قد يكون السبب في ذلك انتفاء حضور الدولة في المجال العام لترنّح مؤسّساتها وفراغ مواقع الحُكم فيها، وتحوّلها إلى مجرّد أداة تصريف أعمال، بالحدود الدنيا، بما يجعل تدبّر الأمور فردياً ومحلّياً شغلاً شاغلاً لأكثرية الناس، بمنأى عن شأن عام أو عن مسائل «وطنية» أو حتى «معارك حدودية». وقد يكون السبب مرتبطاً بحزب الله الذي يقرّر وحده شؤون الحرب والسلم، بمعزل عن خيارات قسم كبير من المجتمع وأولويّاته. وقد يكون السبب أيضاً، أن حرب الجنوب تبدو عنفاً فاض جغرافياً عن عمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فأصاب مواضع في لبنان ما زالت حتى الآن محصورة في رقعة محدّدة.
التحريض ضد اللاجئين السوريين
لكن هذه الحرب الدائرة منذ أشهر وعلاقة اللبنانيين الملتبسة بها ليست وحدها ما يسمُ الحياة العامة في البلد اليوم، ولَو أنها أبرز ما يُبقيه على خريطة الاتصالات الإقليمية والدولية. فالبلد المحطّم سياسياً واقتصادياً منذ قرابة الخمس سنوات، يبدو مأخوذاً في الآونة الأخيرة بتصريحات ومواقف تحرّض على اللاجئين السوريين وتحمّلهم مسؤولية الانهيار التي آلت إليها الأوضاع على مختلف الصعد. فمن تيّارات اليمين المسيحي إلى مواقف رئيس الحكومة وصولاً إلى كلام أمين عام حزب الله حسن نصر الله، يظهر إجماع شبه وحيد بين القادة السياسيين اللبنانيين على ملامة اللاجئين أو دعوتهم إلى الرحيل أو الدعوة إلى ترحيلهم، أو في أحسن الأحوال ابتزاز أموال قبرصية وأوروبية ودولية للإبقاء على بعضهم.
ويتمّ ذلك وسط مزايدات طائفية ورمي أرقام متخيّلة عن الديموغرافيا السورية في لبنان، وهجمات تطال مارّة منهم في العديد من أحياء المدن والبلدات وتتّخذ من جرائم يرتكبها أفراد أو عصابات ذريعة لكلّ ذلك.
وهذا لا يعني أن لا مشكلة في حجم الكتلة البشرية السورية اللاجئة، ولا يعني أن لا ضرورة لإيجاد حلّ نتيجة التوتّرات الاجتماعية والمخاوف غير العقلانية المنتشرة وتداعيات الماضي الشائك وغير ذلك الكثير. لكنّه يعني أن النقاش الصحّي حول الموضوع معطّل، وأن من أقحموا لبنان في الحرب السورية من ناحية، ومن يتهرّبون من مسؤوليّاتهم بعد سنوات عديدة في الحُكم أو في الشراكة فيه وفي الموافقة على سياساته المالية والاقتصادية من ناحية ثانية، يجتمعون اليوم في البحث عمّن يلقون عليهم الملامة، فيجدون في السوريين المطرودين من أرضهم ضالّتهم.
ولا يشرح أحدٌ من المحرّضين كيف يتحمّل اللاجئون مسؤولية الهندسات المالية والمصرفية التي أدّت إلى ضياع أكثر من 70 مليار دولار وإلى انهيار العملة الوطنية، ولا كيف آذى اللاجئون الكهرباء التي تتكرّر أزماتها منذ ما قبل تهجيرهم إلى لبنان، ولا علاقتهم بالفساد والهدر والزبائنية المذهبية التي أنهكت موازنات الدولة وخدماتها في العقود الماضية، ولا صلتهم بانفجار مرفأ بيروت الذي سرّع الانهيار الفظيع.
