نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


قد نتكهّن بما سيكتب على قبر بريغوجين... ولكن ماذا سيكتب على قبر بوتين؟





يفاجئنا الروس دوماً بصعودهم الشاهق ثم هبوطهم حتى الحضيض. والذنب دوماً على المؤامرات الإمبريالية! في هذا السياق، أرجح أن بعض الروس يشمئزون من اليابانيين لأنهم، بعد هيروشيما، قرروا أن يكفوا عن المغامرة بمصيرهم قرباناً للأمجاد الإمبراطورية، وليصبحوا في طليعة الشركاء في بناء الغرب الحضاري. أما بوتين فيستمر في نطح حائط العصر، حالماً بإمبراطوريات ما قبل التاريخ. فيا لمأساتك يا إيفان الطيب التواق والفهيم والكادح، إذ تبيعك طُغَم متتالية من الأفاقين الروس أشلاء على مذبح "عظمتهم الخائبة".


 
 
لأكثر من عقدين، تحدث بوتين عن صلابة برجه الروسي الشاهق، لكن ما حصل بعد حملة بريغوجين وصراخ بوتين المهزوز، ينذر بالتدحرج البطيء نحو مأساة مضنية أشبه بالمأساة السورية. ظلم قاهر، تفسخ مديد، وتفلت للدولة، فيما يمسك الطاغية بمفاتيح أوكار المافيات وزمام البلاد. 
 
الفضل في ذلك ليس لـ"فاغنر"، بل للشجاعة الكاشفة للأوكرانيين وبراعتهم، ليذوب سحر قوة بوتين وبراعته وشجاعته كالملح في البحر. لكن بوتين لا يزال يسيطر على مقاليد الكرملين والحرس الوطني وأجهزة أمن لا تحصى. والأهم أنه لا يزال يملك السلاح السري والهالة الجوفاء لبشار الأسد ذاتها، فـ"بوتين أو يحترق البلد". 
 
بتمرده، ومن دون أن يقصد، أطلق بريغوجين أبلغ استفتاء على نظام بوتين. لم ينزل الروس إلى الشوارع رافعين صور بوتين كما فعل المصريون لمنع جمال عبد الناصر من التنحي عام 1967 غداة هزيمة حزيران. تماماً كما لم يرفع الصينيون صور شي جينبينغ إثر احتجاجات صفر كوفيد في الصين. نعم، يستثمر المستبدون في خوف الناس. لكن السلاح المضاد للشعوب الذي لا يطاله العقاب، هو اللامبالاة والتراخي والإضراب البطيء، لينخر صلب الدولة. 
 
بالنسبة إلى أوكرانيا، كان لما جرى مغزى عميق! عند آخر تحليل كان السباق يجري على مسارين متضادين. الأول سباق استنفاد الطاقات البشرية والبنيوية المحدودة لأوكرانيا، بالمقارنة مع الاحتياطي الاستراتيجي الهائل لروسيا. والمسار الثاني هو بداية التشقق البطيء والمضني للدولة الروسية. ولقد بدأ هذا المسار أولاً!
 
في إنزال النورماندي 1944، استغرق الأمر أسابيع عديدة حتى تمكنت جيوش الحلفاء من عبور الشاطئ. ولا يتوقع الخبراء أن يكون الهجوم المضاد الأوكراني أسرع من ذلك. لكن انسحاب 25 ألفاً من جنود "فاغنر" من الجبهة سيساعد الأوكرانيين بلا شك.
 
ورغم أنه ليس ثمة مؤشرات إلى التفكك، لكن مجرد احتلال الشيشان العاصمة مرة بعد أخرى، يظهر هشاشة جيش يخوض "حرباً كونية" وينخره الفساد حتى العظم. 
 
بعدما استهلك بوتين نخبة قواته في البداية، لن يكون جنود الاحتياط الذين يجلبهم من أقاصي روسيا بديلاً لها. وفيما يتضح أن روسيا لم تعد قادرة على الاستيلاء على أراض معتبرة، فمن المحتمل أن تفقد الكثير. 
 
بعد باخموت، أصبح بريغوجين "البطل" الوحيد الذي أنتجه نظام بوتين. وكانت مسخرة بوتين حين تحدث عن "طعنة في الظهر" ثم "العفو". ولأن ليس كل ما يقوله الكاذب كذباً، استمع الشعب الروسي بشغف من بريغوجين إلى حقيقة أن الحرب خطأ وعدوان إجرامي لم ينتج من التهديد الأطلسي، بل من صراعات المافيات في موسكو. 
 
