سيتكرر الأمر نفسه في محافظة يزد التي حصلت فيها الأصوات الباطلة أيضاً على المركز الثاني. كما وردت عدة أخبار عن حالات مماثلة في أغلب المراكز الانتخابية. يؤكد المحللون أن ظاهرة هذه الأصوات ليست جديدة، ففي انتخابات الرئاسة عام 2021 جاءت الأصوات الباطلة في المركز الثاني بعد الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي، وحصلت على 13% من أصوات الإيرانيين! تؤكد تقارير غير حكومية أن نسبتها في الانتخابات الحالية قد تتجاوز 30% حيث ظهر في نتائج لاحقة، أن نسبة المشاركة في طهران، فيما لو حذفت الأصوات الباطلة، لن تتعدى 10%، ليحصل المتصدر حتى الآن على تأييد 5% فقط من الناخبين في العاصمة.
بات محرجاً التزوير الفاضح لنتائج الانتخابات ونسب المشاركة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خصوصاً مع التقاط الإيرانيين لمقاطع مصوّرة لمراكز انتخابات شبه فارغة، في انتخابات حطمت الرقم القياسي في المقاطعة، حيث اضطرت السلطات الرسمية للاعتراف بأن نسبة المشاركين كانت بحدود 40% ممن يحق لهم التصويت، طبعاً المعارضون يعتبرون أن هذه النسبة كاذبة أيضاً. هذا الإحراج من التزوير ترك هامشاً وحيداً لموظفي الدولة والجنود الذين يضطرون للذهاب إلى التصويت حفاظاً على وظائفهم، وهو العبث بالنتائج من خلال البطاقات الباطلة التي باتت سمة مميزة يتحدث عنها المجتمع الإيراني بشيء من الفكاهة، خلال كل انتخابات جرت في العقد الأخير.
كما كان يفعل نظام الأسد في سوريا، حيث يطلق الشائعات من مثل أن من لا يشارك في التصويت سيخسر عمله أو يمنع من السفر. كذا تفعل السلطات الإيرانية
لدينا نحن السوريين خبرة طويلة الأمد مع هذا النوع من الانتخابات المزيّفة، حيث حرص النظام على إخراج صورة مقبولة عن "الأعراس الانتخابية" السورية. ليست مصادفة أن الإعلام الرسمي الإيراني يطلق عليها نفس الوصف! بينما ذهب المواطنون الإيرانيون إلى تسمية أخرى، فأطلقوا عليها "السيرك الانتخابي". وكما كان يفعل نظام الأسد في سوريا، حيث يطلق الشائعات من مثل أن من لا يشارك في التصويت سيخسر عمله أو يمنع من السفر. كذا تفعل السلطات الإيرانية، فيردّ المواطنون بالذهاب إلى مراكز الاقتراع لتقديم أصوات باطلة، ليس تجنباً لعقوبات قد تصل إلى الملاحقة القضائية بتهم مفبركة، بل أكثر من ذلك. إنهم في العمق، يهزؤون من كامل المؤسسة السياسية.
في بيان لمحمد خاتمي، خامس رئيس في الجمهورية الإسلامية أصدره قبل عام من اليوم، دعا الرجل مجلس صيانة الدستور إلى وقف "الإشراف التعسفي" على الترشح للانتخابات، الذي أدّى إلى القضاء على جميع المنافسين الإصلاحيين في الانتخابات. وكما هو معلوم فإن المرشد الأعلى هو من يعيّن مجلس صيانة الدستور. ولذلك جاءت هذه الانتخابات بلون واحد هو لون أصولي متشدد بل وبعضه متطرف في تشدده. ليُفرض على الشعب الإيراني الاختيار بين المتشدد والأكثر تشدداً، فذهب الناس إلى المقاطعة أو للورقة الباطلة.
من بين المقاطعين لهذه الانتخابات كان خاتمي. في واحد من التعليقات، ذكر أحد الناشطين أن "الفائز في انتخابات الجمعة هو محمد خاتمي، الذي عاد إلى أحضان الشعب". ربما يشي هذا التعليق بموقف الإصلاحيين، بينما يرى عموم الشارع المعارض أن الإصلاحيين سوف يحافظون على حكم رجال الدين وإنْ بصورة ألطف، فيصفونهم بأنهم "معارضة ترتدي العمامة"، ويجب ألا تكون لهم أية فرصة في مستقبل إيران.
