.
وقد تم تقسيم قاعدة البيانات هذه إلى أبواب ثلاثة: اليوميات والشهادات والأرشيف. كما تضمُّ أكثر من 11200 إصدار من الدوريات السورية، وبيانات لأكثر من 10.000 كيان عسكري ومدني و«حوكمي»، أما الشخصيات «فعددها 13000 سيَجري عرض نحو 6000 منها فقط» كما هو مذكور في النسخة المُعدَّلة من الخبر. وقد تم تزويد هذه «المنصة الحديثة بتقنيات متقدمة في البحث معدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات».
أما رؤية المشروع فتنصُّ على «حفظ الذاكرة الوطنية بمنهجية بحث علمية لتُشكِّلَ أساساً لمواجهة عمليات التزييف المحتملة لمراكز السلطة المختلفة والحيلولة دون طمس الحقائق». وكانت فكرة هذا المشروع قد تبلورت بعد انتهاء مشروع وثيقة وطن الذي تترأسُّه بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، والذي قدّم رواية النظام السوري للأحداث «وفق مقاربة التأريخ الشفوي» كما ذُكر في تعريفهم.
يرأس مشروع الذاكرة السورية الدكتور عبد الرحمن الحاج، الباحث والأكاديمي المتخصّص في الحركات الإسلامية، والحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا، والمُنخرط في مؤسسات المعارضة السورية منذ عام 2011. وتدير قسم الشهادات السيدة سهير الأتاسي، المُعارِضة المعروفة، وقسم اليوميات بإدارة أحمد أبازيد، الكاتب والباحث المتخصص في الحركات الإسلامية أيضاً، وقسم الأرشيف منقذ عثمان آغا، طالب الدكتوراه في الدراسات الدولية في جامعة ترينتو (Trento) الإيطالية. كما يضمُّ الفريق عشرات الباحثين والإعلاميين والمصورين وغيرهم من الكوادر، من بينهم فراس ديبة وشيماء البوطي وآخرين من الناشطين المعروفين.
يُوحي المشروع أنه عملٌ ضخم، وهو كذلك بالفعل. وقد احتاج لإنجازه إلى تمويل ضخم قدّمه الدكتور عزمي بشارة عبر مركزه العربي القطري. استمرَّ العملُ على مدى خمس سنوات لإنجازه بدأب ونشاط، ما يجعلنا نرجو لهم العافية على تعبهم، ونتَهيّبُ أمام هذه الهالة التي رسموها حول مشروعهم، والتي ما أن نقترب منها حتى تبدأ، للأسف، بالخفوت رويداً رويداً، لنكتشف ونحن نتصفح «ذاكرتنا» أننا أمام مشروع يشكو حتى اللحظة من الانحياز الإيديولوجي والإنغلاق على الذات وبعض الاعتباطية، ما أدى إلى إغفال أمورٍ أساسية في الثورة، بالإضافة إلى كمّ مؤسف من المشاكل التقنية.
لم يَحُل التمويل الضخم دون إغفال الكثير من الأمور والمؤسسات والشخصيات الهامة لصالح تفضيلات القائمين على المشروع، ولا دون طغيان طرائق تعبير لغوية تصبُّ في تقليل شأن التيار الديمقراطي المدني العلماني داخل الثورة، وإعطاءِ مساحة أكبر للقابلين بالمرجعية الإسلامية والأبوية القطرية، ورَفْعِ قَدْر التيارات الإسلامية المتنوعة والتخفيف من حدة تطرُّف الكثير منها. وعلاوة على ذلك، نقابل أخطاءَ كثيرة حيثما بحثنا، في المعلومات والبيانات، لا علاقة لها بالإيديولوجيا بل ربما بضعفِ الكفاءات البحثية حيناً، والاكتفاء بالقريبين من المشروع دون أصحاب الشأن والمعرفة المباشرة في الأمر المتناوَل، حيناً آخر. كما أنَّ «التقنيات المتقدّمة في البحث المُعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» تملؤنا حنيناً إلى زمان البحث اليدوي في المكتبات!
الانحياز الإيديولوجي
قد تكون هذه المشكلة الأخلاقية، والمنهجية في الوقت نفسه، أكثر مشاكل المنصّة وضوحاً وإيلاماً. فالمِنصّة التي «شملت الاطلاع على رواية النظام» بحسب كلام أحمد أبازيد، لم تتّسع لتشمل الاطلاع على رواية التيار الديمقراطي المدني، ومالت إلى تفضيلات أعضاءِ الفريق الذاتية، السياسية والعسكرية، فوقعوا في مزيج من الإغفال والتدليس وتغيير الحقائق. لم أتوقّع بأي حال من الأحوال أن المشروع الذي يُديره عبد الرحمن الحاج المشهود له بالمهنية والاعتدال سيكون على هذا القدر من احتكار «الذاكرة السورية». سنمرُّ على أمثلة، وكذلك على محاولة تبريرها بعد تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.
لفهم تاريخ العمل المسلَّح في الثورة السورية نحتاج إلى الدقة في تصنيف الفصائل العسكرية وانتماءاتها، لنفهم سلوكها ومآلاتها. لكن القائمين على المشروع ارتأوا طمسَ كل تلك الفوارق والتصنيفات التي كانت جوهرية في أحداث حددتْ مصيرَ الثورة. لا وجودَ مثلاً لكلمة فصيل إسلامي في المنصة، بل المسمى هو «جيش حر» لجميع الفصائل التي لم تكُن ضمن تنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة، رغم أن كثيراً منها أعلن مراراً رفضه الانتساب إلى الجيش الحر ولمجالسه العسكرية، بل وحارب فصائلها ونهب مستودعاتها بحجة «رايتهم العمية»؛ أي رفعها لعلم الاستقلال لا راية التوحيد الإسلامية السوداء أو البيضاء، وأقامت تلك الفصائل تجمُّعات إسلامية موازية حتى قضت على هيمنة الجيش الحر وأقصت الضباط المنشقين وجعلتِ الشرعيين أصحاب القرار العسكري والسياسي، وعبَّدتْ بمزاوداتها الدينية الطريقَ لصعود تنظيم الدولة وجبهة النصرة.
