وماذا بعد مواقف الانتقاد والرفض والاعتراض؟ ومن سيقود آلية سياسية وفكرية جديدة تعبر عن شعور وإرادة مئات الآلاف من السوريين الذين يتابعون المحادثات والمفاوضات التي تدور من حولهم باستغراب وقلق؟ قوى المعارضة السورية محقة بمطالبة الجميع أن تكون الأمم المتحدة وقراراتها هي الضامن والفاعل المؤثر في رسم خارطة الحل السياسي في سوريا. لكنها وأمام واقع محلي وإقليمي ودولي جديد لا بد أن تطالب المشاركين فيه بالكشف عن أوراقهم في التعامل مع النظام وأهداف هذا التحرك. بالمقابل قوى المعارضة السورية نفسها عليها الاستعداد لسيناريوهات كثيرة باتجاهات مختلفة تحتم إعادة ترتيب صفوف البيت المعارض قبل طرح استراتيجية التعامل مع الاحتمالات والمعادلات المرتقبة.
تريد موسكو تحويل الطاولة الرباعية التي أنشأتها وبشكل تدريجي إلى فرصة - منصة إقليمية جديدة تقود مسار ملف الأزمة السورية، بعد وصول العديد من المنصات الإقليمية والدولية الأخرى مثل أستانا وسوتشي والقمم الرباعية التركية الروسية الأوروبية إلى طريق مسدود.
يقابل الطاولة الرباعية في روسيا التحرك العربي الأخير حيال الملف السوري والتكتل الغربي الرافض لأي انفتاح على النظام. مؤشرات تقول إن العديد من العواصم العربية قد تقبل بالدعوة الروسية إلى الطاولة الرباعية، شرط انجلاء الغموض والكثير من الشفافية والتفاهم حول الأطر العامة الأساسية للحوار وأهمها الالتزام بالقرارات الأممية حول سوريا وشكل المرحلة الانتقالية وأهدافها.
كيف ستتحرك قوى المعارضة السورية وعلى من سترد؟ على الحراك الإقليمي الذي يدور بعيدا عن الإصغاء إلى ما تقول وتريد؟ أم على قياداتها ومؤسساتها التي لم تنجز أي اختراق سياسي حقيقي تسبب في منح الآخرين فرص التدخل والهيمنة على الملف والقرار تحت ذريعة إنقاذ سوريا؟ أم على الجهود التي تبذلها موسكو وطهران لإقناع أنقرة وبعض العواصم العربية بقبول خطة التسويات التي تقترحها، طالما أن الغرب لا يقدم سوى العرقلة وإبقاء الملف على ما هو عليه بانتظار إتمام قيادات شرقي الفرات مشروع الحكم الذاتي الانفصالي وإعلانه في اللحظة المناسبة؟.
تملك قيادات وكوادر المعارضة السورية الكثير من الخبرات والطاقات والتجارب في التعامل مع النظام. مشكلتها هي افتقادها لآلية توحيد منابرها في الداخل والخارج. ثم في رسم معالم خارطة طريق التعامل مع الدوائر الثلاث للوصول إلى ما تريد. هي لو فعلت اللازم بالأمس لما كانت وجدت نفسها في ورطة اليوم. فرصة اللحظة مفصلية إذا في عمر الثورة وأهدافها ومطالبها. الرفض والاعتراض لوحدهما لن يكفي. اعتراضها على المسار الجديد دون بدائل وآلية عمل ومتابعة حقيقية، سيتركها في ورطة معارضة اللاعب الإقليمي إلى جانب معارضة النظام وهو ما سيعقد الأمور أكثر فأكثر. المطلوب هو خروج قوى المعارضة السورية بأسرع ما يكون من أزماتها الداخلية لتشكيل الدائرة الرابعة في التوازنات ولتحظى بفرصتها الحقيقية في الجلوس أمام الطاولة.
نرصد حملات يطلقها الكثير من الناشطين السوريين في مناطق شمالي سوريا والعديد من المدن الغربية. ونسمع أصواتا من شرقي الفرات تدعو للتفاهم والتنسيق حول انطلاقة ثورية جديدة تكرس مطلب التغيير ورفض خطوات التطبيع مع نظام الأسد. رسائل مهمة في هذه المرحلة الصعبة المنفتحة على أكثر من احتمال وسيناريو في التعامل مع ملف الأزمة السورية.
بين الأولويات الممكن تبنيها وتفعيلها في صفوف قوى المعارضة في خارطة الطريق الجديدة:
- عودة الجامعة العربية إلى سوريا ينبغي أن تسبق عودة سوريا إلى الجامعة العربية.
- خروج الميليشيات من كافة الأراضي السورية ينبغي أن يكون مسؤولية النظام وأن يتحمل هو أعباء تنفيذ ذلك طالما أنه الجهة التي فتحت الطريق أمام دخولها.
- ضرورة إعلان النظام في دمشق عن قرار التخلي عن حاجته لأي دعم عسكري من الخارج سواء كان روسيا أو إيرانيا والشروع في تنفيذ ذلك.
