وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الجهود الكبيرة التي بذلت من طرف الإيرانيين والسلطة الأسدية لتحريك الأوضاع ضد الوجود الأمريكي في منطقة شرق الفرات، والعمل على إنهاء ذلك الوجود لصالح الأجندات الإيرانية في المقام الأول. غير أن الإشارة إلى هذه الجهود ليس معناه تجاهل النزعة التحكمية من جانب «قسد» في الإدارة والموارد عبر شبكة من كوادر حزب العمال الكردستاني غير السوريين على الأغلب. وهذه النزعة تعتبر حالة عامة متناغمة مع طبيعة الحزب المذكور التي تذكرنا بطبيعة «حزب الله» في لبنان على سبيل المثال. فما يفعله هذا الحزب في المناطق الكردية السورية يتطابق تماماً مع ما هو عليه الحال في منطقة دير الزور، بل ويفعل الأسوأ. والمعروف عن كوادر قنديل أنهم لا يظهرون أمام الإعلام، ولا يتحركون كثيراً في الفضاء العام؛ إلا أنهم هم الذين يتخذون القرارات في الغرف المغلقة، بينما تُترك مهام الإعلان عنها للواجهات الكردية السورية في «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي يظل مجرد غطاء سوري، لا تستطيع قياداته وعناصره التصرف في أي شيء أو اتخاذ أي قرار من دون موافقة كوادر «حزب العمال الكردستاني».
ومع توقف معارك منطقة دير الزور بعد تدخل أمريكي من وراء الستار، أوعز بضرورة تهدئة الأمور، أعلن مظلوم عبدي أنهم في «قسد» سيأخذون مطالب العشائر بعين الاعتبار، وسيجرون بعض التعديلات في بنية المجلس العسكري والمؤسسات الخاصة بـ «الإدارة الذاتية» في منطقة دير الزور لتصبح الأمور مقبولة إلى حد ما من قبل الناس هناك.
ومن بين التساؤلات التي طرحت بخصوص أحداث دير الزور أنها جاءت مع انطلاقة انتفاضة السويداء، ما دفع ببعض المحللين إلى القول بأن تلك الأحداث كانت محاولة من محاولات للتغطية على أخبار فعاليات السويداء، وذلك لقطع الطريق أمام أي إمكانية لتفاعل السوريين في منطقة الفرات معها بالاعتصامات والمظاهرات ومختلف أشكال الدعم والمساندة.
أما الحدث الثاني الذي كانت ساحته المناطق الكردية السورية في محافظة الحسكة المتاخمة للحدود التركية، فقد كان على إثر تبني حزب العمال الكردستاني لعملية أنقرة المخابراتية التي استهدفت بوابة مديرية الأمن الداخلي في العاصمة التركية أنقرة بتاريخ 1-10-2023، وتأكيد الحكومة التركية بأن منفذي العملية قد قدما من سوريا، وهو الأمر الذي اعتمدته الحكومة المعنية مسوغاً لضرب مواقع وقواعد «قسد» على طول الشريط الحدودي إلى جانب قصف مؤسسات الكهرباء والمياه والطاقة والبنية التحتية الهشة أصلا في تلك المنطقة. وكان اللافت هذه المرة أيضا هو الموقف الأمريكي المرن، إن لم نقل الغائب، من القصف التركي؛ وهو الأمر الذي فُسّر بوجود تفاهمات بين الولايات المتحدة المتحدة وتركيا حول موضوع القصف، حتى تمكنت هذه الأخيرة من تنفيذ ضربات جوية بالمسيرات، وعلى مدى أيام، ومن دون صدور أي موقف أمريكي واضح قوي يدعو إلى ضرورة وقف القصف على القوات التي يعتبرها الجانب الأمريكي شريكه الأساسي في المعارك ضد داعش في سوريا.
وجاء الحدث الثالث في صيغة هجوم المسيرات على خريجي الكلية الحربية وذويهم في حمص بتاريخ 6-10-2023، وذلك أثناء احتفال التخرج. ومن بين التساؤلات الكثيرة التي تناولت هذا الهجوم هو أنه بدأ بعد مغادرة وزير الدفاع والمحافظ وعدد من المسؤولين لميدان الاحتفال بدقائق، فهل كان ذلك محض صدفة؟ أم أن ما حصل كان جزءاً من الخطة المعتمدة من قبل الجهة الآمرة أو المستفيدة؟
كُتب الكثير حول الجهة التي أمرت بالهجوم على الكلية الحربية وأهدافها، وقدمت تحليلات متعارضة بشأنها، منها ما اتهمت الروس، ومنها ما اتهمت الإيرانيين. وهناك من أتهم سلطة بشار الأسد؛ بينما سارعت هذه الأخيرة إلى اتهام المعارضة. وكل هذه الاتهامات كانت مبنية على تحليلات رغبوية في غالب الأحيان، لا تستند إلى وقائع ملموسة أو معطيات دامغة. فأصحاب اتهام الروس بالعملية، وجدوا فيها رسالة روسية موجهة للسلطة مفادها أنها ما زالت في حاجة إلى الروس الذين كان في مقدروهم، وفق منظور أصحاب هذا التحليل، منع الهجمات المعنية بفعل أنظمة الرادار المتطورة التي يمتلكونها في المنطقة، ومن خلال شبكة الدفاع الجوي المتقدمة التي يمكنهم استخدامها في حال وجود رغبة في منع ما حدث.