تبنّت بعض هذه الفصائل بعد سنين طويلة مسمى الجيش الحر وعلم الاستقلال دون أي اعتذار أو مراجعة أو إعادة اعتبار أو «دية» أو «قصاص» لما اقترفوه ضدّ الجيش الحر. نحن نتحدثُ هنا عن آلاف الأرواح وعن ثورة تم تحطيمها من الداخل بأفعالهم، ومن الخارج بعد أن تهيأت الظروف المناسبة للأسد. هل في تحطيم الثورة ما يستحق مكافأته وتجميله؟ وهل في وصف جميع الفصائل بالجيش الحر مهنيةٌ علميةٌ أو أمانةٌ أخلاقيةٌ تحفظ «الذاكرة»؟
نلحظُ أن ذلك التمييز وتلك الأفعال لا تنالُ اهتمام أحمد أبازيد، رئيس تحرير قسم اليوميات، فلا يوجد ذكرٌ مثلاً في يومياته لعملية نهب مستودعات المجلس العسكري التابع للجيش الحر في الغوطة قُبيلَ عملية دخول عدرا العمالية التي يبدو أن رئيس المجلس العسكري حينها، العميد الركن زياد فهد، رفضها. وكنتُ شاهداً على مكالمة سكايب مع العميد الركن الذي كان في الأردن حينها، يتّهم فيها جيش الإسلام وجبهة النصرة. وقد كان الفصيلان حينها على علاقة طيبة، وصرّحَ زهران علوش قائد جيش الإسلام تصريحه الشهير حول إمكانية تبادل شرعيَّي الفصيلين، كعكة والقحطاني، دون أن يختلَّ أي شيء. هل هناك ذكرٌ لهذا التصريح في يوميات أحمد أبازيد أو الأرشيف أو أي مكان في منصة «ذاكرتنا»؟ الجواب هو لا. ولا وجود لذكر العميد الركن زياد فهد في كل المنصة. أما في التعريف بزهران علوش فيتم ذكر أنه «عادى» تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وإغفال أنه قام بمحاربة جيش الأمة، الفصيل المنتمي للجيش الحر، والذي أمر قائدُهُ أبو صبحي طه جميعَ عناصره برمي السلاح بدلاً من الدخول في صراع دامٍ مع جيش الإسلام.
نلحظ أيضاً تسمية أبي عزام الكويتي على المنصة «بالعسكري»، لا بالجهادي أو الإسلامي، دون الإرهابي طبعاً. وهو الذي كان أحد أعضاء جبهة النصرة ولم يكن ضابطاً أو مجنداً يوماً ليحمل تلك الصفة دون غيرها. وكذلك وصف مجدي نعمة/إسلام علوش بالانتماء إلى الجيش الحر، وهو عضو جيش الإسلام سابقاً. وقد قدَّم القائمون في نبذته (هل كاتبها هو صديقه أحمد أبازيد؟) روايتهم دون غيرهم. فقد كتبتُ مقالةً إثر اعتقاله في فرنسا، وكانت ثاني أكثر المواد قراءة على موقع مجموعة الجمهورية لعام 2021، ولم يتم إرفاق المادة مع باقي الروابط عن اعتقاله. هل لم يقرأ أحمد أبازيد المادة؟ أشكُّ في ذلك. لكنه مجدداً الانحيازُ الذي يؤدي إلى عدم الأمانة مع «ذاكرتنا» وعدم أخذ رواية المُختلِف سياسياً بعين الاعتبار، حتى وإن كان جزءاً أصيلاً من الثورة وتاريخها.
وفيما يخص قضية مجلة طلعنا عالحرية، بعد المقال الذي اعتُبِرَ مسيئاً، تذكُرُ المنصة أن «قضاء» جيش الإسلام (لم يذكروا بالطبع أنه تابع له) قام بالسماح بنشر المجلة إلكترونياً ومنعها ورقياً، وأن أسامة نصار، نائب رئيس تحريرها، والمقيم في دوما مركز سيطرة جيش الإسلام حينها، عاد إثر ذلك إلى العمل في المجلة بعد استقالته منها و«تبرئته». هذا غير صحيح على الإطلاق. لا يوجد أي كلام في قرار «قضاء» جيش الإسلام يتحدّث عن السماح باستمرار عمل المجلة إلكترونياً، فضلاً عن عودة أسامة إليها، وهو ما لم يتم إلا بعد خروجه من سوريا.
كذلك ذكروا أن عائلة الأستاذ محمد فليطاني، القيادي السياسي في مدينة دوما، اتّهمتْ «خلايا» النظام باغتياله في مدينة دوما، برغم أنها أعلنت مراراً اتهامها لجيش الإسلام. هل لجيش الإسلام مندوب في فريق المنصة أم ماذا؟
لدينا أيضاً عشرات الشخصيات من السياسيين والناشطين المختلفين عن خط القائمين على المنصة الفكري لا وجود لذكرهم في المنصة، لنأخذ أمثلة منها: عمر عزيز، الأب الروحي لتأسيس المجالس المحلية ولطَرح فكرتها، وقام بتأسيس أوائل المجالس المحلية في أحياء دمشق وغوطتها الشرقية بالتشارك مع كوادر تلك المدن والبلدات. ومحمود مرشد المدلل، أحد أهم قيادات الغوطة السياسية وكان رئيس المجلس المحلي في حرستا وركناً أساسياً في تأسيس أول تجمُّع سياسي في الغوطة (التجمع الوطني لقوى الثورة في الغوطة، غير الموجود في المنصة، أيضاً!) وكذلك في تأسيس إدارة المجالس المحلية ومكتب محافظة ريف دمشق والقيادة المدنية في الغوطة، التي اقتحم زهران عدة مرات اجتماعاتها، قائلاً في إحدى المرات أن لا يُزاودوا عليه في المدنية، فهو يستطيع الآن شلحَ بدلته وارتداء طقم فيصبح مدنياً أكثر منهم! وأجابه أبو مرشد أن من لا ينتسب إلى الجيش الحر ولا يرفع علم الثورة لا يمثله. هل لذلك تم إغفال أبي مرشد من «الذاكرة السورية»؟
أما في حالات أخرى فيتم ذكر الشخصية لكن بطريقة غريبة، فياسين الحاج صالح، الكاتب المعروف على نطاق عربي ودولي، وذو الشعبية في أوساط المعارضين الديمقراطيين العلمانيين، وصاحب العديد من الكتب ومئات المقالات والدراسات، يصبح مجرد «معارض» في نبذة رزان زيتونة، هذا في الوقت الذي يتم فيه وصف أبو عبد الرحمن زين العابدين، أحد «شرعيي» جيش الإسلام، والذي لا يحمل أي شهادة قانونية أو إدارية، وبات رئيس «القضاء» الشرعي بعد سيطرة جيش الإسلام على هذا الجسم في الغوطة، فيتم إعطائه وصف «حوكمي معارض»، دون ذكر انتمائه لجيش الإسلام.
