لا تفتقر تلك التصورات للدقّة، فتجربة السنوات الماضية بيّنت بوضوح الآثار بعيدة المدى لـ«الانفجار العربي» والقادر فعلياً على تغير تفاصيل كثيرة في «العالم» كما نعرفه. الحرب السورية وسقوط النظام الليبي مثلاً، أغرقا الشواطئ الأوروبية بفيضان من اللاجئين، من المنطقة العربية وغيرها، ما أدى لتغيير كثير من المعادلات السياسية على ضفتي المتوسط، وتبدّلات في الثقافة، وبعض القوانين والمنظورات الحقوقية الدولية؛ فيما أثّرت الحرب اليمنية بشدة على ما كان يعتبر واحداً من أهم منافذ التجارة العالمية، من باب المندب حتى قناة السويس، بسبب الاضطراب الأمني وازدهار ظواهر القرصنة، وربما سيسرّع هذا في تبديل خرائط سلاسل التوريد المعولمة؛ فيما يؤدي اليوم «الانفجار» الذي عرفه قطاع غزة إلى حرب إقليمية كبيرة، تداخل فيها عديد من الدول؛ ويمكن بالتأكيد تصوّر التبعات العالمية لانفجار كبير يحدث في مصر. هذا المشهد القيامي يطرح أسئلة متعددة حول الثقافة السياسية العربية، ألا يملك الفاعلون في الشأن العام قولاً أكثر من التلويح بـ«الانفجار» واللعب عليه؟
حتى لو افترضنا أن «الانفجار» يحوي بذاته عناصر «ثورية» ضد أنظمة القمع والاحتلال والعنصرية، ما يعتبر إيجابياً من منظور أنصار التغيير في العالم العربي، فما هي أفكارهم ومخططاتهم في التعاطي معه؟ هل سيُترك الأمر لمواجهات مباشرة ومدمّرة، تتيح كثيراً من التشفّي بالظَلَمة، وليحدث بعدها ما يحدث؟ يصعب أن نجد سوابق لتعاطٍ سياسي بهذه الخفة، مهما كان راديكالياً، مع تهديدات خطيرة بوقائع مثل الحروب والمجاعات والنزوح الجماعي والاقتتال الأهلي. لماذا يصعب رصد أفكار جديّة للنخب السياسية والثقافية حول قضايا «وجودية» بهذا الحجم؟ ولماذا لا يبدو التحرر، سواء كان مقاومة احتلال أو ثورة «ربيع» ضد الاستبداد، أكثر من مخيّلة عن الانفجار؟
الصدامية الجديدة :
خلّفت معظم الانفجارات الاجتماعية والتاريخية الكبرى، التي نعرفها في التاريخ الحديث، ما هو أكثر من ذاكرة بطولية أو دمويّة عن الثورة والتحرر، هنالك أفكار وفرضيات ومنظورات، تُناقش وتُساءل وتُدرس؛ وكذلك هياكل وتنظيمات اجتماعية/ٍسياسية ما، يستمر أثرها، حتى لو سُحقت نتيجة أعمال عنف أو قمع سلطوي. لم تخلّف ثورات «الربيع العربي» بموجتيه، سوى الميليشيات و«المنظمات غير الحكومية» وأفكاراً عن انفجارات أخرى ستأتي. قد يكون السبب شدة القمع، الذي لم يسمح بنشوء قوى سياسية، أو تجارب اجتماعية وثقافية أكثر عمقاً، رغم هذا فإن الركون لهذه الإجابة إشكالي جداً، إذ تبدو أشبه بتبرير، خاصة أنه من الصعب رصد محاولات جديّة لتجاوز ذلك الواقع بالحد الأدنى، أو حتى توجيه نقد جدّي وجذري للميليشياوية والمنظّماتية، وغيرها من مخلّفات «الربيع» ذات الطابع غير الديمقراطي والضد اجتماعي.
المثير للانتباه هنا، أن مفهومي «الديمقراطي» و«الاجتماعي» ليسا حاضرين بشكل متعمّق في الجدالات العربية المعاصرة، إذ يصعب أن نرصد تصورات واضحة لشكل ومنظومة الديمقراطية، التي من المفروض أنها ستعقب الاستبداد؛ أو تحديداً للتشكّلات والفئات الاجتماعية التي ستحملها. عادةً ما تُردد عبارات فضفاضة عن «الحرية» «الظلم» «الغرب» «الناس العاديين» أو «الفقراء» أو «الشعب» أو أي تعبير آخر، من تلك التعبيرات التي يصعب تحديد معناها السياسي. أضيف إليها في ما بعد حديث عن «فئات نوعية» أقرب لهويات ناجزة، قائمة بذاتها ولذاتها، مثل «النساء» و«الكويريين» و«الأقليات». لا تكمن المشكلة في أي مفردة من المفردات المذكورة بحد ذاتها، وإنما بطريقة تردادها وتكرارها، التي تغطي على فحوى العبارات أكثر مما تكشفه، وتترك المتلقي في حالة حيرة تجاه المعنى المراد إيصاله. قد تكون الكلمات هنا «محجّبة» أكثر من اللازم، لدرجة أنها عائق عن التواصل، وليست أداةً له.
