في هذا التقرير، ترصد عنب بلدي ملفات وأحداث وتشكيلات وأدوات وشخصيات ظهرت في ساحة “تحرير الشام” وداخل صفوفها خلال الأزمة الحاصلة، أبعدت بها “الهيئة” التركيز على حالة الصراع والتصدّع الداخلي.

تأخير الحديث عن الاختراق.. تشكيل يهدد

في الأشهر الأولى من 2023، تصدرت قضية وجود اختراقات في صفوف “تحرير الشام”، ومتعاملين لمصلحة التحالف الدولي وروسيا والنظام السوري، الواجهة الإعلامية، وأثارت جدلًا واسعًا في المنطقة.
“الهيئة” تأخرت في الإفصاح عن “الاختراقات” حتى تموز من العام نفسه، بينما ظهر تشكيل عسكري في حزيران 2023 يدعى “سرايا درع الثورة”، هدّد “تحرير الشام” وطالب بإطلاق سراح جميع المعتقلين والمعتقلات، وفي حال عدم الاستجابة توعد بأن تكون جميع مصالح “الهيئة” هدفًا مشروعًا له.
وجود التشكيل لم يستمر أكثر من ثلاثة أشهر، بحسب ما رصدته عنب بلدي، فبعد أن أعلن “سرايا درع الثورة”، في 14 من تموز 2023، مسؤوليته عن مقتل القيادي الأمني في “تحرير الشام” إبراهيم محمد العلي المعروف بـ”أبو صهيب سرمدا”، غابت تهديداته إعلاميًا، التي أطلقها في 29 من أيلول العام نفسه.
في حديث سابق لعنب بلدي مع باحثين في الشأن الجهادي، رجحوا عدم وجود تنظيم مستقل كهذا، أو أن “الهيئة” تعلم بوجوده، لكنها كعادتها تقوم باتباع استراتيجية توظيف الفرص واستغلالها، وأن وجود معارضة محلية وأعداء لـ”الهيئة” في مناطق سيطرتها، يمكن استغلاله كحجة لإعادة ترتيب البيت الداخلي لـ”تحرير الشام”، وتوزيع القوة وإقصاء المعارضين الخطرين.

نسب العمالة لعناصر جدد

أول حديث رسمي عن وجود اختراقات في صفوف “الهيئة” كان في 16 من تموز 2023، حين قال المتحدث باسم “جهاز الأمن العام ” العامل في إدلب، ضياء العمر، إن أجهزة استخبارات (لم يسمِّ تبعيتها)، وخدمة لأجنداتها الخاصة، لجأت إلى استدراج وتوريط من أسماهم “ضعاف النفوس”، والتغرير بهم لجمع المعلومات منهم.
وفي 30 من تموز 2023، قال العمر إن النظام السوري استغل فتح “الأمن العام” باب الانتساب إلى صفوفه من أجل اختراق “تحرير الشام” ومكوّناتها، وزرع عملاء في صفوفها.
وذكر العمر أن “خلية العملاء ” التي اعتقلها “الأمن العام” هي عناصر منتسبون بينهم شخصيات تتبع لـ”تحرير الشام”، وشخصيات مدنية وفي فصائل عسكرية وبحكومة “الإنقاذ” (المظلة السياسية لـ”الهيئة”).
ولم يقدم العمر أي توضيحات عن عدد المعتقلين ولا عن أسمائهم رغم ثبوت التهمة بحسب التحقيق، ولا عن كون بعضهم من قيادات الصف الأول، ولا عن تهمة تعامل بعضهم مع التحالف.