وعلى غرار الشخصيات، لا تنتهي قائمة الكيانات غير الموجودة على المنصة، بِدءاً من كثير من التنسيقيات والتجمُّعات ذات التوجه الديمقراطي المدني أو العلماني التي نشطت في بدايات الثورة، مروراً بالتجمُّع الوطني لقوى الثورة في الغوطة الشرقية المذكور آنفاً، وصولاً إلى لجان التنسيق المحلية!
كانت لجان التنسيق أول كيان سياسي يتشكّل في الثورة. أسستها رزان زيتونة مع شخصيات ثورية أخرى، وصاغ ياسين الحاج صالح وثيقتها السياسية الأولى، والتي حظيت وقتها باهتمام بالغ، بالإضافة إلى شخصيات كثيرة أخرى، لتَجمَع التنسيقيات والهيئات المحلية وتساعدها في تنظيم عملها وتوحيد خطابها الثوري وأهدافها السياسية المتمثلة في إقامة دولة المواطنة الديمقراطية. كان ذلك قبل المجلس الوطني ومؤتمر أنطاليا، وقبل اتحاد التنسيقيات الذي شكَّله إسلاميون رافضون للنهج الوطني غير الطائفي للجان التنسيق المحلية، فمثّلوا أول حالة شقّ صف في الثورة، وانضمّت لهم سهير الأتاسي، مديرة قسم الشهادات في منصة الذاكرة السورية، والتي كانت على غير وفاق مع رزان منذ ما قبل الثورة. هل تم «نسيان» إضافة لجان التنسيق المحلية إلى الكيانات من قبل هذا الفريق أم تأجيله لمرحلة لاحقة؟ يصعب حقاً تصديق ذلك.
جميع ما سبق ذكره من أمثلة هو من دائرة معارفي ومما شهدت شخصياً، والحال كذلك، فلنا أن نتوقّع ما يمكن أن يكون قد تمَّ تجميله أو إغفاله عن الحراك في المناطق الكردية قبل أو بعد هجوم الفصائل الإسلامية عليها، أو عن الحراك المدني في حلب. لا ذكر مثلاً للناشطة والكاتبة مرسيل شحوارو التي اعتقلها فصيل السيد أحمد أبازيد في وقت سابق (فاستقم كما أمرت)، وذلك لعدم ارتدائها الحجاب في حلب، ومنَعَها من تكرار ذلك ما اضطرها إلى الخروج من حلب «المحررة». ولا لزينة ارحيم، الإعلامية والناشطة المعروفة، ولا لوعد الخطيب، مخرجة فيلم إلى سما الذي ترشَّح للأوسكار.
وهناك بالفعل ميل عام ذكوري غير خفيٍّ في فريق المشروع، قد لا يقتصر على الذكور فيه وحسب. فإن كانت الأمثلة السابقة هي من الأمثلة الشهيرة في حلب، ففي دمشق والغوطة ودرعا وريف حلب وإدلب، التي عشتُ في جميعها في الثورة، نستطيع عدَّ مئات النساء غير المعروفات إلا محلياً، قُمنَ بعمل جبّار في الثورة، وكثيرات منهنّ استشهدنَ وقد يُمحى ذكرهنَ. كما أن الميل العسكريَّ جليٌّ أيضاً على حساب الحراك المدني، الذي كانت درجة الأسلمة فيه أقلّ من نظيرتها العسكرية، فضلاً عن تَركُّز القوى الديمقراطية المدنية فيه بعد تفتيت الجيش الحر وتحقيقها لإنجازات محلية ذات شأن في بناء دولة المواطنة الديمقراطية.
الاكتفاء بالذات
من غير الواضح إن كان السعي لإرضاء النزعة الكمية وفق منهج القائمين على المشروع، أو رغبتهم ربما بالتباهي به بين «الخصوم» وحيازة «اليد العليا»، هو ما جعلهم يقَعون في الكثير من الأخطاء صعبة الحصر وغير المتعلقة بتوجّههم أو انتقائيّتهم، بل بتسرُّعٍ وضعفٍ في الكفاءة البحثية وجنوحٍ إلى التقوقع والاكتفاء بدوائرهم وشبكاتهم الخاصة على حساب النتيجة النهائية.
خلال الأيام الأولى لإطلاق المنصة لفتَ كثيرٌ من النشطاء والصحفيين وأصحاب المعرفة المباشرة إلى العديد من الأخطاء في الصور والتواريخ البسيطة، التي يُستغرَب أن تحدث في موقع استغرق هذا الوقت والمال. وفي مفارقة غريبة نرى أن التاريخ المذكور لتأسيس مركز توثيق الإنتهاكات هو 18 آذار (مارس) 2015 على الرغم من أن المركز ناشط منذ ما قبل الثورة، وتم الإعلان عنه خلال شهورها الأولى وترأسّته رزان زيتونة، وأشرفت على إصدار تقريرين شهيرين له، سيّما الصادر بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة سنة 2013. هل لا يعلم القائم على «الذاكرة السورية» بهذا؟!
