ربما سيصير في حكم المعتاد أن نشهد، في تظاهرة مناوئة للأسد كما حدث يوم الاثنين، لافتةً هذا نصّها: لا للمخدرات ولا لعصابات الكبتاغون وترويجه. ولن يكون من المستغرب أن يكون هذا واحداً من أشدّ المطالب جذرية، أو أن يتعرض حامل اللافتة إلى التعامل الأقسى فيما لو داهم عناصر المخابرات المظاهرة. فالقول لا للمخدرات صار مساوياً القول لا للأسد، ولا يُستبعد ضمّه إلى أدوات المؤامرة الكونية المزعومة على الأسد بما أن الرئيس الأمريكي وقّع مؤخراً ميزانية وزارة الدفاع لعام 2023 التي تتضمن قانوناً لمحاربة الكبتاغون الذي تصنّعه سلطة الأسد.
على سبيل المثال، أشارت صحيفة لوفيغارو الفرنسية إلى ضبط سلطات الجمارك في بلدان المرور والاستهلاك 250 مليون حبة كبتاغون خلال الشهور الثمانية الأولى من هذا العام، ولنا بناء على ذلك تخيّل العدد المهول من الحبوب المصنَّعة. كانت تقارير أخرى قد أوردت "خاصة خلال آخر سنتين" أرقاماً فاحشة عن إيرادات تجارة الكبتاغون، ولا يُعرف كيف تُصرَف مليارات الدولارات تلك، بما أن الأوضاع المعيشية المتردية تحت سلطة الأسد تشير إلى إنفاقها في نشاطات أخرى.
تمرير القانون في الكونغرس وتوقيع بايدن عليه هما ثمرة أتت بعد فشل محاولات مماثلة في الكونغرس نفسه لتمرير تشريع منفصل خاص بكبتاغون الأسد، لكن المصادقة الأخيرة لها جانبها المعنوي، قبل ظهور نتائجها الاقتصادية. والجانب المعنوي هو ما نتوقف عنده أيضاً، إذ "بلا مبالغة" يجوز القول أن الأسدية انتهت إلى تجارة الكبتاغون فيما يشبه إعلاناً منها عن إفلاسها.
في حقبة مضت، كانت سلطة الأب قد اتُهمت أمريكياً بالإشراف على زراعة وتصنيع المخدرات في البقاع، جنباً إلى جنب مع تزوير الدولارات. حينها كان يمكن "مع تصديق الاتهامات" النظر إلى تلك الأنشطة في إطار إزعاج واشنطن، أو مساومتها سياسياً، وكان بيت القصيد هو الأذى الذي يسببه تزوير الدولارات وتجارة المخدرات، لا العائد المالي منهما. بصياغة أخرى، بالكاد أخذت تلك الاتهامات حيزاً من الانتباه، ولم يكن الذين صدّقوها ينظرون إلى الأب كتاجر مخدرات أو مزيّف عملة، ففي أسوأ الأحوال كان يُنظر إلى تلك الأنشطة كأدوات "قذرة" في صراع سياسي.
هناك هوة شاسعة بين كون تجارة المخدرات أداة سياسية، أو من أدوات شراء الولاء، وبين كونها النشاط الأهم للسلطة. كنا أيضاً شهدنا شراكات بين بعض مستويات السلطة وتجار مخدرات سوريين معروفين، وأثمرت الشراكة عن وصول البعض منهم إلى عضوية مجلس الشعب. مع ذلك لم يكن هذا هو الطابع العام للسلطة، ولم تكن المعارضة حينها "على ضعفها وقلة أفرادها" تضع موضوع وقف تجارة المخدرات في قائمة مطالبها أو تمنياتها كما يحصل حالياً في اعتصامات السويداء.
كانت السياسة أو الشعارات لعقود هي التجارة الأهم لسلطة الأسد، فالأب قدّم انقلابه بديلاً معتدلاً ومنفتحاً عن رفاقه اليساريين، واستعار لهم من قاموس الماركسية نفسه وصف "الطفوليين اليساريين". ثم، بدءاً من المواجهة مع الإخوان استعاد وراح يحتكر شعارات العداء لأمريكا، أما سيطرته على لبنان فشجّعته على طرح نفسه زعيماً قومياً عريياً، والتركيز على أحقيته بالزعامة مقارنةً مع رؤساء عرب آخرين.
مع فهمنا العميق لهاجس الإمساك بالسلطة، كان لدى الأسدية في مختلف الأوقات ذلك الادّعاء السياسي الذي يجمّله، من القومية العربية إلى الممانعة.. إلخ. وحتى مع إلحاح هاجس التوريث جرى البحث عن مشروع ما للوريث، فصُنعت أولاً صورة باسل بوصفه نسخة شبابية من أبيه، ثم صُنعت على عجل صورة شقيقه العائد من الغرب، مع وعد الانفتاح بعد عقدين من العزلة. كان لا بدّ من التزيّن بمشروع سياسي، مهما تدنّت مصداقيته، لتمرير التوريث البيولوجي.
بالقفز إلى عام 2011، اختصر الوريث مشروعه بما أشيع آنذاك عن كونه حامياً للأقليات، وهو مشروع متدنٍّ جداً على الصعيد المفهومي، وعلى صعيد الجمهور المستهدف. قد يكبر هذا الجمهور خارج سوريا، خاصة بعد أن تُضمّ المفاضلة الشهيرة "الأسد أو داعش". لكن، مهما قلنا فيه، يبقى للمشروع الطائفي جمهوره، بل شهدنا خلال سنوات ارتفاعاً لمنسوب الخطابات الطائفية في عموم المنطقة، وعلى ذلك كان الأسد جزءاً من السياق العام لتلك المشاريع والأحلاف.
مع التدخل العسكري الروسي لصالحه، حاول إعلام الأسد تسويق الأخير شريكاً لموسكو من أجل عالم جديد متعدد الأقطاب، إلا أنها كانت بمثابة طرفة عابرة أجهز عليها بوتين ومسؤوليه الآخرين وإعلامه بالإهانات التي وجّهوها للأسد. عند هذه النقطة، ومع فقدان كل ما هو سيادي لصالح موسكو وطهران، أصبحت سلطة الأسد عارية من أي مشروع سياسي تتجمّل به، وتتهرّب عبره من واجباتها الأساسية تجاه محكوميه، أي على منوال ما فعلته خلال خمسة عقود.
أن يذهب شعار "لا للمخدرات" إلى صميم سلطة الأسد؛ هذا ليس بتفصيل أو جانب من جوانبها، هو بقدر ما يختزل مآلها فإنه يختزل جمهورها إلى تلك الحلقة الضيقة المستفيدة من هذه التجارة، أو من نشاطات أقل ربحاً مرتبطة بالعسكرة والتشبيح. وربما من الجيد، إلى جانب انحطاط هذا المآل غير المفاجئ، أن نلاحظ عدم حاجة السلطة إلى تقديم أي خطاب سياسي لجمهورها المفترض، بما أن بقاءها بات مرهوناً أولاً وأخيراً بالأجنبي. ربما يجدر القول أن سلطة لا تجد نفسها مطالبة بتقديم مشروع سياسي، مهما كان كاذباً، لن تجد نفسها مطالبة بتأمين الحد الأدنى من الخبز لمحكوميها. لذا، قد لا يكون بعيداً اليوم الذي يتكاثر فيه السوريون، في مناطق سيطرة الأسد، وهم يرفعون "في مشهد يختصر مطالبهم بالخلاص" شعارَ: لا للمخدرات.
-------
المدن