بعد كل ثورة عالمية كبرى هناك مرحلة استبدال جذري لكثير من المفاهيم والأسس السائدة قبل الثورة وليست ثورة المعلومات والاتصالات استثناء، فقد شهد العالم بعدها، فوضى في تداول الأفكار بين البشر، سواءً بالعدد أو بالسوية الثقافية، بعد أن أطاحت ثورة المعلومات بكل الطرق التقليدية لتناول الفكر والثقافة والاطلاع والحوار والتفكير ببدائل تملأ ما اتفق على تسميته الواقع الافتراضي كالكتب الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
كان فضاءً بلا حدود فضاء بكل ما تعنيه الكلمة من رحابة واتساع، ومع صحة ما يثار عن وجود قيود على حرية التعبير فيه، إلا أنها لا تتعلق بعدد المشاركين ولا بسويتهم الثقافية، كما أن –هذه القيود– ليست سمةً من سمات مواقع التواصل ، بقدر ما هي سمة من سمات عصر الهيمنة الذي نعيشه في الواقع الحقيقي، قبل أن نكتشف انتشار عدواها في الواقع الافتراضي أيضاً.
ومع ذلك فإن القيود على حرية التعبير ، ليست السلبية الكبرى في هذا الفضاء كما يعتقد الكثيرون، فالتدقيق بعناية في المشهد الواسع، ولوقت كافٍ، يوفر رؤية أعمق للمقارنة ويسلط الضوء على علل متخفية ويدفعها لتطفو إلى السطح، مشيراً بوضوح إلى أن سببها كامنٌ، في فوضى هذا الواقع الافتراضي، وفي العدد المفتوح للمشاركين من كل السويات الثقافية، في حوارات مفتوحة على بعضها وعلى كل شيء، وفي أن أي مشارك يستطيع الانتقال، بل القفز في نفس الحوار من أي موضوع إلى أي موضوع مستخدماً أي مصطلح كان طالما أن ذلك يولد إحساساً بإخفاء أمية البعض خلف ظاهرة نثر المصطلحات اعتباطياً وبكثافة ويمر الاستخدام الكارثي للمصطلح مرور الكرام ، دون أن يترتب على ذلك أي شعور بوقوع خلل في الفكرة أو ارتباك في التفكير.
وفوضى المصطلح هو الجانب الذي أتحدث عنه في هذه العجالة، ولن أتجاهل بقية العيوب التي تحتاج لأبحاث تخصصية ليست لدي القدرة على تقديمها، ولا أنفي الفوائد العظيمة التي لا تحصى لثورة الاتصالات التي نعيش ذروتها هذه الأيام.
في المصطلح كثافة شديدة للمعنى، واختصار لسجالات قد تأخذ عقوداً بين العقول الفذة، وتستهلك آلاف الصفحات من النقاش والبحث والتطوير والشرح المستفيض.. ليتفق الجميع وليس دائماً على مصطلح من كلمة أو عدة كلمات، يشير إلى كل ما سبق، ولهذا عمل المتخصصون في شتى العلوم على تنضيد قواميس ومعاجم في مجلدات ضخمة لرصف المصطلحات وشرحها وتبويبها لتكون مرجعاً للمؤلفين.
تأتي أهمية الدقة في استخدام المصطلح في الموضوع المناسب والمكان المناسب من الحوار، من كون اللغة وعاء الفهم الصحيح للأفكار، فنحن كائنات لغوية، يتأسس وعيها على الكلام، إذ لا يمكنك أن تزعم بأنك تفهم فكرةً ما دون أن تكون قادراً على التعبير عنها بشكل سليم .. كما لا يمكن نقل المعرفة بين البشر إلا بتدوين المعارف وحفظها في نصوص لغوية، والتدوين شكل من أشكال اللغة.
وفي المصطلح، تتضاعف المخاطر ، فلن تبقى مشكلة إدراج مصطلحات خاطئة أو في غير محلها مشكلة في التواصل فقط ، بل تتعداها لتصبح تشويهاً للمعنى والأفكار المحمولة على المصطلح، أي التأسيس لطريقة مغلوطة في التفكير. وهنا جوهر المشكلة وخطورتها على الوعي.
فنحن نواجه زخماً من المصطلحات والكلمات الغريبة والتوليفات اللغوية المؤلفة كيفما اتفق محشوة في حوارات التواصل الاجتماعي، فارغة من أي معنى ولا يمكن معها إنجاز أي تقدم، إذا كان من الممكن استمرار الحوار أصلاً، وهي السائدة للأسف.
وإذا أردنا الحديث عن المشكلة من خلال المشهد الواسع، يمكننا القول بأنها ناجمة عن استبدال طرائق الحوار وتبادل الأفكار، بجديدة تخلو من الضوابط المعروفة المتبعة في الواقع المادي الحقيقي، ما أدى لفوضى عارمة، ينظر إليها بعض الباحثين على أنها فوضى منظمة ، لأنها ستؤدي مع الوقت إلى انتخاب الأفضل!
ولكن أليست هذه وصفة للانقراض..؟
هل يمكن الركون إلى ما يمكن تشبيهه بقانون الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) التي تفترض بعض النظريات العلمية حصولها في الطبيعة ، لتنظيم هذه الفوضى في التواصل وتبادل الآراء والأفكار؟
هل يمكن أن نركن إلى هذا القانون، دون أن نكون متأكدين من سيبقى الأقوى أم الأصلح ؟
أسئلة فكر وهوية وانتماء وبقاء، أكثر من كونها نزهة قصيرة في فضاء التواصل المفتوح.
