خيّبت أنقرة آمال النظام السوري الذي كان ينتظر بوساطتين روسية وإيرانية تسريع الحوار والتفاوض التركي معه بعد خروج البلاد من أجواء الانتخابات. قرّر إردوغان، الذي أشعل الضوء الأخضر لعقد قمّة مع بشار الأسد يسبقها تنسيق أوسع حول طاولة الحوار الرباعي في موسكو، التريّث ريثما تتّضح معالم التحوّلات في السياسة الأميركية الجديدة في ما يتّصل بالملف السوري، ونتائج الجهود التي يبذلها العديد من العواصم العربية الفاعلة من أجل إيجاد خارطة طريق تُقنع الأسد بقبول تفعيل الحلّ السياسي في إطار القرارات الأممية وبيانات جامعة الدول العربية المرتبطة بالأزمة في سوريا.
تتجنّب أنقرة الردّ الواسع على التصعيد السياسي ضدّها من قبل قيادات سوريّة في دمشق. قرار إردوغان الردّ على الأسد يعني الردّ على بوتين أيضاً. فهل أنقرة جاهزة للتصعيد أكثر من ذلك مع موسكو قبيل قمّة تركية روسية يجري الحديث عنها منذ أشهر لكنّها لا تُعقد؟ ولماذا تخلّت أنقرة عن الرهان على أنّ بشار الأسد سيتصرّف بشكل "أكثر عقلانية" كما ألمح وزير الدفاع التركي يشار غولار قبل أيام؟
الإجابات التي تساعد في الردّ على التساؤلين كثيرة وعديدة، وبينها ثلاث:
1- التصريحات الأخيرة الصادرة عن قيادات سياسية وعسكرية في دمشق، وفشل جهود تأهيل النظام وتلميع صورته وإقناعه بالتخلّي عن مشروع القضاء على ما بقي في سوريا من بنى تحتية اقتصادية واجتماعية وأمنيّة.
2- تمسّك النظام في دمشق بمنطق وأسلوب البقاء على قيد الحياة من خلال افتعال الأزمات والمشاكل وتوتير الأجواء في الداخل والخارج مستفيداً من وقوف موسكو وطهران إلى جانبه.
3- بحثه عمّا يمنحه الفرص الإضافية للمساومة وعقد الصفقات السياسية وإبعاد الأنظار عن كلّ ما تسبّب به حتى الآن.
أغضب الموقف التركي الجديد موسكو وطهران لأنّه يعوّل على سيناريوهات أميركية بديلة تتحدّث عن مقايضة تعطي أنقرة ما تريد في شرق الفرات وموضوع اللجوء وخطة المنطقة الآمنة، التي بدأ البعض يتحدّث عن توسيعها لتضمّ منطقة حلب، مقابل تخلّي القيادة التركية عن المضيّ وراء المشروع الروسي الإيراني في سوريا وإنهاء خطوات الانفتاح على النظام في دمشق والاستعداد للتعامل مع حالة إيرانية جديدة في المنطقة ككلّ.
طبعاً من اللافت أن تصعّد القيادات السياسية السورية في دمشق قبيل لقاء عربي يضمّ فيصل المقداد الذي اختار الحديث عن "الاحتلال التركي" الذي "لا يشكّل خطراً على سوريا فقط، بل على الأمن القومي العربي وعلى المصالح العربية بشكل عامّ"، ثمّ مواقف مشابهة لوزير دفاع النظام السوري علي محمود عباس، الذي اتّهم تركيا "بالانخراط في الحرب ودعم الإرهاب"، وهي مواقف استكمالية لما كان الأسد قد بدأ به وردّده من أنّ ".. هدف إردوغان من الجلوس معي هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا..".
خطوة بخطوة متعثرة :
لا يمكن الفصل بين تصعيد قيادات النظام السوري وحليفَيه الروسي والإيراني ثمّ الردّ التركي والأميركي على أكثر من جبهة سورية، وبين ارتدادات خيبة الأمل التي يعيشها بشار الأسد بعد تحوّلات في مواقف العديد من العواصم لأكثر من سبب:
- عدم تقدّم خطّة "خطوة بخطوة" التي تمّ التوافق عليها عربياً في عمّان قبل 4 أشهر.
- تمسّك دمشق بوجود وانتشار الميليشيات المحسوبة على إيران وتوغّلها في المدن السورية.
- تزايد نقل المخدّرات الآتية من الأراضي السورية باتجاه الأردن.
- رفض النظام السوري دخول أيّ نقاش حقيقي يشمل مسار انتقال سياسي أو دستوري مبنيّ على القوانين الدولية الصادرة بهذا الخصوص وعلى رأسها القرار 2254.
- العودة الأميركية إلى الملفّ السوري بثقل سياسي وميداني جديد.
- التفاهمات التركية الأميركية على الملفّ على هامش قمّة حلف شمال الأطلسي، والمصحوبة بعروض جديدة مقدّمة إلى تركيا للتراجع عن فكرة الحوار والتفاوض مع النظام في دمشق.
"لقاء مع بوتين قريب جداً، إن شاء الله. لقاء مع الأسد سيتمّ إذا ما كان هناك قسمة ونصيب في ذلك". هكذا لخّص أحد الكتّاب الأتراك المعارضين هاكان أقصاي مشهد الوضع السياسي التركي الحالي في التعامل مع الملفّ السوري. وسيكون الاجتماع المرتقب بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الأكثر إثارة ومتابعة بين عشرات القمم والاتّصالات التي جرت بينهما في السنوات الأخيرة.
