تطورات الحرب الأوكرانية تُنذِر بأننا على وشك دخول حرب بلا قواعد بين روسيا ودول حلف الناتو بقيادتها الأميركية. قواعد الحرب التقليدية ستزول إذا دخلنا مرحلة اللاعودة واستحالة التراجع والتي نحن على اقتراب مرعب منها.
رزمة المساعدات العسكرية التي أقرّتها هذا الأسبوع إدارة الرئيس جو بايدن وألمانيا وبريطانيا وكندا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بمساهمات من دول غير أعضاء في الناتو إنما هي رزمة معقّدة مركّبة تتعدّى الدبابات التي بمفردها تشكّل نقلة نوعية في حرب روسيا على أوكرانيا.
وللمواعيد أهمية في هذا المنعطف ليس فقط لجهة تسليم الصواريخ والدبابات والذخيرة الى أوكرانيا، وإنما أيضاً لجهة الاستعدادات الروسية والأوكرانية لعمليات هجومية حاسمة في الشهرين المقبلين. فشهر آذار (مارس) يَعِد بأن يكون مشتعِلاً في الاستراتيجيات الهجومية لكل من روسيا وأوكرانيا ودول حلف شمال الأطلسي.
حينذاك ستحلّ الحرب الساخنة مكان الحرب الباردة بسبب الاختلاف الجذري في موازين الحرب الروسية على أوكرانيا، وحرب الناتو مع روسيا. فالمسألة تعدّت الانتصار بجولة أو بمعركة. انها حرب البقاء Survival بين روسيا والناتو ولم تعد حصراً حرب الهزيمة والانتصار بين روسيا وأوكرانيا.
مَن سيفوز بمبادرة العمليات الهجومية في شهر آذار (مارس)؟ هذا هو السباق بعينه في ظل استحالة أية مبادرات دولية للحلول السياسية وفي ظِل الانهيار الفعلي للآليات الدولية التي كان يُفتَرض أن تلعب دور الميكانيزم الوقائي من مثل هذا التدهور الخطير. فالأمم المتحدة ووكالاتها المختصة باتت منزوعة الفعالية والتأثير. حتى إنشائيّاً، أن الأمم المتحدة اليوم منظمة دولية فاشلة سياسياً وضميرياً.
يتوقع الخبراء العسكريون المطلِعون على استراتيجيات روسيا والغرب في الحرب الأوكرانية احتدام المعارك في شهر شباط (فبراير) بلا هوادة. ومع اقتراب مواعيد تسليم الدبابات وغيرها من الرزمات العسكرية الى أوكرانيا، يزداد احتمال تحوّل الحرب بين روسيا وأوكرانيا الى حرب مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، أي الى حرب عالمية ثالثة.
مفاتيح مثل هذا التطوّر المرعب عديدة من بينها بولندا التي تلعب دوراً محوريّاً كمحطة ضرورية لإيصال المساعدات العسكرية النوعية من حلف الناتو الى الحكومة الأوكرانية. إقدام روسيا على توجيه ضربة عسكرية الى بولندا يعني عملياً المخاطرة ببدء الحرب العالمية الثالثة. فحلف الناتو بموجب المادة الخامسة مُلزَم قانونياً بتوجيه ضربات عسكرية ضد الدولة التي تعتدي على أي عضو في حلف شمال الأطلسي.
مثال آخر على توسيع رقعة تطويق القدرات العسكرية الروسية يأتي من أستونيا التي أعلنت مؤخراً أنها تدرس إنشاء منطقة مجاورة لإغلاق خليج فنلندا في وجه روسيا في خطوة تعزل سانت بطرسبورغ. أستونيا عضو في حلف الناتو فيما فنلندا تعتزم الانضمام اليه، وهما قادرتان بمساعدة دول أخرى في الناتو، على عرقلة العمل في ميناء سانت بطرسبورغ، وهو الميناء الأكبر في روسيا وبحر البلطيق. وزارة الخارجية الروسية طردت سفير أستونيا هذا الأسبوع احتجاجاً على تصرفات السلطات في أستونيا التي كانت سابقاً ضمن الاتحاد السوفياتي وهي اليوم تعلن تزويد أوكرانيا بحزمة مساعدات عسكرية بقيمة 113 مليون يورو هي الأكبر في تاريخها تساوي واحداً في المئة من ناتجها الإجمالي، بحسب السفير الأستوني.