ابتعدتُ عن الحديث عن الشهادات حتى اللحظة لأن الخطأ أو الإغفال أو عدم الدقة في الشهادة يُسأل عنها صاحب أو صاحبة الشهادة، وهي مادة أولية على الباحث مقاطعتها مع شهادات ومعلومات أخرى للتأكد من دقتها وفهم انحيازات صاحبها. ولكن ماذا لو كانت الشهادة لأحد كوادر المؤسسة، وفي موضوع تم تجاهل العديد من أصحاب المُعايَشة الأقربِ بخصوصه؟ أعني هنا شهادة الموظف في المنصة فراس ديبة، وبالتحديد عن موضوع حراك جامعة حلب قبل الثورة، ودور الدكتور المُغيّب قسراً محمد عرب فيه.
فراس ديبة كان، كما يَعرِف طلاب جامعة حلب، في تلك الفترة بعثياً، وقام بالتحقيق معي شخصياً لميولي المُعارِضة وقتها. أعلم أنه ناصر الثورة بعد اندلاعها، والعبرة بمن صدق لا بمن سبق، لكن عند الاطلاع على شهادته في المنصة وتصوير نفسه كمعارض منذ ذلك الحين، ونشرها على المنصة رغم وجود كثيرين يعرفونه في تلك المرحلة، ومعرفة القائمين على المشروع بمن هم أجدرُ لأخذ شهاداتهم عن اعتقال الدكتور محمد عرب، يجعل دحضَ عاملِ الشللية والتقوقعِ وضعفِ المهنية والكفاءة البحثية هنا أمراً غير ممكن. وجدير بالذكر كذلك أنه قال في «شهادته» عن مرحلة ما قبل الثورة إن اتحاد الطلبة في جامعة حلب كانت فيه «حالة ديمقراطية لا بأس بها»، وكان هناك «انتخابات حقيقية» في الهيئات الإدارية في كليات الجامعة. وقد خضتُ في كليتي طب الأسنان في حلب حين كنت في السنة الثانية تلك الانتخابات، وأحرزتُ أعلى عدد من الأصوات بفارق كبير عمّن يليني. لكن عندما جاء زميل بعثي ليجمع معلوماتٍ عني، قلتُ له إني معارض، فقال لي إنه ليس من صالحي تسجيل ذلك، وسجَّلَ عوضاً عنها (غير حزبي)، أي غير بعثي. وعندما جاءت قائمة أعضاء الهيئة الإدارية، لم يكن لاسمي وجودٌ فيها.
وعموماً هذة أمثلة عثرتُ عليها بعد القليل من البحث فقط، ولا نعرف بعد مرور الوقت والاطلاع على محتوى المنصة كم سيتكشَّف لنا من أخطاء التسرُّع وضعف الكفاءة واعتماد الشللية كمرجعية.
المشاكل التقنية
لا أبالغ إن قلتُ إنني لا أتذكُّر إن كنتُ قد استعملتُ محرّكَ بحث أسوأ من محرك البحث في منصة الذاكرة السورية. يعتمد المحرك ذو «التقنيات المتقدمة» على التطابق التام – لا التشابه كما في محركات البحث عادةً – بين كلمة البحث وبين المسمى الموجود في قاعدة بيانات المنصّة. الكثير من الناس كتبوا للدكتور عبد الرحمن مدير المشروع على الفيسبوك عن عدم وجود هذا الكيان أو تلك الشخصية، ليعطيهم بعدها رابطاً لها. اختلاف حرف واحد أو أل التعريف أو زيادة كلمة غير مذكورة في قاعدة البيانات لن تؤدي بنا إلى ما نبحث، وقد نظن أنه غير موجود. وإن كنا لا نتذكر اسم أمر ما وإنما تفصيلاً حوله، فلن نجد هذا الأمر على الأغلب، برغم وجود هذا التفصيل في وصفه ضمن صفحته.
أما البحث في الأرشيف واليوميات فهو الأسوأ، حيث لا ينفعُ وجود كلمات مفتاحية في البحث لتحاشي ظهور مئات النتائج، وربما الآلاف منها، في الفترة التي نتوقع أن الحدث كان فيها، ولا سيّما إن تعددت الكلمات المفتاحية. ننتظر من أي محرك بحث أن يُظهر لنا كأولويةٍ النتائجَ المتقاطعة في عنوانها مع الكلمات الموجودة في البحث، لا إظهارها بحسب الفترة المحددة، حتى لو لم يكن في النتائج الأولى أي كلمة مشتركة في العنوان أو المتن! لنأخذ مثالاً (مظاهرة 15 آذار): تظهر النتائج في اليوميات لمظاهرات بين 15 آذار 2011 و15 آذار 2024، وليس للمظاهرات التي تتطابق مع المكتوب في البحث، أما في الأرشيف فلا تظهر أي نتيجة للمكتوب، وربما لا وجود لأي مقطع فيديو لمظاهرة 15 آذار 2011 في المنصة الرقمية «شاملة المحتوى»!
ونواجه مشكلةً أيضاً في البحث في قسم الشهادات عن حدثٍ ما لنعرف ما قيل عنه في كل الشهادات. شاهدتُ مثلاً مقطعاً من شهادة محمد حاج بكري عن مظاهرة انطلاق الثورة في دمشق 15 آذار (هل يعتبرها القائمون على المشروع كذلك؟)، ويظهر التاريخ في عنوان المقطع، لكن عند وضعه في البحث لن يظهر مقطع شهادة حاج بكري ولا غيره!
وللطرافة أيضاً، فعند الضغط على إحدى (الموضوعات المرتبطة) الموجودة في شهادةٍ ما، أعني مثلاً عند الضغط على (النشاط السياسي قبل الثورة السورية) التي تحتوي 84 شهادة كما هو ظاهر بجانبها، تظهر شهادات في تسع صفحات، وكل الصفحات مكررة عن الصفحة الأولى التي تحتوي عشر شهادات فقط.