لا انفراج قريب :
لا يمكن فصل استهداف المقاتلات الروسية قبل أيام مواقع لجبهة النصرة في إدلب عن الانسداد الحاصل بين موسكو وأنقرة. لكنّ التصعيد الروسي الأخير يحمل معه رسائل أخرى تعني تركيا، وبينها مصير لقاء بوتين وإردوغان، ومسار الطاولة الرباعية المجمّد منذ أشهر، وتحرّك دمشق للتصعيد العسكري من جديد الذي لن يتمّ من دون تعليمات تأتي من "الأصدقاء الذين يختارهم بدقّة"، كما يقول الأسد.
بإيجاز أكثر تراجعت اليوم فرص الرهان على انفراجة سياسية بين أنقرة ودمشق على الطاولة الرباعية التي أرادتها موسكو قبل 8 أشهر، ليس بسبب التصعيد الجديد في المواقف التي أعلنها الأسد وقياداته ضدّ تركيا، بل بسبب التوتّر التركي الروسي الحاصل في ملفّات ثنائية وإقليمية عديدة.
لو كانت موسكو منزعجة من تصريحات القيادات السياسية في دمشق ضدّ أنقرة لحالت فوراً دون إعلانها لأنّها تهدّد خطّتها السياسية الهادفة إلى جمع إردوغان والأسد حول طاولة واحدة وتتعارض معها.
لو كانت بعض العواصم العربية ستعطي الأسد ما يريد لكانت فعلت ذلك في بيان اللجنة المكلّفة متابعة الملفّ السوري، ولما "خرق" الأسد تعهّدات التهدئة مع أنقرة على هذا النحو الذي أغضب من يتحرّك عربياً بعيداً عن الأضواء، ولما فجّر وزير خارجيّته فيصل المقداد قنابل التصعيد والتحدّي مستغلّاً فرصة فتح الأبواب العربية أمامه ومحاولاً تقديم الأمر على أنّه انزعاج عربي من سياسة أنقرة السورية.
ردّة فعل النظام في دمشق سببها لائحة المقترحات والتوصيات العربية المقدّمة إلى المقداد والتي تمسّكت بها المجموعة العربية كبداية جديدة لمسار سياسي مختلف في التعامل مع ملفّ الأزمة السورية.
رفعت واشنطن من مستوى تحرّكها السياسي والعسكري على أكثر من جبهة تهتمّ بها روسيا، وبينها المشهد السوري. هل ما يجري هو نتيجة دخول البلاد أجواء الانتخابات الرئاسية ومحاولة من قبل فريق عمل بايدن لكسب أصوات الداخل؟ أم تواكب هذا التحرّك نتائج ميدانية عمليّة جديدة تهدف إلى قلب المشهد في سوريا عبر تحريك أوراق عسكرية وسياسية جديدة ضدّ إيران وروسيا هناك تعيد لتركيا ثقلها الجغرافي والعسكري؟ وهل تفعل واشنطن ذلك بالمجّان؟ أم الثمن هو مراجعة أنقرة للكثير من مواقفها الروسية، خصوصاً في البحر الأسود والقرم؟
لن يكون ثمن التباعد التركي الروسي تصريحات نارية صادرة عن دمشق. هناك ما هو أكبر وأهمّ من ذلك، وستكون المقايضات أوسع بكثير، وهذا ما يقلق بوتين ويدفعه إلى تذكير أنقرة بحجم مصالحها مع روسيا وحاجتها إليها في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد.
لن تكفي أنقرة أيضاً مواقف أميركية داعمة لما تقوله في شمال سوريا، بل هي تريد أكثر من ذلك. فهل يتمّ الحراك الشعبي الجديد في بعض المدن والمناطق السورية بتشجيع أميركي ويتحوّل إلى فرصة سياسية جديدة للسوريين؟
"قناعة" التقارير الاستراتيجية الأميركية، كما أوردها أخيراً موقع "ذي هيل" في مادّة تحليلية لستيورات لاتوين من مركز الأمن الأميركي الجديد، هي أنّه "إذا أرادت أميركا الحفاظ على قوتها السياسية والعسكرية بالمنطقة، فهي بحاجة إلى الاستفادة من هذا الصعود وبناء علاقات أقوى مع تركيا". بالمقابل يحاول الخبراء الأتراك منذ أيام معرفة أسباب الهجمات الروسية الأخيرة على مواقع لهيئة تحرير الشام في إدلب تتضمّن الشقّ التركي أيضاً. هل تريد موسكو تفجير الوضع العامّ في المدينة لتحريك موجات اللجوء باتجاه الأراضي التركية، أم تذكير أنقرة بتفاهمات إدلب وموضوع النصرة هناك الذي لم يُحسم بعد، أم موسكو قلقة فعلاً من احتمال أن تستغلّ هذه المجموعات الانفجار الشعبي الجديد في مدن الساحل السوري للتصعيد العسكري؟
"حجرة واحدة في مكان خاطىء تُسقط ألف حجر في المكان الصحيح"، مثل صيني شعبي قديم.
-------------
اساس ميديا
*كاتب وأكاديمي تركي.