ماذا يبقى بعد كل هذا؟ ربما الحماس عند وقوع أي صِدَام أو معركة أو تحرّك، مهما كانت عوامل ضعفه وفشله واضحة منذ البداية، ومهما كانت نتائجه مضرّة أو حتى مأساوية. بعد الفشل، يصبح النقد ممنوعاً، لأنه نوع من «لوم الضحية». الغريب هنا أن هذا المنطق لم يكن سائداً حتى في عصر ديكتاتوريات «التحرر الوطني» العربية، فقد انتُقد سابقاً قادة من وزن جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وحركات سياسية كبرى مثل «البعث» و«القوميين العرب» و«الإخوان المسلمين» ومنظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب الشيوعية، في مواجهاتها الكبرى المتعددة، الخارجية والداخلية، ومن قبل أنصارها المتحمسين أنفسهم. ما يدفع للتساؤل: متى أصبح معظم الفاعلين الاجتماعيين والعسكريين، التحرريين أو المقاومين في العالم العربي، «َضحايا» لا يمكن «لومهم»؟
بعيداً عن النقاش المتعذّر لمثل تلك العبارات، والذي لن يوصل فعلياً سوى للتهكّم، يبدو أن جانباً أساسياً من الثقافة السياسية العربية المعاصرة عاجز عن إنتاج أفكار جديّة، على المستوى العملي ومستوى النقد التاريخي خاصة، ومكتفياً بالحديث عن مواجهات مباشرة، ما يجعله صِدَامياً بشكل مجّاني. قد يمكن بتأويل أوسع القول إنه صَدّامي، نسبة للرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، فهو أهم من استنّ سنّة المعارك غير واضحة الغايات، وغير المهتمة بالأثمان، لأجل ردّ مظلمة أو تحقيق كرامة، التي تضع بعدها مجتمعات بأكملها في موقع الضحية، ومن ثمَّ لوم «العالم» وتهديده بالانتقام وسيول المتطرفين. ما يختلف فقط نمط البلاغة، فقد انتقلنا من مزيج القومية العربية والأبوية العشائرية الصدّامي، إلى خلائط من عبارات الإسلام السياسي والناشطية «اليسارية». كيف وصلنا إلى هنا؟
ما وراء «العقلية» :
قد يكون الحديث عن «عقلية عربية» فوق تاريخية، تنتج تفكيراً سياسياً ضعيفاً، خرافياً إلى حد بعيد؛ من جانب آخر فربما لا يقل خرافية رد هذا «التخلّف» السياسي إلى بنى اجتماعية أو اقتصادية، تنتجه بشكل حتمي لا بدائل عنه. كلا التصورين لا يأخذ في الحسبان مستوى «الفعل» أي مجموع الممارسات الواقعية، التي يؤديها أفراد وجماعات مختلفة، في مواضع وسياقات عديدة. والفعل نظام، بمعنى أنه لا يتمّ ويكتسب المعنى إلا ضمن منظومة معينة من الإجراءات والترميزات. وما يمكن استشفافه من الوضع الحالي في الدول العربية هو الاضمحلال المديد لكل منظومات الفعل الاجتماعي، ومنها أنظمة السياسة والدين والقانون. فمع انحلال نموذج دولة الاستقلال العربية، وأنظمتها، بات كل الفاعلين الاجتماعيين يؤدّون في شرط من الفوضى، ودون إجراء أو تقليد أو طريقة واضحة في إنتاج المعاني.
إلا أن انحلال كثير من الدول العربية، ذات الأيديولوجيا القومية/الإسلامية الأحادية، خلّف خزاناً فكرياً، تراكمت فيه طبقات متعددة ومتناقضة من الأفكار الأبوية والوطنية والدينية، تُستعمل في ظرفنا الحالي بعشوائية شديدة. فنرى مثلاً التطرّف الديني، يُلصق، دون اتساق، بالحديث عن «التحرر»؛ والقيم الأخلاقية الأبوية تترافق مع انتهاكات جسيمة لـ«العِرض» وسط التغاضي عن الاعتداء الشامل على النساء في المجال العام؛ و«الانفتاح على العالم» ثقافياً ولغوياً ومادياً، يتلازم مع كراهية «الرجل الأبيض»؛ إلخ. إنه الشرط الأكثر مناسبة لازدهار الميليشياوية والمنظماتية، بفعلها العاطل عن إنتاج المعنى، والمتطيّر من النقد.
المجتمع وبدائله :
مع اضمحلال الدول القومية العربية، وتحوّلها لما يشبه محاكاة ساخرة عن نفسها، باتت «بدائلها» من ميليشيات ومنظّمات، أقرب لسلطة موازية، تجد نفسها في حلّ من أي التزام اجتماعي أو سياسي مقونن، وهذا يؤدي إلى زيادة التمزّق الاجتماعي، بل يحوّل طبيعة نشاط البشر الحياتي، في دول كثيرة، إلى ما هو أقرب لاقتصاد الظل والعصابات، وشبكات الزبائنية والمحسوبية.
لا يبدو هذا وضعاً مبشّراً بالتغيير، في حالة انفجار اجتماعي جديد، بل على الأغلب سيوصل المجتمعات العربية إلى مراحل غير مسبوقة من نزع التحضّر. وهذا يعني أن السعي لتلافي انفجارات كبرى، قد يكون الجهد السياسي والاجتماعي الأكثر مسؤولية.
لا يعني هذا بالتأكيد الدعوة للاستسلام، وإنما توجيه الطاقة للبحث فيما تبقّى من روابط اجتماعية: كيف يستطيع البشر اليوم الاستمرار و«النجاة»؟ ما الأشكال التضامنية في ما بينهم، بعيداً عن شبكات العصابات القائمة؟ كيف يحتجّ أفراد كثر، بشكل إيجابي أو سلبي، على القمع الاقتصادي والجسدي والفكري الشديد، الذي يتعرّضون له؟ الإجابة عن هذه الأسئلة، حول الفعل الاجتماعي، قد تكون حاسمة، لإنتاج نظام جديد للفعل السياسي، يكون مقاوماً فعلاً، وأقرب لتغيير ديمقراطي اجتماعي. عندها فقط قد تكون موجة ثالثة من «الربيع العربي» ذات جدوى.
--------
القدس