هل اختبر القائمون على المشروع هذه «التقنيات المتقدمة في البحث المعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» قبل وصفها بذلك؟
خاتمة
تهمني الإشارة في الختام أنه بعد تداول الكثير من النقاط التي أشرتُ إليها على وسائل التواصل، خرج مدير المشروع الدكتور عبد الرحمن الحاج ليقول إن العمل لم يكتمل بعد، وإنه ما زال هناك آلاف الشخصيات والوثائق والشهادات لإضافتها. عدتُ إثرها إلى مادة المركز المذكورة في بداية المقالة، والمنشورة في تاريخ 6 أيار (مايو) لأتأكد مما كنتُ قرأته سابقاً عن انطلاق المشروع، ولا أتذكر في تلك المادة أي حديث عن عدم اكتمال العمل، بل إن الانطلاقة كانت «تتويجاً» لعمل سنواتٍ خمس. وجدتُ أن ذكر عدم الاكتمال موجودٌ فعلاً في المقالة. وعند محاولة الوصول عبر خبيرٍ تقني إلى عمليات تعديل المقالة في موقع المركز الذي يُخفي تاريخ التعديل، لم نصل إلى أقدم من نسخة تم تعديلها يوم 15 أيار (مايو) هذا الشهر، دون إمكانية الوصول لنُسخة يوم الإطلاق. غير أننا وجدنا النسخة الإنكليزية غير المعدّلة، ولا وجود فيها لأي ذكر عن عدم اكتمال العمل.
وخلال هذه الفترة حرصَ الدكتور الحاج على التفاعل مع النقد المتعلق بالإغفالات تحديداً، وتم بالفعل إضافة الكثير من المعلومات وتصحيح بعضها آخر. في حين بقيت أمورٌ أخرى على حالها، خاصة تلك المتعلقة بالتعامل مع الفصائل الإسلامية بصفتها مجرد قوى وطنية ثورية وتجميل دورها على حاله. ربما لا يطمح القائمون على «المنصة الرقمية شاملة المحتوى» إلى حذف ما يكرهون من الذاكرة، فهم يعلمون صعوبة ذلك، لكن لا يبدو أنهم راغبون أو قادرون على قول الحقيقة كاملة عندما يتعلق الأمر بدور «محورهم» الإيديولوجي-الإقليمي، فتحولوا بدورهم إلى «مركز سلطة آخر».
في مادتي الذاكرة في الراهن السوري قبل ثلاثة أعوام، كتبتُ خاتمةً تصلح أيضاً هنا:
والمشروع الذي سيضمنُ لسوريا عقد بناء وطن مُستدام لأبنائه لا يمكن إلا أن يحمل ذاكرات هذا الشعب بأمانة دون عوار، دون انتقامية أو طغيان، دون تحوير أو تجميل أو استخفاف. ذاكرة تنشد التعافي
--------
الجمهورية.
وقد تم تقسيم قاعدة البيانات هذه إلى أبواب ثلاثة: اليوميات والشهادات والأرشيف. كما تضمُّ أكثر من 11200 إصدار من الدوريات السورية، وبيانات لأكثر من 10.000 كيان عسكري ومدني و«حوكمي»، أما الشخصيات «فعددها 13000 سيَجري عرض نحو 6000 منها فقط» كما هو مذكور في النسخة المُعدَّلة من الخبر. وقد تم تزويد هذه «المنصة الحديثة بتقنيات متقدمة في البحث معدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات».
أما رؤية المشروع فتنصُّ على «حفظ الذاكرة الوطنية بمنهجية بحث علمية لتُشكِّلَ أساساً لمواجهة عمليات التزييف المحتملة لمراكز السلطة المختلفة والحيلولة دون طمس الحقائق». وكانت فكرة هذا المشروع قد تبلورت بعد انتهاء مشروع وثيقة وطن الذي تترأسُّه بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، والذي قدّم رواية النظام السوري للأحداث «وفق مقاربة التأريخ الشفوي» كما ذُكر في تعريفهم.
يرأس مشروع الذاكرة السورية الدكتور عبد الرحمن الحاج، الباحث والأكاديمي المتخصّص في الحركات الإسلامية، والحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة العلوم الإسلامية في ماليزيا، والمُنخرط في مؤسسات المعارضة السورية منذ عام 2011. وتدير قسم الشهادات السيدة سهير الأتاسي، المُعارِضة المعروفة، وقسم اليوميات بإدارة أحمد أبازيد، الكاتب والباحث المتخصص في الحركات الإسلامية أيضاً، وقسم الأرشيف منقذ عثمان آغا، طالب الدكتوراه في الدراسات الدولية في جامعة ترينتو (Trento) الإيطالية. كما يضمُّ الفريق عشرات الباحثين والإعلاميين والمصورين وغيرهم من الكوادر، من بينهم فراس ديبة وشيماء البوطي وآخرين من الناشطين المعروفين.
يُوحي المشروع أنه عملٌ ضخم، وهو كذلك بالفعل. وقد احتاج لإنجازه إلى تمويل ضخم قدّمه الدكتور عزمي بشارة عبر مركزه العربي القطري. استمرَّ العملُ على مدى خمس سنوات لإنجازه بدأب ونشاط، ما يجعلنا نرجو لهم العافية على تعبهم، ونتَهيّبُ أمام هذه الهالة التي رسموها حول مشروعهم، والتي ما أن نقترب منها حتى تبدأ، للأسف، بالخفوت رويداً رويداً، لنكتشف ونحن نتصفح «ذاكرتنا» أننا أمام مشروع يشكو حتى اللحظة من الانحياز الإيديولوجي والإنغلاق على الذات وبعض الاعتباطية، ما أدى إلى إغفال أمورٍ أساسية في الثورة، بالإضافة إلى كمّ مؤسف من المشاكل التقنية.
لم يَحُل التمويل الضخم دون إغفال الكثير من الأمور والمؤسسات والشخصيات الهامة لصالح تفضيلات القائمين على المشروع، ولا دون طغيان طرائق تعبير لغوية تصبُّ في تقليل شأن التيار الديمقراطي المدني العلماني داخل الثورة، وإعطاءِ مساحة أكبر للقابلين بالمرجعية الإسلامية والأبوية القطرية، ورَفْعِ قَدْر التيارات الإسلامية المتنوعة والتخفيف من حدة تطرُّف الكثير منها. وعلاوة على ذلك، نقابل أخطاءَ كثيرة حيثما بحثنا، في المعلومات والبيانات، لا علاقة لها بالإيديولوجيا بل ربما بضعفِ الكفاءات البحثية حيناً، والاكتفاء بالقريبين من المشروع دون أصحاب الشأن والمعرفة المباشرة في الأمر المتناوَل، حيناً آخر. كما أنَّ «التقنيات المتقدّمة في البحث المُعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» تملؤنا حنيناً إلى زمان البحث اليدوي في المكتبات!