“الهيئة” تكذّب نفسها وبيان خفيف اللهجة

أصدرت “الهيئة” بيانًا في 17 من آب 2023، نص على تجميد صلاحيات ومهام الرجل الثاني في الفصيل، هو عضو مجلس الشورى ميسر بن علي الجبوري (الهراري) المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”، بسبب “خطئه في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه”، حسب قولها.
تجميد مهام وصلاحيات “القحطاني” يثبت عكس رواية “تحرير الشام” بأن “العملاء” ضمن صفوفها هم عناصر جدد انتسبوا إليها.
وحمل بيان “الهيئة” عن تجميد المهام لهجة مخففة بعيدة عن الهجوم، مستخدمة كلمة “الأخ” لوصف “القحطاني”، واعتبرت أن الأخبار المتناقلة عنه كانت مضخمة، وتصب في سياق “التضليل والاستهداف المنظم الميداني والإعلامي” ضد الثورة.
وقالت “تحرير الشام” في بيانها، إن لجنة التحقيق في ملف الاختراق استدعت “القحطاني” لورود اسمه في بعض التحقيقات وساءلته، دون أن تفصح عن اعتقاله أو عن ظروفه داخل السجن.
أحدث منشورات “القحطاني” كان قبل بيان تجميده بخمسة أيام، إذ نشر بأنه مريض ، وتداولت غرف “تلجرام ” (واسعة الانتشار في المنطقة) أخبارًا عن وفاته داخل السجن، لكنها غير مؤكدة، في حين أن “القحطاني” مصاب بمرض سرطان الدم وحالته زادت سوءًا مؤخرًا، وفق قياديين، وبحسب ما كتبه الباحث في معهد “الشرق الأوسط ” تشارلز ليستر.

بيان عزل بتاريخ سابق

ملف “العمالة” كشف المستور، وتصاعدت حدة الخلاف حتى أعلن القيادي والرجل الثالث في “تحرير الشام” جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) انشقاقه عن الفصيل تنظيميًا وسياسيًا، في 14 من كانون الأول 2023، وتبرأ من أفعال “الهيئة”.
بعد ثلاثة أيام من انشقاق “أبو أحمد زكور”، تداولت معرفات “الهيئة” وإعلامها الرديف قرارًا جاء فيه أنه تم اتخاذ قرار عزل جهاد عيسى الشيخ، وتجريده من صلاحياته لسوء استخدام منصبه ومخالفته السياسة العامة.
حمل قرار العزل تاريخ 3 من كانون الأول، لكن جهاد عيسى الشيخ اعتبر أن قرار “تحرير الشام” يحمل تاريخًا سابقًا غير دقيق.
فشلت محاولة “تحرير الشام” باعتقال “أبو أحمد زكور” من ريف حلب، في 19 من كانون الأول 2023، بعدها كشف القيادي عن أربعة ملفات وقضايا نفذها “الجولاني” ومرتبط بها، هي تفجير قرب معبر “أطمة” الحدودي مع تركيا عام 2016، واستهداف بالمفخخات لمقاتلين ضمن “حركة نور الدين الزنكي” بريف حلب عام 2017، ومبايعة وتعاون فصائل من “الجيش الوطني السوري” مع “الهيئة”، والتعامل مع جهات خارجية مقابل ثمن وفتح السجون للاستخبارات البريطانية والأمريكية.

شرعي يرد

لم يتحدث “الجولاني” أو تصدر “الهيئة” أي بيان للرد على الملفات التي كشفها جهاد عيسى الشيخ، لكن رئيس المجلس الأعلى للإفتاء في “تحرير الشام”، عبد الرحيم عطون، رد على الاتهامات، في 20 من كانون الأول 2023، وقال إن “الهيئة ” بريئة مما نُسب إليها، واعتبره “زورًا وكذبًا”.
وأضاف أن الخلاف مع “أبو أحمد زكور” ليس خلاف “سلطة وكرسي” كما يروّج، إنما بقضايا فساد مالي واضح، وشبهات أمنية لا يمكن إغفالها، في قضية “خلايا الاختراق لمصلحة بعض الدول” لا يزال التحقيق فيها جاريًا.
من جانبه، قال جهاد عيسى الشيخ لعنب بلدي، إن الاتهامات الموجهة إليه من “إساءة استخدام منصبه ومخالفة السياسة العامة وقضايا فساد مالي وابتزاز وشبهات أمنية” عارية عن الصحة، لافتًا إلى أن “الجولاني” يعتمد على عطون للفتوى الدينية والترقيع وتجميل المشروع بأعين الجنود.