خلال الحملة الحكومية غير المسبوقة لحث المواطنين على المشاركة في الانتخابات، صرح المرشد الأعلى علي خامنئي بأن "عدم المشاركة في الانتخابات لن تحل مشكلة من مشكلات البلاد". ليعلق ناشطون سياسيون إيرانيون معارضون، بأن كلام المرشد صحيح، لكنه يستلزم استتباعه بسؤال "ما المشكلات التي سيتم حلها من خلال المشاركة؟". للمفارقة، كثيراً ما كان خامنئي يتحدث بتبخيس واحتقار حول نسب المشاركة الانتخابية في دول الغرب والتي لا تصل لأكثر من 40%، وقد وصفها مرة بأنها "فضيحة وعار"، لكن حول نسبة المشاركة اليوم في إيران فإنه يراها "مشاركة حماسية"، بل ويذهب أبعد من ذلك، فيصفها بأنها "جهاد وملحمة تاريخية"!
يرى الإيرانيون أن المرشحين الذين نالوا رضا مجلس صيانة الدستور المتحيّز، يفتقدون لأي برنامج يعالج مشكلات البلاد، وأهمها الفقر والفساد غير المسبوق، ويرون أن هؤلاء أصلاً هم أهم رموز هذا الفساد، وأنهم لا يخوضون انتخابات تشريعية، ولا يعنيهم في شيء معالجة أزمات البلد، بقدر ما يخوضون لعبة تقاسم الغنائم، دون أن تكون لهم أية علاقة بمشكلات الشعب الإيراني. ربما يكون ما عنونت به صحيفة "جملة" الإيرانية على صدر صفحتها الأولى، هو أبلغ تعبير عما يجول في دواخل الناس "مكان الشعب فارغ في مجلس الشعب". بطبيعة الحال فإن إحساس الإيرانيين بهذا الفراغ العدمي لتمثيل الشعب، لا بد أن يدفعهم للبحث عن مستقبلهم في الشارع وليس في البرلمان، وهو ما مارسوه إثر اغتيال "مهسا أميني" قبل عامين.
الإيرانيون غاضبون من قمع الحريات، وغاضبون من قضايا الفساد التي تخرج للعلن، وهي بمليارات الدولارات، وغاضبون من أجل ثرواتهم الوطنية التي يهدرها نظام الملالي
كانت السلطات قد أدركت مبكراً عدم اهتمام المواطنين في المدن الكبرى بالمشاركة في الانتخابات، فتحوّل الاهتمام إلى الأطراف والمجتمعات القبلية والطائفية. حرص النظام على هندسة الترشيحات في تلك المناطق ليكون التنافس بدوافع قبلية وطائفية، فيذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب مرشح قبيلتهم وإيصاله إلى البرلمان، محمولين على تلك الدوافع وليس لأي سبب سياسي، والأدهى أن مرشحهم أساساً لا يمتلك أي برنامج.
ولكن ما الذي أغراني للدخول إلى تفاصيل الانتخابات الإيرانية؟ للحقيقة، إنها ذاكرتي المثقلة بمحاولات تلك الأنظمة إيهام الآخرين بمشروعية وجودها في السلطة، رغم حقائق الواقع التي تؤكد مواقف مواطنيها، وليس مثال نظام الأسد الوحيد في ذهني، لكنه بالتأكيد الأشد وطأة بالنسبة لي كسوري. الإيرانيون غاضبون من قمع الحريات، وغاضبون من قضايا الفساد التي تخرج للعلن، وهي بمليارات الدولارات، وغاضبون من أجل ثرواتهم الوطنية التي يهدرها نظام الملالي على تعزيز موقعه الإقليمي، وضخ المليارات لأذرعه في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغيرها. وهذا ما يمسّنا جميعاً في الإقليم.
في مقطع مصوّر، اقتبس عالم الاجتماع الإيراني حاتم قادري قولاً للخميني في بداية قيام الجمهورية الإسلامية، فيما يتعلق بدستور عام 1905. يقول آية الله الخميني: "إن الناس يفضلون الحكومة الإسلامية، وليس الدستور الذي تم وضعه قبل سبعة عقود". معلّقاً "الآن يطرح المعارضون وعموم الجيل الجديد الحجة نفسها، مرددين أنهم لن يقبلوا بما كان يفضله آباؤهم وأجدادهم قبل 45 عاماً". الناس اليوم لا يريدون دستور الجمهورية الإسلامية، ولا يريدون وصاية المرشد الأعلى. ولكن كيف يمكنهم أن يقولوا ذلك دون خوف من القمع والقتل والسجن؟ أعتقد أن الإيرانيين أجابوا إلى حدٍّ ما عن سؤال قادري المخيف خلال هذه الانتخابات، من لم يقاطع صوّت بالبطاقة الباطلة.
----------
تلفزيون سوريا