الانحياز الإيديولوجي
قد تكون هذه المشكلة الأخلاقية، والمنهجية في الوقت نفسه، أكثر مشاكل المنصّة وضوحاً وإيلاماً. فالمِنصّة التي «شملت الاطلاع على رواية النظام» بحسب كلام أحمد أبازيد، لم تتّسع لتشمل الاطلاع على رواية التيار الديمقراطي المدني، ومالت إلى تفضيلات أعضاءِ الفريق الذاتية، السياسية والعسكرية، فوقعوا في مزيج من الإغفال والتدليس وتغيير الحقائق. لم أتوقّع بأي حال من الأحوال أن المشروع الذي يُديره عبد الرحمن الحاج المشهود له بالمهنية والاعتدال سيكون على هذا القدر من احتكار «الذاكرة السورية». سنمرُّ على أمثلة، وكذلك على محاولة تبريرها بعد تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.
لفهم تاريخ العمل المسلَّح في الثورة السورية نحتاج إلى الدقة في تصنيف الفصائل العسكرية وانتماءاتها، لنفهم سلوكها ومآلاتها. لكن القائمين على المشروع ارتأوا طمسَ كل تلك الفوارق والتصنيفات التي كانت جوهرية في أحداث حددتْ مصيرَ الثورة. لا وجودَ مثلاً لكلمة فصيل إسلامي في المنصة، بل المسمى هو «جيش حر» لجميع الفصائل التي لم تكُن ضمن تنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة، رغم أن كثيراً منها أعلن مراراً رفضه الانتساب إلى الجيش الحر ولمجالسه العسكرية، بل وحارب فصائلها ونهب مستودعاتها بحجة «رايتهم العمية»؛ أي رفعها لعلم الاستقلال لا راية التوحيد الإسلامية السوداء أو البيضاء، وأقامت تلك الفصائل تجمُّعات إسلامية موازية حتى قضت على هيمنة الجيش الحر وأقصت الضباط المنشقين وجعلتِ الشرعيين أصحاب القرار العسكري والسياسي، وعبَّدتْ بمزاوداتها الدينية الطريقَ لصعود تنظيم الدولة وجبهة النصرة.
تبنّت بعض هذه الفصائل بعد سنين طويلة مسمى الجيش الحر وعلم الاستقلال دون أي اعتذار أو مراجعة أو إعادة اعتبار أو «دية» أو «قصاص» لما اقترفوه ضدّ الجيش الحر. نحن نتحدثُ هنا عن آلاف الأرواح وعن ثورة تم تحطيمها من الداخل بأفعالهم، ومن الخارج بعد أن تهيأت الظروف المناسبة للأسد. هل في تحطيم الثورة ما يستحق مكافأته وتجميله؟ وهل في وصف جميع الفصائل بالجيش الحر مهنيةٌ علميةٌ أو أمانةٌ أخلاقيةٌ تحفظ «الذاكرة»؟
نلحظُ أن ذلك التمييز وتلك الأفعال لا تنالُ اهتمام أحمد أبازيد، رئيس تحرير قسم اليوميات، فلا يوجد ذكرٌ مثلاً في يومياته لعملية نهب مستودعات المجلس العسكري التابع للجيش الحر في الغوطة قُبيلَ عملية دخول عدرا العمالية التي يبدو أن رئيس المجلس العسكري حينها، العميد الركن زياد فهد، رفضها. وكنتُ شاهداً على مكالمة سكايب مع العميد الركن الذي كان في الأردن حينها، يتّهم فيها جيش الإسلام وجبهة النصرة. وقد كان الفصيلان حينها على علاقة طيبة، وصرّحَ زهران علوش قائد جيش الإسلام تصريحه الشهير حول إمكانية تبادل شرعيَّي الفصيلين، كعكة والقحطاني، دون أن يختلَّ أي شيء. هل هناك ذكرٌ لهذا التصريح في يوميات أحمد أبازيد أو الأرشيف أو أي مكان في منصة «ذاكرتنا»؟ الجواب هو لا. ولا وجود لذكر العميد الركن زياد فهد في كل المنصة. أما في التعريف بزهران علوش فيتم ذكر أنه «عادى» تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وإغفال أنه قام بمحاربة جيش الأمة، الفصيل المنتمي للجيش الحر، والذي أمر قائدُهُ أبو صبحي طه جميعَ عناصره برمي السلاح بدلاً من الدخول في صراع دامٍ مع جيش الإسلام.
نلحظ أيضاً تسمية أبي عزام الكويتي على المنصة «بالعسكري»، لا بالجهادي أو الإسلامي، دون الإرهابي طبعاً. وهو الذي كان أحد أعضاء جبهة النصرة ولم يكن ضابطاً أو مجنداً يوماً ليحمل تلك الصفة دون غيرها. وكذلك وصف مجدي نعمة/إسلام علوش بالانتماء إلى الجيش الحر، وهو عضو جيش الإسلام سابقاً. وقد قدَّم القائمون في نبذته (هل كاتبها هو صديقه أحمد أبازيد؟) روايتهم دون غيرهم. فقد كتبتُ مقالةً إثر اعتقاله في فرنسا، وكانت ثاني أكثر المواد قراءة على موقع مجموعة الجمهورية لعام 2021، ولم يتم إرفاق المادة مع باقي الروابط عن اعتقاله. هل لم يقرأ أحمد أبازيد المادة؟ أشكُّ في ذلك. لكنه مجدداً الانحيازُ الذي يؤدي إلى عدم الأمانة مع «ذاكرتنا» وعدم أخذ رواية المُختلِف سياسياً بعين الاعتبار، حتى وإن كان جزءاً أصيلاً من الثورة وتاريخها.