ثم هناك عنصر آخر فائق الأهمية في معادلة احتواء المواجهات وبناء الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا والمعروف بـ”معاهدة ستارت” لتخفيض الأسلحة النووية وغيرها من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. ففي نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أجّلت موسكو لأجل غير مسمى الاجتماع الذي كان مزمعاً عقده مع واشنطن في القاهرة لمناقشة إمكانية استئناف عمليات التفتيش بموجب معاهدة “نيو ستارت” الموقعة عام 2010. وفي الأسبوع الماضي، وبعد مرور ثلاثة أشهر على تأجيل ذلك الاجتماع، أكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أن الوضع الحالي للعلاقات الروسية – الأميركية لا يسمح بعد بمثل هذا اللقاء قائلاً إن الولايات المتحدة تواصل “استفزاز” روسيا وإن “رد فعلنا في مرحلة ما سيؤدّي الى نوع من الانهيار”. وكانت الناطقة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد قالت سابقاً إن محادثات الحد من التسلح لا يمكن فصلها من “الحقائق الجيوسياسية”.
معاهدة ستارت وُلِدَت من أجل الاحتواء في زمن الحرب الباردة. انهيار المعاهدة اليوم ينذر بخطر نشوب حرب نووية بين واشنطن وموسكو في حرب ساخنة قد لا تتوقف على الشفير كما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. مهلة هذه الاتفاقية تنتهي في شباط (فبراير) 2026 لكن المخاوف النووية ترافق الحرب الأوكرانية وترافق الرفض الروسي العودة الى المحادثات وكذلك رفض موسكو السماح بتفتيش مواقعها النووية والذي هو حق للولايات المتحدة بموجب ستارت.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
موافقة الرئيس جو بايدن على تزويد أوكرانيا بـ31 دبابة من طراز “أبرامز” أتت تشجيعاً لألمانيا بتزويد كييف بدبابات “ليوبارد 2” فيما تقوم بريطانيا بتدريب القوات الأوكرانية على استخدام دبابات “تشالنجر 2″، الى جانب إعلانات مشابهة من النروج وغيرها فيما وصفته أوكرانيا بـ”حلف الدبابات الكبير”.
رزمة الأسلحة الهجومية لا تقتصر على مئات الدبابات وإنما تشمل حوالى 1100 قطعة من الصواريخ والمسيّرات وغيرها، الى جانب مشاركة دول غير تابعة لحلف الناتو في توفير ما يلزم. فإيطاليا، مثلاً، ساهمت ليس فقط بما لديها وإنما أيضاً بمسيّرات إسرائيلية. وهكذا نحن اليوم نشهد منافسة إيرانية – إسرائيلية في مستوى المسيّرات التي تُستَخدم في الحرب الأوكرانية علماً أن روسيا تعتمد كثيراً على المسيّرات الإيرانية التي قلبت العلاقات الغربية – الإيرانية رأساً على عقب وأثّرت سلباً على مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاقية النووية مع طهران.
الأمم المتحدة انتقدت بلطف إدخال الدبابات الثقيلة عنصراً في الحرب الأوكرانية فيما عبّر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن معارضته الشديدة محذراً من أن تؤدّي هذه الخطوة الى حرب نووية. إنما السؤال يبقى، وبإلحاح، لماذا لا تخاف الولايات المتحدة من هذه الفرضيّة وهذه الإمكانية؟ بل والأكثر إلحاحاً، لماذا لا تخاف أوروبا وهي في عقر دار الحرب العالمية والنووية، إذا وقعت؟
الغرب يبدو مقتنعاً بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس جديّاً عندما يهدد باستخدام الأسلحة النووية لأن ذلك سيؤدّي بكل تأكيد الى تدمير روسيا قبل تدمير الدول الغربية. الصواريخ الاستراتيجية الروسية تستغرق 40 دقيقة قبل وصولها الى الولايات المتحدة، يقول أحد الضالعين في المعادلة النووية، بينما الصواريخ الاستراتيجية الأميركية تستغرق 15 دقيقة قبل وصولها الى روسيا. رهان الغرب هو على خوف بوتين من أن يكون سبب دمار روسيا. رهان الغرب هو على إدارك المؤسسة العسكرية الروسية أن الثمن الذي ستدفعه روسيا في حال اندلاع حرب نووية هو عشرة أضعاف ما سيدفعه الغرب. لذلك يراهن الغرب على تراجع بوتين والمؤسسة العسكرية الروسية.