ظهور سادس لـ”الجولاني” خلال شهرين

بعد ارتفاع حدة الخلاف، كثّف “أبو محمد الجولاني” من ظهوره، إذ حضر، في 26 من كانون الأول 2023، مع وزراء في حكومة “الإنقاذ” المظلة السياسية لـ”الهيئة” ندوة حوارية بعنوان “الأعمال الحكومية بين الرؤى والمنجزات”، للحديث عن أعمال الحكومة خلال عام 2023، وأعطى وعودًا بدعم الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي وتطوير خدمات التعليم والصحة.
وظهر “الجولاني”، في 23 من كانون الأول 2023، خلال جلسة لكوادر إدارة التوجيه الشرعي ، وفي 6 من الشهر نفسه، ظهر بجامعة “إدلب” لمناقشة الواقع التعليمي في الجامعة وتطويره، واجتمع مع النخب الأكاديمية، دون أي تسجيل مصور عن فحوى اللقاء.
وفي الأسبوع الأول من تشرين الأول 2023، بعد حملة قصف شنتها قوات النظام السوري وروسيا على بلدات ومدن الشمال السوري، ظهر “الجولاني” ثلاث مرات، الأولى من داخل غرفة العمليات العسكرية، والثانية في أحد المستشفيات لزيارة المصابين، والثالثة خلال جولة على مراكز إيواء للنازحين.

ترقيع عشائري

أثارت قضية اعتقال “الهيئة” لرئيس مجلس شورى قبيلة “البكارة” في إدلب، الشيخ يوسف عربش (أبو الحسن)، في 20 من كانون الأول 2023، جدلًا واسعًا، وأصدر عدد من وجهاء القبيلة بيانًا استنكروا فيه عملية الاعتقال، وطالبوا بالإفراج عنه.
في 7 من كانون الثاني الحالي، أفرجت “الهيئة” عن الشيخ يوسف، وقال مجلس القبائل والعشائر السورية، إن الإفراج جاء بكفالة من المجلس، مع توجيه الشكر إلى “تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ”، ولاقى موضوع الكفالة تداولًا إعلاميًا واسعًا من إعلام “الهيئة” الرديف.
من جانبه، أوضح الشيخ يوسف عربش لعنب بلدي، أن اعتقاله لمدة 17 يومًا في سجون “تحرير الشام” كان على خلفية قربه من القيادي المنشق عن الفصيل جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور).
ونفى وجود كفالة من قبل مجلس القبائل والعشائر السورية للإفراج عنه، لافتًا إلى أن الكفالة “قصة واختراع” من قبل مجلس القبائل، مضيفًا أنه ليس عليه جرم أو مبلغ مالي.
وذكر أن اعتقاله كل هذه المدة كان لمعرفة وجود علاقات تجارية تجمعه مع “أبو أحمد زكور”، لكن لم يثبت ذلك، نافيًا تعرضه لظروف اعتقال سيئة.

استراتيجيات البقاء

ظهرت “تحرير الشام” لأول مرة في سوريا مطلع 2012، تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، وهي فصيل تميّز بخروجه من رحم تنظيم “القاعدة”، أبرز الفصائل “الجهادية” على الساحة العالمية، وأعلنت لاحقًا انفصالها عن أي تنظيم، واعتبرت نفسها قوة سورية محلية.
تسيطر “تحرير الشام” عسكريًا وأمنيًا على محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية وسهل الغاب، شمال غربي حماة، وعملت على بسط سيطرتها، من خلال حلّ بعض الفصائل وإزاحتها، ومصادرة أسلحتها، أو إجبارها على التماشي مع سياستها، ثم اتجهت لتفكيك الجماعات “الجهادية” التي يطغى المقاتلون الأجانب على تشكيلاتها العسكرية.
ولا يزال “أبو محمد الجولاني” م ُ درج ً ا  ضمن المطلوبين لأمريكا، وبمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه.
تسعى “تحرير الشام” إلى كسب شرعيتها وضمان تدفق مواردها وبقائها وإدامة سيطرتها، عبر اعتماد استراتيجية ثلاثية تجمع بين محاولات تحصيل شرعية محلية، وقبول إقليمي ودولي، وبناء قوة عسكرية، وفق بحث أعده الباحث المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات “السلفية الجهادية” عزام القصير.