ولا يشرح أحد من هؤلاء أيضاً كيف يتحمّل اللاجئون المسؤولية في الضغط السياسي على القضاء ومنع تحقيقاته في الملفات الكبرى، بما فيها ملف نيترات الأمونيوم المستورد وأسباب تخزينه في عاصمة البلد. وطبعاً لا يقّدم أيَ من المحرّضين إياهم شرحاً يبيّن أسباب تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية في البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تفاوض مع المؤسسات المالية الدولية للشروع بتطبيق برامج إصلاحٍ إلزامية للخروج من الكارثة التي يقبع لبنان وناسه فيها منذ سنوات.
كأنها حياة عادية…
في موازاة كل ما ورد، وفي خضمّ مسارات التكيّف مع الإفلاس المالي ومع البطالة ومأساة اللجوء والتحريض ضد اللاجئين ومع الحرب وغياب الدولة عن معظم الميادين العامة، ثمة ما يبرز بين الحين والآخر فيوحي وكأن البلد عاديّ أو كأن بعض جوانب الحياة فيه ما زالت على سابق عهدها من حيوية وتنوّع وقدرة على الابتكار والإنتاج.
فمن الأنشطة الفنية والثقافية والأكاديمية، إلى الحياة الرياضية ومسابقاتها والجمهور المحتفي بها، إلى الأصوات الحقوقية والصحافية الشجاعة المتصدّية للرقابة ولانتهاك الحرّيات، إلى الجمعيات النسوية والبيئية العاملة في أصعب الظروف، وصولاً إلى المطاعم والملاهي والمقاهي المتجدّدة في أكثر من منطقة، تستمر حياة الكثير من الأفراد والجماعات وكأنها عادية او شبه عادية، في بلدٍ دخلت دولته منذ مدّة غير قصيرة في حالة احتضار ليست فرص خروجها منها متاحة في المدى المنظور.
قد يُقال إن لا جديد لبنانياً في الأمر، إذ شهدنا السياق ذاته طيلة سنوات الحرب حين تآكلت أدوار الدولة وأنكفأ الناس إلى مناطقهم المقطّعة الأوصال، واجتهدوا فيها. وشهدناه أيضاً في السنوات الأولى التي تلت الحرب وما عصف بها من أزمات. وقد يُقال أيضاً إن مليارات الدولارات التي ترسلها الدياسبورا اللبنانية سنوياً أو تنفقها خلال زياراتها الموسمية، تخفّف من وطأة الانهيار وتُتيح لشريحة واسعة من الناس المحافَظة على أنماط عيش بحدود مقبولة، ومثل ذلك المساعدات التي تأتي للاجئين السوريين وتُبقي قدرة بعضهم على العيش قائمة، في ما يتكفّل عمل البعض الآخر بإعالة ذويه وبتوفير خدمات للبنانيين بأسعار ما كانت لتتوفّر في شروط مغايرة.
لكن المختلف هذه المرّة عن كلّ ما سبق من تجارب نجاة فردي وجماعي بُعَيد تهتّك عرى الدولة ومؤسساتها هو الظروف المحلّية والإقليمية التي يجري فيها. فالحرب ما زالت في الهامش الداخلي ولو أنها مستعرة إقليمياً، على الحدود. والانهيار المالي والاقتصادي يصعب لصق أسبابه بعوامل خارجية، وهو في أي حال يتخطّى كل ما عرفناه سعةً وإصابةً لفلسفة الاقتصاد والمال التي تغنّى بها واضعوها على مدى عقود. والأهم ربما، أننا اليوم في مرحلة يجري فيها توثيق كلّ شيء، ونقل ما يجري مباشرة على مدار الساعة، بما يخلق تواصلاً طوعياً أو قسرياً مع كل المجريات، جاعلاً إياها في غثّها وسمينها، أو في مفرِحها وفظيعها، ملازمة لنا ومفروضة على شاشاتنا، وكأنها عادية…
بهذا المعنى، يبدو لبنان عالقاً في منزلة أو في موقعِ مركّب. فيه حرب في مكان، وتحريض على لاجئين في مكان، وتكيّف مع كوارث يومية وكثافة أوهام وحقائق متجاورة في كل الأماكن.
