ما هو غير خرافيّ، على أيّ حال، أنّ الروبوتات أسرع إنجازاً من البشر، وهي بلا قياس أكثر فعاليّة وانضباطاً في جمع المعطيات وفي فرزها، وهذا بينما المحاولات متواصلة لتطوير قدراتها ولجعلها أذكى في أداء ما تؤدّيه من وظائف. بيد أنّها لن تمتلك الخيال الإنسانيّ ولا القدرة على تنفيذ أعمال متعدّدة وغير مبرمجة يستطيع البشر تنفيذها، فضلاً عن جوانب قصور كثيرة أخرى. فهي، بالتالي، أشدّ كفاءة من البشر في تطبيق ما سنّه الدماغ البشريّ.
وبين هذين الحدّين يمكن التوقّف عند قُطبي هذه العلاقة: فما من شكّ في أنّ الذكاء الاصطناعيّ، وعموم الثورة التقنيّة التي يسمّيها البعض «الثورة الصناعيّة الرابعة»، سوف يدرّان على البشريّة ثراء هائلاً. هذا على المدى البعيد، لكنْ على المدى القريب هناك مخاطر كبرى باتت تفقأ العين.
هنا، لا بأس بالإشارة إلى بعض أهمّها:
فاقتصاديّاً، تسبّبت كلّ نقلة تقنيّة كبرى عرفها التاريخ ببطالة تصيب مَن ألغى التقدّمُ التقنيّ مهنهم ووظائفهم. واليوم، بسبب سرعة «الثورة الصناعيّة الرابعة» وكثافتها، تبدو حركة الإلغاء أشمل وأسرع. لكنْ فيما تترافق تلك الثورة مع الاقتصاد النيوليبراليّ، ومع عدم تطوير شبكات أمان اجتماعيّ تحمي الأفقر والأضعف، يُخشى أن تترتّب عن ذلك آلام إنسانيّة لا تُحتمل، تقارب الآلام التي أحدثتها الثورة الصناعيّة في القرن الثامن عشر. آلام كهذه سوف تليها بالضرورة خضّات سياسيّة قد لا يكون الصعود الشعبويّ الراهن غير علامتها الأولى. ثمّ إذا كانت الديمقراطيّة تتطلّب طبقات وسطى عريضة وقويّة ومستقرّة، فهذا ما أضعفه كثيراً التحوّل الذي أصاب المهن من جرّاء الابتكارات التقنيّة. ذاك أنّ صيغة عقود العمل لثلاثين عاماً في المهنة ذاتها، والتي يليها تقاعد مضمون، باتت من الماضي الميّت.
وأمام تحوّلات جبّارة كالتي تحصل راهناً لا بدّ من التدخّل في عمل السوق، على نحو ما فعلت إداة ليندون جونسون في الستينات بإنشائها «المجتمع العظيم»، وهذا فضلاً عن الاستثمار في تعليم المهن الجديدة ومواكبة تغيّراتها وسرعة هذه التغيّرات.
لكنْ حتّى على المدى الأبعد، حيث يُفترض أن يطرح الازدهار ثماره، فإنّ حصول تحوّلات بنيويّة في السياسة والاقتصاد هو وحده ما يضمن شمول السكّان جميعاً بالثراء المستجدّ. غير هذا يجعل الشركات الكبرى وحدها تحتكره، تاركة للسواد الأعظم فُتات الفتات.
ومُقلقٌ أيضاً ما يتيحه التقدّم التقنيّ على صعيد تزوير الحقائق وإشاعة الأخبار الزائفة. ففي الشبكات الاجتماعيّة، كما نعلم، تتحكّم الخوازميّات الذكيّة بما نراه، وبالتالي فهي تؤثّر على ما نقرأ وما لا نقرأ. يعزّز هذا المنحى أنّ مصادرة انتباهنا ومواضع تركيزنا، والاستيلاء على ما نملكه من موادّ رقميّة وإعادة بيعه، إنّما صارا بِيزنَساً مُربحاً. ومؤسّسات تقنيّات المعلومات هي اليوم بين أكثر شركات العالم تحقيقاً للأرباح. يفاقم هذه الخطورة ما نعرفه عن ضخامة التغيير في الميديا، نوعيّاً وعالميّاً، الذي أحدثته فايسبوك ويوتيوب وتويتر وأخواتها.
فالمؤسّسات تلك تساعد على الاختيار المنظّم لدفق المعلومات الهائل من خلال نظام في الأولويّات يخدم مصالح تلك الشركات: ما الذي يظهر أوّلاً في نيوزفيد، وما الذي يظهر ثانياً إلخ...، وما المادّة التي تُبَرَّز وما المادّة التي تُحجب. والحال أنّه كلّما زاد التفاعل والمشاركة في مجال الإعلام الاجتماعيّ زادت الفرص المتاحة للإعلانات، لكنْ زادت أيضاً فرص التعرّف على مَن هم هؤلاء، وما الذي يحبّونه، وما الإعلانات التي يمكن توجيهها إليهم، وهذا فيما الاستخدام اليوميّ للإنترنت يتعاظم كونيّاً ويوميّاً.