إحدى المشاكل تكمن في أن المؤسسة العسكرية الروسية وفلاديمير بوتين مقتنعان بأن في وسع روسيا أن تربح الحرب النووية مع حلف الناتو بقدر اقتناعهما بأن روسيا ستربح الحرب الأوكرانية. فلقد ضاعت البوصلة السياسية والعسكرية لدول الناتو ولروسيا، وضاعت معها أدوات لجم النفس لدى دول الناتو ولدى روسيا على السواء.
خرجت السيطرة من أيادي السياسيين وبات الانزلاق العسكري بلا ضوابط ولا حدود- وليس هناك آليات دولية لكبح الجماح.
هذا عالمياً. أما على صعيد الفجور المحلي، فإن ميكانيزم الضبط الدولي للانفلات يكاد يكون معدوماً بقرارٍ سياسي مسبق يكبّله العجز أو نتيجة حسابات سياسية ضيّقة يتحكم بها الخوف. ولبنان مثال حي على الانفلات في شريعة الغاب تحت أنظار العالم المتخاذل. فلا الأمم المتحدة بادرت الى إرسال لجنة تقصّي الحقائق في تفجير مرفأ بيروت الذي هو حقاً جريمة ضد الإنسانية. ولا الدول التي لديها الأقمار الاصطناعية المتطوّرة بادرت الى تقديم الصور عما جرى في ذلك اليوم المشؤوم- كل منها لحساباته الخاصة.
ثم هناك جريمة السكوت على العملية الممنهجة التي تقودها المنظومة السياسية المستبدّة بلبنان، وفي مقدمتها “حزب الله” وما يسمى بـ”الثنائي الشيعي”، لقبع المحقق العدلي القضائي في الانفجار، طارق البيطار. بل إن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات المقرّب من “حزب الله” انتقم من المحقق البيطار الذي عاد الى التحقيق بإطلاق الموقوفين بملف المرفأ والإدعاء على المحقق العدلي ومنعه من السفر وإحالته على هيئة التفتيش القضائي. وهكذا قام رجل القانون المفترض بإفلات متهمين في ملف المرفأ مراهناً على أن الإدارة الأميركية ستدعمه لأن بين هؤلاء مواطناً أميركياً، محمد العوف، قال وكيله القانوني المحامي صخر الهاشم إن “السفارة الأميركية في بيروت هي التي تولّت ترحيل العوف ونقله مباشرة من السجن الى مطار رفيق الحريري الدولي”.
شريعة الغاب ومسخرة وهرطقة محلية – دولية وسط تعالٍ غربي وشرقي وأممي عن أوجاع أهالي ضحايا تفجير المرفأ. الواجب الأخلاقي كان يتطلّب لجنة تقصّي حقائق وهو اليوم يتطلّب محاسبة من أفلت الموقوفين من المحاسبة. فليس إنجازاً تهريب مواطن حتى ولو كان بريئاً. الإنجاز المطلوب هو استكمال التحقيق من أجل العدالة، وليس تمكين الفجور ضدّه لقبعه تلبية لما يريده المتهمون بالتورط في التغطية على ما حدث والتورط في تخزين النيترات في مرفأ مدني لاستخدامها في مغامراته الإقليمية.
صفقات الإفلات من المحاسبة والإفلات من العقاب إنما هي وصمة عار على جبين كل متورط فيها، محلياً كان أو لاعباً دولياً، مهما كانت الذرائع والمبررات.
النهار العربي