والأرجح أنه سيبقى عالقاً في هذه المنزلة، ونحن معه، لفترة غير قصيرة
-------------.
القدس العربي
التحريض ضد اللاجئين السوريين
لكن هذه الحرب الدائرة منذ أشهر وعلاقة اللبنانيين الملتبسة بها ليست وحدها ما يسمُ الحياة العامة في البلد اليوم، ولَو أنها أبرز ما يُبقيه على خريطة الاتصالات الإقليمية والدولية. فالبلد المحطّم سياسياً واقتصادياً منذ قرابة الخمس سنوات، يبدو مأخوذاً في الآونة الأخيرة بتصريحات ومواقف تحرّض على اللاجئين السوريين وتحمّلهم مسؤولية الانهيار التي آلت إليها الأوضاع على مختلف الصعد. فمن تيّارات اليمين المسيحي إلى مواقف رئيس الحكومة وصولاً إلى كلام أمين عام حزب الله حسن نصر الله، يظهر إجماع شبه وحيد بين القادة السياسيين اللبنانيين على ملامة اللاجئين أو دعوتهم إلى الرحيل أو الدعوة إلى ترحيلهم، أو في أحسن الأحوال ابتزاز أموال قبرصية وأوروبية ودولية للإبقاء على بعضهم.
ويتمّ ذلك وسط مزايدات طائفية ورمي أرقام متخيّلة عن الديموغرافيا السورية في لبنان، وهجمات تطال مارّة منهم في العديد من أحياء المدن والبلدات وتتّخذ من جرائم يرتكبها أفراد أو عصابات ذريعة لكلّ ذلك.
وهذا لا يعني أن لا مشكلة في حجم الكتلة البشرية السورية اللاجئة، ولا يعني أن لا ضرورة لإيجاد حلّ نتيجة التوتّرات الاجتماعية والمخاوف غير العقلانية المنتشرة وتداعيات الماضي الشائك وغير ذلك الكثير. لكنّه يعني أن النقاش الصحّي حول الموضوع معطّل، وأن من أقحموا لبنان في الحرب السورية من ناحية، ومن يتهرّبون من مسؤوليّاتهم بعد سنوات عديدة في الحُكم أو في الشراكة فيه وفي الموافقة على سياساته المالية والاقتصادية من ناحية ثانية، يجتمعون اليوم في البحث عمّن يلقون عليهم الملامة، فيجدون في السوريين المطرودين من أرضهم ضالّتهم.
ولا يشرح أحدٌ من المحرّضين كيف يتحمّل اللاجئون مسؤولية الهندسات المالية والمصرفية التي أدّت إلى ضياع أكثر من 70 مليار دولار وإلى انهيار العملة الوطنية، ولا كيف آذى اللاجئون الكهرباء التي تتكرّر أزماتها منذ ما قبل تهجيرهم إلى لبنان، ولا علاقتهم بالفساد والهدر والزبائنية المذهبية التي أنهكت موازنات الدولة وخدماتها في العقود الماضية، ولا صلتهم بانفجار مرفأ بيروت الذي سرّع الانهيار الفظيع.
ولا يشرح أحد من هؤلاء أيضاً كيف يتحمّل اللاجئون المسؤولية في الضغط السياسي على القضاء ومنع تحقيقاته في الملفات الكبرى، بما فيها ملف نيترات الأمونيوم المستورد وأسباب تخزينه في عاصمة البلد. وطبعاً لا يقّدم أيَ من المحرّضين إياهم شرحاً يبيّن أسباب تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية في البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تفاوض مع المؤسسات المالية الدولية للشروع بتطبيق برامج إصلاحٍ إلزامية للخروج من الكارثة التي يقبع لبنان وناسه فيها منذ سنوات.