والأخبار الزائفة تنتقل بسرعة تفوق كثيراً سرعة انتقال الحقائق، وزيفُها قد يُستخدَم أداة في تزوير انتخابات ما، أو في التشكيك بالعلم وبالمؤسّسات لصالح التفاسير الشعبويّة المبسّطة، بل هي قد تُستخدم لترويج سلعة ضارّة وتشويه سلعة مفيدة.
ثمّ هناك مسألة المسؤوليّة التي تثيرها أسلحة الذكاء المستقلّة، وهو ما نراه على أوضح أشكاله في المُسيّرات (الدرونز). ذاك أنّ الأخيرة هي التي تقرّر المحطّة النهائيّة من مهمّتها، أي محطّة القتل. فهل يُترك للآلات أن تتّخذ قرارات تتّصل بحياة البشر وموتهم. لقد حذّر كثيرون من تطوّر لا سيطرة عليه لأدوات الفتك هذه، مؤيّدين منعاً عالميّاً للأسلحة ذاتيّة القرار والحركة. لكنّ ما يحصل اليوم هو سباق تسلّح كونيّ في مجال المسيّرات. والراهن أنّ تسليم قرارات حياة وموت للآلات إنّما يرقى إلى استهانة بالمبدأ الأساسيّ المتعلّق بالفاعل الإنسانيّ المسؤول الذي يُحاسَب على أفعاله. أمّا التقدّم على طريقٍ لا مكان فيه للمسؤوليّة فيبقى أقرب إلى تراجع نحو البربريّة.
كذلك يتبدّى أحياناً، وفق ما يروّجه البعض، أنّ التقدّم التقنيّ سوف يُعفينا من التفكير ويختم التاريخ بقفل الحلّ السحريّ الناجز. فهناك ما هو «صحّ» وما هو «خطأ» ممّا يُترك للتقنيّة أن تحدّدهما، فيما علينا أن نتحوّل إلى مُتَلقّين آحاديّي البعد وعديمي المبادرة وفاقدين لكلّ طاقة نقديّة.
وفضلاً عن الكسل الذي تغري به هذه الصورة، يُستبعَد أن «تفكّر» الآلة، عملاً بما تمّ تلقيمها به، لصالح الأفقر والأضعف. أمّا «الحلول الموضوعيّة» التي ستقدّمها لمشكلات خِلافيّة في المصالح والأفكار والبرامج، فستأتي بالتعريف منحازة للأقوياء والأغنياء الذين لقّموها.
هكذا لا يتبقّى لنا من الثراء الموعود والمؤكّد إلاّ الإفقار، بحيث نبدو مثل قطار سرّعْنا حركته أضعافاً مضاعفة فلم ينجم عن ذلك إلاّ تسريع اصطدامه بالحائط
----------
الشرق الاوسط.
وبين هذين الحدّين يمكن التوقّف عند قُطبي هذه العلاقة: فما من شكّ في أنّ الذكاء الاصطناعيّ، وعموم الثورة التقنيّة التي يسمّيها البعض «الثورة الصناعيّة الرابعة»، سوف يدرّان على البشريّة ثراء هائلاً. هذا على المدى البعيد، لكنْ على المدى القريب هناك مخاطر كبرى باتت تفقأ العين.
هنا، لا بأس بالإشارة إلى بعض أهمّها:
فاقتصاديّاً، تسبّبت كلّ نقلة تقنيّة كبرى عرفها التاريخ ببطالة تصيب مَن ألغى التقدّمُ التقنيّ مهنهم ووظائفهم. واليوم، بسبب سرعة «الثورة الصناعيّة الرابعة» وكثافتها، تبدو حركة الإلغاء أشمل وأسرع. لكنْ فيما تترافق تلك الثورة مع الاقتصاد النيوليبراليّ، ومع عدم تطوير شبكات أمان اجتماعيّ تحمي الأفقر والأضعف، يُخشى أن تترتّب عن ذلك آلام إنسانيّة لا تُحتمل، تقارب الآلام التي أحدثتها الثورة الصناعيّة في القرن الثامن عشر. آلام كهذه سوف تليها بالضرورة خضّات سياسيّة قد لا يكون الصعود الشعبويّ الراهن غير علامتها الأولى. ثمّ إذا كانت الديمقراطيّة تتطلّب طبقات وسطى عريضة وقويّة ومستقرّة، فهذا ما أضعفه كثيراً التحوّل الذي أصاب المهن من جرّاء الابتكارات التقنيّة. ذاك أنّ صيغة عقود العمل لثلاثين عاماً في المهنة ذاتها، والتي يليها تقاعد مضمون، باتت من الماضي الميّت.
وأمام تحوّلات جبّارة كالتي تحصل راهناً لا بدّ من التدخّل في عمل السوق، على نحو ما فعلت إداة ليندون جونسون في الستينات بإنشائها «المجتمع العظيم»، وهذا فضلاً عن الاستثمار في تعليم المهن الجديدة ومواكبة تغيّراتها وسرعة هذه التغيّرات.