أما بالنسبة إلى أنصار نظرية مسؤولية النظام الإيراني عن الجريمة، فهم يرون أن فحوى الرسالة الإيرانية لبشار الأسد وأعوانه هو: ليس في استطاعة الروس توفير الحماية لكم؛ وإنما نحن من أن يوفروا لكم الحماية؛ وإنما نحن من يمكنه ذلك، ففي قدرتنا توجيه الضربة التي نريد، في الوقت الذي نريد، وفي المكان الذي نريد.
أما حجة القائلين بكون السلطة الأسدية هي الجهة التي خططت ونفذت الهجوم على الكلية الحربية فهي مبنية على كونها الجهة المستفيدة بصورة أساسية من الهجوم المذكور. فقد أرادت السلطة المعنية، وفق أنصار هذا التفسير، من خلال هذا الهجوم شد العصب الطائفي، وتجييش الطائفة لتقف إلى جانبها، وذلك عبر التلويح بمخاطر العمليات الانتقامية التي يمكن أن تتعرض لها إذا ما فكرت في الابتعاد عن بشار الأسد وسلطته، خاصة بعد صدور أصوات من الساحل عبّرت صراحة عن امتعاض محتقن ضمن صفوف العلويين احتجاجاً على استغلال سلطة آل الأسد للطائفة، ووضعها في خدمة أجنداتها التي لا تخدم السوريين بصورة عامة والعلويين على وجه التخصيص، بل لقد كلف ذلك الطائفة عدداً كبيراً من الضحايا، وتسبب في فرض ظروف معيشية بائسة على غالبية أوساطها، مقابل تراكم ثروات جماعة السلطة عبر السرقات وتجارة الممنوعات لا سيما المخدرات.
وكان من اللافت ارتفاع الأصوات الاحتجاجية في المنطقة الساحلية بعد اندلاع انتفاضة السويداء، وهي الانتفاضة التي فضحت مزاعم السلطة حول حمايتها للأقليات من خطر الإرهاب الإسلاموي؛ وكل ذلك وضع السلطة الأسدية في موقع المستعد للإقدام على فعل أي شيء حفاظاً على استمرارية الفساد المسلح بالاستبداد.
أما اتهام السلطة للمعارضة بمسؤولية جريمة الكلية الحربية، فهو جزء من الخطاب القديم-الجديد المضلّل الذي اعتمدته السلطة المعنية لتسويق نفسها لدى المجتمع الدولي بوصفها أهون الشرين مقارنة مع مخاطر الإرهاب. ولعل هذا ما يفسر إقدام قوات بشار الأسد ورعاته على قصف الشمال الغربي من سوريا، بحجة محاربة الإرهاب، بينما نرى أن جل الضحايا هم من النساء والأطفال وكبار السن والمدنيين.
وفي هذا السياق ذاته لا يمكن الفصل بينما جرى ويجري في غزة وما يحصل في سوريا. فبعد عملية «طوفان الأقصى» النوعية التي قامت بها حماس، والرد الإسرائيلي العنيف المستمر عليها، يُطرح السؤال المشروع التالي: هل تستطيع قيادة حماس استثمار النتائج الميدانية لعمليتها غير المسبوقة على المستوى السياسي، وذلك في ظل واقع الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، والانشغال والانقسام وتعددية الأولويات على الصعيد العربي، والتغلغل الإيراني في كل من سوريا ولبنان والعراق؛ هذا إلى جانب الاصطفافات الدولية الجديدة نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، والإدانة الغربية الحاسمة لعملية حماس لأسباب عدة لا تسمح المساحة المكانية المتاحة هنا تناولها بتفصيلاتها؟
من الواضح أن المستفيد سيكون النظام الإيراني الذي سيسعى من أجل قطف الثمار، وتوظيفها بأشكال مختلفة في مفاوضاته وصفقاته مع دول الغرب عموماً، ومع الولايات المتحدة تحديداً؛ ومن دون شك سينعكس هذا الأمر بهذه الصيغة أو تلك على مصير سلطة آل الأسد أيضاً. وكل ذلك سيكون وفق اعتبارات وحسابات مصالح نظام ولي الفقيه الذي قد يكون مستعداً للتضحية بحماس نفسها، إذا كان ذلك يضمن له موقعا متقدما بين القوى التي سيكون لها دور أساسي في إعادة صياغة المعادلات الإقليمية وفق المستجدات الجديدة على مستوى منطقتنا والعالم.
وضمن هذا الإطار يمكننا القول: إن التحركات والتدخلات والعمليات المخابراتية التي كانت، وستكون، على الأرض السورية، تندرج ضمن إطار تسابق القوى المتنافسة، بل المتصارعة في المنطقة وعليها، لتسجيل أكبر عدد من النقاط استعداداً لصرفها على طاولة المفاوضات السرية الجارية، والعلنية المقبلة، وهي المفاوضات التي ستحدد نتائجها ملامح المنطقة على مدى العقود الآتية.
------------
القدس العربي
*كاتب وأكاديمي سوري.