كأنها حياة عادية…
في موازاة كل ما ورد، وفي خضمّ مسارات التكيّف مع الإفلاس المالي ومع البطالة ومأساة اللجوء والتحريض ضد اللاجئين ومع الحرب وغياب الدولة عن معظم الميادين العامة، ثمة ما يبرز بين الحين والآخر فيوحي وكأن البلد عاديّ أو كأن بعض جوانب الحياة فيه ما زالت على سابق عهدها من حيوية وتنوّع وقدرة على الابتكار والإنتاج.
فمن الأنشطة الفنية والثقافية والأكاديمية، إلى الحياة الرياضية ومسابقاتها والجمهور المحتفي بها، إلى الأصوات الحقوقية والصحافية الشجاعة المتصدّية للرقابة ولانتهاك الحرّيات، إلى الجمعيات النسوية والبيئية العاملة في أصعب الظروف، وصولاً إلى المطاعم والملاهي والمقاهي المتجدّدة في أكثر من منطقة، تستمر حياة الكثير من الأفراد والجماعات وكأنها عادية او شبه عادية، في بلدٍ دخلت دولته منذ مدّة غير قصيرة في حالة احتضار ليست فرص خروجها منها متاحة في المدى المنظور.
قد يُقال إن لا جديد لبنانياً في الأمر، إذ شهدنا السياق ذاته طيلة سنوات الحرب حين تآكلت أدوار الدولة وأنكفأ الناس إلى مناطقهم المقطّعة الأوصال، واجتهدوا فيها. وشهدناه أيضاً في السنوات الأولى التي تلت الحرب وما عصف بها من أزمات. وقد يُقال أيضاً إن مليارات الدولارات التي ترسلها الدياسبورا اللبنانية سنوياً أو تنفقها خلال زياراتها الموسمية، تخفّف من وطأة الانهيار وتُتيح لشريحة واسعة من الناس المحافَظة على أنماط عيش بحدود مقبولة، ومثل ذلك المساعدات التي تأتي للاجئين السوريين وتُبقي قدرة بعضهم على العيش قائمة، في ما يتكفّل عمل البعض الآخر بإعالة ذويه وبتوفير خدمات للبنانيين بأسعار ما كانت لتتوفّر في شروط مغايرة.
لكن المختلف هذه المرّة عن كلّ ما سبق من تجارب نجاة فردي وجماعي بُعَيد تهتّك عرى الدولة ومؤسساتها هو الظروف المحلّية والإقليمية التي يجري فيها. فالحرب ما زالت في الهامش الداخلي ولو أنها مستعرة إقليمياً، على الحدود. والانهيار المالي والاقتصادي يصعب لصق أسبابه بعوامل خارجية، وهو في أي حال يتخطّى كل ما عرفناه سعةً وإصابةً لفلسفة الاقتصاد والمال التي تغنّى بها واضعوها على مدى عقود. والأهم ربما، أننا اليوم في مرحلة يجري فيها توثيق كلّ شيء، ونقل ما يجري مباشرة على مدار الساعة، بما يخلق تواصلاً طوعياً أو قسرياً مع كل المجريات، جاعلاً إياها في غثّها وسمينها، أو في مفرِحها وفظيعها، ملازمة لنا ومفروضة على شاشاتنا، وكأنها عادية…
بهذا المعنى، يبدو لبنان عالقاً في منزلة أو في موقعِ مركّب. فيه حرب في مكان، وتحريض على لاجئين في مكان، وتكيّف مع كوارث يومية وكثافة أوهام وحقائق متجاورة في كل الأماكن.
والأرجح أنه سيبقى عالقاً في هذه المنزلة، ونحن معه، لفترة غير قصيرة
-------------.
القدس العربي