--------
رسالة بوست
كان فضاءً بلا حدود فضاء بكل ما تعنيه الكلمة من رحابة واتساع، ومع صحة ما يثار عن وجود قيود على حرية التعبير فيه، إلا أنها لا تتعلق بعدد المشاركين ولا بسويتهم الثقافية، كما أن –هذه القيود– ليست سمةً من سمات مواقع التواصل ، بقدر ما هي سمة من سمات عصر الهيمنة الذي نعيشه في الواقع الحقيقي، قبل أن نكتشف انتشار عدواها في الواقع الافتراضي أيضاً.
ومع ذلك فإن القيود على حرية التعبير ، ليست السلبية الكبرى في هذا الفضاء كما يعتقد الكثيرون، فالتدقيق بعناية في المشهد الواسع، ولوقت كافٍ، يوفر رؤية أعمق للمقارنة ويسلط الضوء على علل متخفية ويدفعها لتطفو إلى السطح، مشيراً بوضوح إلى أن سببها كامنٌ، في فوضى هذا الواقع الافتراضي، وفي العدد المفتوح للمشاركين من كل السويات الثقافية، في حوارات مفتوحة على بعضها وعلى كل شيء، وفي أن أي مشارك يستطيع الانتقال، بل القفز في نفس الحوار من أي موضوع إلى أي موضوع مستخدماً أي مصطلح كان طالما أن ذلك يولد إحساساً بإخفاء أمية البعض خلف ظاهرة نثر المصطلحات اعتباطياً وبكثافة ويمر الاستخدام الكارثي للمصطلح مرور الكرام ، دون أن يترتب على ذلك أي شعور بوقوع خلل في الفكرة أو ارتباك في التفكير.
وفوضى المصطلح هو الجانب الذي أتحدث عنه في هذه العجالة، ولن أتجاهل بقية العيوب التي تحتاج لأبحاث تخصصية ليست لدي القدرة على تقديمها، ولا أنفي الفوائد العظيمة التي لا تحصى لثورة الاتصالات التي نعيش ذروتها هذه الأيام.
في المصطلح كثافة شديدة للمعنى، واختصار لسجالات قد تأخذ عقوداً بين العقول الفذة، وتستهلك آلاف الصفحات من النقاش والبحث والتطوير والشرح المستفيض.. ليتفق الجميع وليس دائماً على مصطلح من كلمة أو عدة كلمات، يشير إلى كل ما سبق، ولهذا عمل المتخصصون في شتى العلوم على تنضيد قواميس ومعاجم في مجلدات ضخمة لرصف المصطلحات وشرحها وتبويبها لتكون مرجعاً للمؤلفين.
تأتي أهمية الدقة في استخدام المصطلح في الموضوع المناسب والمكان المناسب من الحوار، من كون اللغة وعاء الفهم الصحيح للأفكار، فنحن كائنات لغوية، يتأسس وعيها على الكلام، إذ لا يمكنك أن تزعم بأنك تفهم فكرةً ما دون أن تكون قادراً على التعبير عنها بشكل سليم .. كما لا يمكن نقل المعرفة بين البشر إلا بتدوين المعارف وحفظها في نصوص لغوية، والتدوين شكل من أشكال اللغة.
وفي المصطلح، تتضاعف المخاطر ، فلن تبقى مشكلة إدراج مصطلحات خاطئة أو في غير محلها مشكلة في التواصل فقط ، بل تتعداها لتصبح تشويهاً للمعنى والأفكار المحمولة على المصطلح، أي التأسيس لطريقة مغلوطة في التفكير. وهنا جوهر المشكلة وخطورتها على الوعي.
فنحن نواجه زخماً من المصطلحات والكلمات الغريبة والتوليفات اللغوية المؤلفة كيفما اتفق محشوة في حوارات التواصل الاجتماعي، فارغة من أي معنى ولا يمكن معها إنجاز أي تقدم، إذا كان من الممكن استمرار الحوار أصلاً، وهي السائدة للأسف.
وإذا أردنا الحديث عن المشكلة من خلال المشهد الواسع، يمكننا القول بأنها ناجمة عن استبدال طرائق الحوار وتبادل الأفكار، بجديدة تخلو من الضوابط المعروفة المتبعة في الواقع المادي الحقيقي، ما أدى لفوضى عارمة، ينظر إليها بعض الباحثين على أنها فوضى منظمة ، لأنها ستؤدي مع الوقت إلى انتخاب الأفضل!
ولكن أليست هذه وصفة للانقراض..؟
هل يمكن الركون إلى ما يمكن تشبيهه بقانون الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) التي تفترض بعض النظريات العلمية حصولها في الطبيعة ، لتنظيم هذه الفوضى في التواصل وتبادل الآراء والأفكار؟
هل يمكن أن نركن إلى هذا القانون، دون أن نكون متأكدين من سيبقى الأقوى أم الأصلح ؟
أسئلة فكر وهوية وانتماء وبقاء، أكثر من كونها نزهة قصيرة في فضاء التواصل المفتوح.
--------
رسالة بوست