وفيما يخص قضية مجلة طلعنا عالحرية، بعد المقال الذي اعتُبِرَ مسيئاً، تذكُرُ المنصة أن «قضاء» جيش الإسلام (لم يذكروا بالطبع أنه تابع له) قام بالسماح بنشر المجلة إلكترونياً ومنعها ورقياً، وأن أسامة نصار، نائب رئيس تحريرها، والمقيم في دوما مركز سيطرة جيش الإسلام حينها، عاد إثر ذلك إلى العمل في المجلة بعد استقالته منها و«تبرئته». هذا غير صحيح على الإطلاق. لا يوجد أي كلام في قرار «قضاء» جيش الإسلام يتحدّث عن السماح باستمرار عمل المجلة إلكترونياً، فضلاً عن عودة أسامة إليها، وهو ما لم يتم إلا بعد خروجه من سوريا.
كذلك ذكروا أن عائلة الأستاذ محمد فليطاني، القيادي السياسي في مدينة دوما، اتّهمتْ «خلايا» النظام باغتياله في مدينة دوما، برغم أنها أعلنت مراراً اتهامها لجيش الإسلام. هل لجيش الإسلام مندوب في فريق المنصة أم ماذا؟
لدينا أيضاً عشرات الشخصيات من السياسيين والناشطين المختلفين عن خط القائمين على المنصة الفكري لا وجود لذكرهم في المنصة، لنأخذ أمثلة منها: عمر عزيز، الأب الروحي لتأسيس المجالس المحلية ولطَرح فكرتها، وقام بتأسيس أوائل المجالس المحلية في أحياء دمشق وغوطتها الشرقية بالتشارك مع كوادر تلك المدن والبلدات. ومحمود مرشد المدلل، أحد أهم قيادات الغوطة السياسية وكان رئيس المجلس المحلي في حرستا وركناً أساسياً في تأسيس أول تجمُّع سياسي في الغوطة (التجمع الوطني لقوى الثورة في الغوطة، غير الموجود في المنصة، أيضاً!) وكذلك في تأسيس إدارة المجالس المحلية ومكتب محافظة ريف دمشق والقيادة المدنية في الغوطة، التي اقتحم زهران عدة مرات اجتماعاتها، قائلاً في إحدى المرات أن لا يُزاودوا عليه في المدنية، فهو يستطيع الآن شلحَ بدلته وارتداء طقم فيصبح مدنياً أكثر منهم! وأجابه أبو مرشد أن من لا ينتسب إلى الجيش الحر ولا يرفع علم الثورة لا يمثله. هل لذلك تم إغفال أبي مرشد من «الذاكرة السورية»؟
أما في حالات أخرى فيتم ذكر الشخصية لكن بطريقة غريبة، فياسين الحاج صالح، الكاتب المعروف على نطاق عربي ودولي، وذو الشعبية في أوساط المعارضين الديمقراطيين العلمانيين، وصاحب العديد من الكتب ومئات المقالات والدراسات، يصبح مجرد «معارض» في نبذة رزان زيتونة، هذا في الوقت الذي يتم فيه وصف أبو عبد الرحمن زين العابدين، أحد «شرعيي» جيش الإسلام، والذي لا يحمل أي شهادة قانونية أو إدارية، وبات رئيس «القضاء» الشرعي بعد سيطرة جيش الإسلام على هذا الجسم في الغوطة، فيتم إعطائه وصف «حوكمي معارض»، دون ذكر انتمائه لجيش الإسلام.
وعلى غرار الشخصيات، لا تنتهي قائمة الكيانات غير الموجودة على المنصة، بِدءاً من كثير من التنسيقيات والتجمُّعات ذات التوجه الديمقراطي المدني أو العلماني التي نشطت في بدايات الثورة، مروراً بالتجمُّع الوطني لقوى الثورة في الغوطة الشرقية المذكور آنفاً، وصولاً إلى لجان التنسيق المحلية!
كانت لجان التنسيق أول كيان سياسي يتشكّل في الثورة. أسستها رزان زيتونة مع شخصيات ثورية أخرى، وصاغ ياسين الحاج صالح وثيقتها السياسية الأولى، والتي حظيت وقتها باهتمام بالغ، بالإضافة إلى شخصيات كثيرة أخرى، لتَجمَع التنسيقيات والهيئات المحلية وتساعدها في تنظيم عملها وتوحيد خطابها الثوري وأهدافها السياسية المتمثلة في إقامة دولة المواطنة الديمقراطية. كان ذلك قبل المجلس الوطني ومؤتمر أنطاليا، وقبل اتحاد التنسيقيات الذي شكَّله إسلاميون رافضون للنهج الوطني غير الطائفي للجان التنسيق المحلية، فمثّلوا أول حالة شقّ صف في الثورة، وانضمّت لهم سهير الأتاسي، مديرة قسم الشهادات في منصة الذاكرة السورية، والتي كانت على غير وفاق مع رزان منذ ما قبل الثورة. هل تم «نسيان» إضافة لجان التنسيق المحلية إلى الكيانات من قبل هذا الفريق أم تأجيله لمرحلة لاحقة؟ يصعب حقاً تصديق ذلك.
جميع ما سبق ذكره من أمثلة هو من دائرة معارفي ومما شهدت شخصياً، والحال كذلك، فلنا أن نتوقّع ما يمكن أن يكون قد تمَّ تجميله أو إغفاله عن الحراك في المناطق الكردية قبل أو بعد هجوم الفصائل الإسلامية عليها، أو عن الحراك المدني في حلب. لا ذكر مثلاً للناشطة والكاتبة مرسيل شحوارو التي اعتقلها فصيل السيد أحمد أبازيد في وقت سابق (فاستقم كما أمرت)، وذلك لعدم ارتدائها الحجاب في حلب، ومنَعَها من تكرار ذلك ما اضطرها إلى الخروج من حلب «المحررة». ولا لزينة ارحيم، الإعلامية والناشطة المعروفة، ولا لوعد الخطيب، مخرجة فيلم إلى سما الذي ترشَّح للأوسكار.