لكنْ حتّى على المدى الأبعد، حيث يُفترض أن يطرح الازدهار ثماره، فإنّ حصول تحوّلات بنيويّة في السياسة والاقتصاد هو وحده ما يضمن شمول السكّان جميعاً بالثراء المستجدّ. غير هذا يجعل الشركات الكبرى وحدها تحتكره، تاركة للسواد الأعظم فُتات الفتات.
ومُقلقٌ أيضاً ما يتيحه التقدّم التقنيّ على صعيد تزوير الحقائق وإشاعة الأخبار الزائفة. ففي الشبكات الاجتماعيّة، كما نعلم، تتحكّم الخوازميّات الذكيّة بما نراه، وبالتالي فهي تؤثّر على ما نقرأ وما لا نقرأ. يعزّز هذا المنحى أنّ مصادرة انتباهنا ومواضع تركيزنا، والاستيلاء على ما نملكه من موادّ رقميّة وإعادة بيعه، إنّما صارا بِيزنَساً مُربحاً. ومؤسّسات تقنيّات المعلومات هي اليوم بين أكثر شركات العالم تحقيقاً للأرباح. يفاقم هذه الخطورة ما نعرفه عن ضخامة التغيير في الميديا، نوعيّاً وعالميّاً، الذي أحدثته فايسبوك ويوتيوب وتويتر وأخواتها.
فالمؤسّسات تلك تساعد على الاختيار المنظّم لدفق المعلومات الهائل من خلال نظام في الأولويّات يخدم مصالح تلك الشركات: ما الذي يظهر أوّلاً في نيوزفيد، وما الذي يظهر ثانياً إلخ...، وما المادّة التي تُبَرَّز وما المادّة التي تُحجب. والحال أنّه كلّما زاد التفاعل والمشاركة في مجال الإعلام الاجتماعيّ زادت الفرص المتاحة للإعلانات، لكنْ زادت أيضاً فرص التعرّف على مَن هم هؤلاء، وما الذي يحبّونه، وما الإعلانات التي يمكن توجيهها إليهم، وهذا فيما الاستخدام اليوميّ للإنترنت يتعاظم كونيّاً ويوميّاً.
والأخبار الزائفة تنتقل بسرعة تفوق كثيراً سرعة انتقال الحقائق، وزيفُها قد يُستخدَم أداة في تزوير انتخابات ما، أو في التشكيك بالعلم وبالمؤسّسات لصالح التفاسير الشعبويّة المبسّطة، بل هي قد تُستخدم لترويج سلعة ضارّة وتشويه سلعة مفيدة.
ثمّ هناك مسألة المسؤوليّة التي تثيرها أسلحة الذكاء المستقلّة، وهو ما نراه على أوضح أشكاله في المُسيّرات (الدرونز). ذاك أنّ الأخيرة هي التي تقرّر المحطّة النهائيّة من مهمّتها، أي محطّة القتل. فهل يُترك للآلات أن تتّخذ قرارات تتّصل بحياة البشر وموتهم. لقد حذّر كثيرون من تطوّر لا سيطرة عليه لأدوات الفتك هذه، مؤيّدين منعاً عالميّاً للأسلحة ذاتيّة القرار والحركة. لكنّ ما يحصل اليوم هو سباق تسلّح كونيّ في مجال المسيّرات. والراهن أنّ تسليم قرارات حياة وموت للآلات إنّما يرقى إلى استهانة بالمبدأ الأساسيّ المتعلّق بالفاعل الإنسانيّ المسؤول الذي يُحاسَب على أفعاله. أمّا التقدّم على طريقٍ لا مكان فيه للمسؤوليّة فيبقى أقرب إلى تراجع نحو البربريّة.
كذلك يتبدّى أحياناً، وفق ما يروّجه البعض، أنّ التقدّم التقنيّ سوف يُعفينا من التفكير ويختم التاريخ بقفل الحلّ السحريّ الناجز. فهناك ما هو «صحّ» وما هو «خطأ» ممّا يُترك للتقنيّة أن تحدّدهما، فيما علينا أن نتحوّل إلى مُتَلقّين آحاديّي البعد وعديمي المبادرة وفاقدين لكلّ طاقة نقديّة.
وفضلاً عن الكسل الذي تغري به هذه الصورة، يُستبعَد أن «تفكّر» الآلة، عملاً بما تمّ تلقيمها به، لصالح الأفقر والأضعف. أمّا «الحلول الموضوعيّة» التي ستقدّمها لمشكلات خِلافيّة في المصالح والأفكار والبرامج، فستأتي بالتعريف منحازة للأقوياء والأغنياء الذين لقّموها.
هكذا لا يتبقّى لنا من الثراء الموعود والمؤكّد إلاّ الإفقار، بحيث نبدو مثل قطار سرّعْنا حركته أضعافاً مضاعفة فلم ينجم عن ذلك إلاّ تسريع اصطدامه بالحائط
----------
الشرق الاوسط.