 
كان الهاجس النووي يخيم على الجدل الغربي تجاه الحرب، لكنها تصبح غير ذات مغزى، ما دام الوضع الروسي بهذه الهشاشة. فقرار الحرب النووية يتطلب بنية متماسكة تساهم فيها سلاسل قيادة من آلاف الأشخاص الموحدين قلباً وقالباً. لكن إذ تنحدر روسيا نحو فوضى أمراء الحرب النوويين، يحتاط الغرب من احتمال آخر. 
 
فحين سمح بوتين بذهاب بريغوجين إلى المنفى، لم يفعل ذلك حقناً للدماء، فهو يرسل، من دون وازع، مئات آلاف الجنود إلى المذابح العبثية. لكن حين تمكن بريغوجين من احتلال ثلاث مدن هامة في ساعات، واستولى على مستودعات استراتيجية بمليارات الدولارات للجيش الروسي، ثمة من يقول إن بينها سلاحاً نووياً وكيماوياً تكتيكياً، اختار بوتين التراجع بعدما تبين خواء موقفه العسكري. 
 
تمنح النظم الاستبدادية أجهزتها المافيوية صلاحيات متداخلة، وتستخدم زعماء فاشلين متنازعين لا يشكلون تهديداً لسلطتها. لكن نظاماً كهذا لن يكون فعالاً في حرب مستمرة. ستشجع فضيحة خواء النظام الآخرين من "الكبار" لعلهم ينجحون بدورهم كمنقذين لروسيا. 
 
وإذ يبحث كل مسؤول في موسكو عن حائط يستند إليه، تنتظر دوائر الكرملين الاتجاه الذي تهب منه الريح وتتردد في مجابهة بريغوجين، ويفضل بوتين الابتعاد من الشرفات التي صارت سلاحاً لتصفية الحسابات، ليقبع في دشم الحرب النووية الاستراتيجية. 
 
من الواضح أن بوتين لا يسيطر على كل روسيا ولا جيشه، بل صار بوتين مجرد مؤشر إلى موازين القوى في لعبة الـ “House of Cards”. وفيما ينتظر الجميع حملات تطهير واسعة، فإن عدم حصولها يثير المزيد حول رجل الكرملين القوي / الضعيف. 
 
تعلمت الصين عبراً كثيرة من سيرة روسيا. فبعدما فسّر الحزب الشيوعي عبرة سقوط الاتحاد السوفياتي بتخلي الشيوعيين عن مبادئهم، يكتشف الآن عبرة أبلغ من تشقق الدولة الأوليغارشية عند أول مغامرة عسكرية طائشة. فلقد تواصلت الصين مع الولايات المتحدة لتطالب بعدم تسريع التداعي الروسي بالنظر إلى ما يشكله ذلك من خطر على أمنها القومي.
 
لطالما حسد جنرالات في مطار حميميم في سوريا وفي موسكو، بريغوجين على الثروات الأسطورية التي يجنيها من نفط سوريا وفوسفاتها وآبار ليبيا ومناجم الذهب والألماس واليورانيوم في أفريقيا الوسطى ومالي ومدغشقر إلخ... لذلك، يتراكض جنرالات الكرملين للاستيلاء عليها. ويتوسط بوتين مع بشار الأسد وأردوغان للقبض على ثروات "فاغنر"، بينما تشتد معارك المافيات في الدول الأخرى. لكن الأمر اختلف بعدما استعاد بريغوجين غطاءه تحت راية الرئيس البيلاروسي لوكاشنكو، ليصبح لدينا عشرات الألوف من الضباط الروس من مرتزقة "فاغنر" الذين لن يكفيهم راتب وزارة الدفاع قط ثمناً لمشروبهم اليومي. 
 
في هذا الخضم، تقتحم بريطانيا أزماتها لتكون الرائدة في تمكين أوكرانيا في تسريع قدرتها على تحرير شبه جزيرة القرم. وتطرح فتح الطريق الأطلسي لأوكرانيا. فمن دون ذلك لا يمكن منع صانعي السلاح النووي السوفياتي في أوكرانيا، من إصلاح خطئهم التاريخي بالتخلي عن سلاحهم النووي لحظة الانفراط السوفياتي.  
 
وبذلك قد نستطيع أن نقدر ما سيكتب على قبر بريغوجين "..ك يا بوتين"، لكن الأيام ستعلمنا ما سيكتب على قبر بوتين.
-----
النهار العربي

سمير التقي
السبت 8 يوليوز 2023