستوطنات واللاجئين، أو حتى ولادة الدولة الفلسطينية؛ قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن؟ وكيف يُنسى توصيفه للسفن الأجنبية الساعية إلى كسر الحصار على غزّة، والتي كان يتواجد على متنها عدد من خيرة أصدقاء القضية الفلسطينية في العالم، بأنها «لعبة سخيفة»؟
وهذه السطور ذاتها، ولأنّ كاتبها مواطن سوري في مقام جوهري من مساءلة عباس وسلطته، تستعيد مواقفه على سبيل تبرئة النظام السوري من الفظائع التي شهدها مخيم اليرموك الفلسطيني، في ظاهر دمشق، طوال أكثر من 18 شهراً ابتداء من ربيع 2011؛ وذاك حصار «يرقى إلى جريمة حرب» حسب نافي بيلاي، رئيسة مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. يومها اعتبر عباس أنّ الضحايا المحاصَرين، وليس القتلة المحاصِرين، هم «خَوَنة للقضية» و«أيدي قذرة مستأجرة»؛ وأنه «إذا أراد الفلسطينيون أن يقاتلوا، معروف أين يقاتلون وليس في اليرموك».
أين يقاتلون، مثلاً؟ في الضفة الغربية، كي تعتقلهم السلطة؟ أم في قطاع غزة، كي تتحمل «حماس» مسؤولية ما يُرتكب ضدهم من مجازر وجرائم حرب؟ وإذا كانوا، في اليرموك، من جماعة «المبلغ المدفوع لهم أكبر من الخروج من المخيم» كما عبّر عباس؛ فمَن الذي سيدفع لهم أكثر، كي ينتقلوا إلى أمكنة «معروفة» امتنع عباس عن تسميتها؟ وهل كان غافلاً، حقاً، عن حقيقة أنّ تصريحاته تلك تتطابق مع خطاب النظام السوري الرسمي، حول الفلسطينيين بوصفهم «ضيوفاً في الدول العربية» ويتوجب على الضيف «أن يحترم أصول الضيافة»؟
ولقد تناسى عباس أنّ تلك «الأيدي القذرة المستأجَرة» لم تكن تمتلك حوّامات تقصف المخيّم بالبراميل المتفجرة؛ وأنّ غالبية منظمات الإغاثة الأممية والدولية شهدت بأنّ النظام السوري، وليس «الخونة للقضية» هو الذي تعمد عرقلة إيصال الإمدادات الغذائية والطبية إلى المخيّم؟ كما تجاهل تصريحات مندوبه إلى النظام، أحمد مجدلاني القيادي في «جبهة النضال الشعبي» الذي جزم بأنّ «داعش» و«جبهة النصرة» وراء «تشريد نحو 360 ألف لاجئ فلسطيني من 11 مخيماً، و3 تجمعات للاجئين» منذ أواخر 2012.
وإذا صحّ أنّ الفوارق/ المطابقات بين جرائم حرب النظام السوري في مخيم اليرموك، وجرائم الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس وسائر قطاع غزّة، عديدة ونوعية؛ فليس أقلّ صحّة أنّ قراءتها بمنظار سلطة رام الله يمكن أن تقرّب بينها كثيراً، لجهة علاقات القاتل والضحية في المقام الأوّل.
--------------
القدس العربي