- إعطاء "قسد" فترة زمنية محددة للتخلي عن الاستقواء بالدعم الأميركي، والقطع مع عناصر حزب العمال الكردستاني، إلى جانب التعهد السياسي الكامل بوحدة سوريا والتخلي عن أي مشروع فدرالي أو كونفدرالي، يقابله الانفتاح على مطالب الشريحة الكردية بالمواطنة الكاملة والمشاركة السياسية والاجتماعية في بناء سوريا الجديدة.
طبيعي جدا أن تنقسم المعارضة إلى قسمين أو صوتين أو أكثر في التعامل مع الملف السوري وطرح الحلول، وأن تعيش حالة من الارتباك والتردد حيال التحولات الحاصلة. لكن ما هو غير طبيعي أن لا تتحرك باتجاه إنشاء آلية تنسيق سياسي وتنظيمي موحد بأسرع ما يكون للدفاع عن شعاراتها ومبادئها وما خرجت من أجله إلى الشوارع والساحات قبل عقد ودخلت بسببه السجون والمعتقلات قبل عشرات السنين.
أسهل الأمور هو التشهير بأخطاء الآخرين. أصعبها هو الحديث عن الأخطاء التي نرتكبها نحن. الوقت يضيق ومتطلبات المرحلة اليوم هي غير ما كان يقال قبل عقد وفرص الدعم التي كانت تقدم للثوار من الخارج لم تعد كما كانت في السابق.
بين متطلبات المرحلة أيضا تسريع إنجاز إعادة تشكيل المعارضة لهيئاتها ومؤسساتها ومنصاتها السياسية والفكرية والمدنية خلال فترة زمنية محددة. مع الاستعانة بمنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث السورية المنتشرة في الداخل والعديد من العواصم للمساهمة في إعداد مسودات أفكار وبرامج حلول سياسية قابلة للتطبيق، يعقبها الدعوة لمؤتمر شامل يخرج بدراسة المسودات ويدمجها في ورقة مشروع سياسي قانوني اجتماعي إصلاحي يتم التفاهم حوله بقرار الأغلبية من الحضور والمشاركين. ثم إعلان مضمون الورقة في مؤتمر صحفي موجه للشعب السوري وللرأي العام العالمي من قبل لجنة سياسية أكاديمية فكرية ويسلم للأمانة العامة لجامعة الدول العربية ليكون بمثابة التصور الذي تتبناه وتريده أطراف المعارضة السورية. وليكون هذا النص الورقة الممكن أن تساعد العواصم العربية في محاورة النظام واختبار مدى جديته وإنفتاحه على هذه البنود والرغبة في التفاهم حول المسار الجديد.
لن يكفي قوى المعارضة السورية حتما تراجع العواصم العربية عن دعوة النظام لحضور قمة الرياض ولن يرضيها التخلي عن تعويم بشار الأسد عربيا. فهناك عقبة أخرى حول من الذي سيزيل العصي من دواليب الحلحلة في الملف السوري خصوصا إذا ما أخذت واشنطن ما تريد وبقيت الأمور على حالها كما هي اليوم؟
يمكن قبول وجود نوايا عربية نحو اعتماد أسلوب جديد مع النظام لإقناعه بالرحيل. وهذا لا يعني بالضرورة التخلي عن المواقف المعلنة قبل عقد حيال بشار الأسد ونظامه، بعدما تغيرت لعبة التوازنات الإقليمية التي أضرت بمصالح المنظومة العربية في سوريا. ويمكن أيضا دعم التحرك العربي الجديد حيال النظام في دمشق، لكن ذلك لا يمكن أن يكون على حساب قوى المعارضة السورية ودون الأخذ بما تقوله وتريده، وأن يشمل الحراك الكثير من الشفافية حول أهدافه ومدى قدراته في الضغط على بشار الأسد للالتزام بتنفيذ القرارات الأممية وتفعيل خطط المرحلة الإنتقالية وقبوله الحل السياسي بدلا من محاولة منحه فرص تأهيل نفسه والاستقواء على شعبه.
ما قيل في أعقاب قمة جدة التشاورية العربية المصغرة حول التشديد على أن الحل السياسي هو الحل الوحيد في سوريا، مع ضرورة وجود دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، إيجابي ومن الممكن البناء عليه. فمن الضروري دعم خطط استرداد سوريا كحلقة أساسية في المنظومة العربية وربما قد يكون ذلك فرصة لإنجاح ما فشلت فيه هذه المنظومة قبل عقد. لكن الرهان على اعتماد النظام في دمشق كمحاور وحيد يعطي ويأخذ كما يشاء، لن يساهم إلا في تعقيد المسائل وقطع الطريق على الحلول العادلة.
مصطلح تأهيل النظام بحد ذاته مقلق إذا ما كان ذلك بين أهداف البعض عربيا. إعادة التأهيل تعني المواصلة مع الحالة القائمة، بينما الهدف ينبغي أن يكون إلزام النظام بما يرفضه منذ سنوات وهو فتح الطريق أمام المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية في سوريا، ما سيعقب ذلك هو ليس إعادة تأهيل بل إعادة بناء سوريا من جديد.
الحديث يدور حول بناء معارضة جديدة تدخل على خط لعبة التوازنات الحاصلة موحدة متماسكة وفاعلة وبصناعة وطنية سورية بأسرع ما يكون.
-----------
موقع تلفزيون سوريا