وهناك بالفعل ميل عام ذكوري غير خفيٍّ في فريق المشروع، قد لا يقتصر على الذكور فيه وحسب. فإن كانت الأمثلة السابقة هي من الأمثلة الشهيرة في حلب، ففي دمشق والغوطة ودرعا وريف حلب وإدلب، التي عشتُ في جميعها في الثورة، نستطيع عدَّ مئات النساء غير المعروفات إلا محلياً، قُمنَ بعمل جبّار في الثورة، وكثيرات منهنّ استشهدنَ وقد يُمحى ذكرهنَ. كما أن الميل العسكريَّ جليٌّ أيضاً على حساب الحراك المدني، الذي كانت درجة الأسلمة فيه أقلّ من نظيرتها العسكرية، فضلاً عن تَركُّز القوى الديمقراطية المدنية فيه بعد تفتيت الجيش الحر وتحقيقها لإنجازات محلية ذات شأن في بناء دولة المواطنة الديمقراطية.
الاكتفاء بالذات
من غير الواضح إن كان السعي لإرضاء النزعة الكمية وفق منهج القائمين على المشروع، أو رغبتهم ربما بالتباهي به بين «الخصوم» وحيازة «اليد العليا»، هو ما جعلهم يقَعون في الكثير من الأخطاء صعبة الحصر وغير المتعلقة بتوجّههم أو انتقائيّتهم، بل بتسرُّعٍ وضعفٍ في الكفاءة البحثية وجنوحٍ إلى التقوقع والاكتفاء بدوائرهم وشبكاتهم الخاصة على حساب النتيجة النهائية.
خلال الأيام الأولى لإطلاق المنصة لفتَ كثيرٌ من النشطاء والصحفيين وأصحاب المعرفة المباشرة إلى العديد من الأخطاء في الصور والتواريخ البسيطة، التي يُستغرَب أن تحدث في موقع استغرق هذا الوقت والمال. وفي مفارقة غريبة نرى أن التاريخ المذكور لتأسيس مركز توثيق الإنتهاكات هو 18 آذار (مارس) 2015 على الرغم من أن المركز ناشط منذ ما قبل الثورة، وتم الإعلان عنه خلال شهورها الأولى وترأسّته رزان زيتونة، وأشرفت على إصدار تقريرين شهيرين له، سيّما الصادر بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة سنة 2013. هل لا يعلم القائم على «الذاكرة السورية» بهذا؟!
ابتعدتُ عن الحديث عن الشهادات حتى اللحظة لأن الخطأ أو الإغفال أو عدم الدقة في الشهادة يُسأل عنها صاحب أو صاحبة الشهادة، وهي مادة أولية على الباحث مقاطعتها مع شهادات ومعلومات أخرى للتأكد من دقتها وفهم انحيازات صاحبها. ولكن ماذا لو كانت الشهادة لأحد كوادر المؤسسة، وفي موضوع تم تجاهل العديد من أصحاب المُعايَشة الأقربِ بخصوصه؟ أعني هنا شهادة الموظف في المنصة فراس ديبة، وبالتحديد عن موضوع حراك جامعة حلب قبل الثورة، ودور الدكتور المُغيّب قسراً محمد عرب فيه.
فراس ديبة كان، كما يَعرِف طلاب جامعة حلب، في تلك الفترة بعثياً، وقام بالتحقيق معي شخصياً لميولي المُعارِضة وقتها. أعلم أنه ناصر الثورة بعد اندلاعها، والعبرة بمن صدق لا بمن سبق، لكن عند الاطلاع على شهادته في المنصة وتصوير نفسه كمعارض منذ ذلك الحين، ونشرها على المنصة رغم وجود كثيرين يعرفونه في تلك المرحلة، ومعرفة القائمين على المشروع بمن هم أجدرُ لأخذ شهاداتهم عن اعتقال الدكتور محمد عرب، يجعل دحضَ عاملِ الشللية والتقوقعِ وضعفِ المهنية والكفاءة البحثية هنا أمراً غير ممكن. وجدير بالذكر كذلك أنه قال في «شهادته» عن مرحلة ما قبل الثورة إن اتحاد الطلبة في جامعة حلب كانت فيه «حالة ديمقراطية لا بأس بها»، وكان هناك «انتخابات حقيقية» في الهيئات الإدارية في كليات الجامعة. وقد خضتُ في كليتي طب الأسنان في حلب حين كنت في السنة الثانية تلك الانتخابات، وأحرزتُ أعلى عدد من الأصوات بفارق كبير عمّن يليني. لكن عندما جاء زميل بعثي ليجمع معلوماتٍ عني، قلتُ له إني معارض، فقال لي إنه ليس من صالحي تسجيل ذلك، وسجَّلَ عوضاً عنها (غير حزبي)، أي غير بعثي. وعندما جاءت قائمة أعضاء الهيئة الإدارية، لم يكن لاسمي وجودٌ فيها.
وعموماً هذة أمثلة عثرتُ عليها بعد القليل من البحث فقط، ولا نعرف بعد مرور الوقت والاطلاع على محتوى المنصة كم سيتكشَّف لنا من أخطاء التسرُّع وضعف الكفاءة واعتماد الشللية كمرجعية.
المشاكل التقنية
لا أبالغ إن قلتُ إنني لا أتذكُّر إن كنتُ قد استعملتُ محرّكَ بحث أسوأ من محرك البحث في منصة الذاكرة السورية. يعتمد المحرك ذو «التقنيات المتقدمة» على التطابق التام – لا التشابه كما في محركات البحث عادةً – بين كلمة البحث وبين المسمى الموجود في قاعدة بيانات المنصّة. الكثير من الناس كتبوا للدكتور عبد الرحمن مدير المشروع على الفيسبوك عن عدم وجود هذا الكيان أو تلك الشخصية، ليعطيهم بعدها رابطاً لها. اختلاف حرف واحد أو أل التعريف أو زيادة كلمة غير مذكورة في قاعدة البيانات لن تؤدي بنا إلى ما نبحث، وقد نظن أنه غير موجود. وإن كنا لا نتذكر اسم أمر ما وإنما تفصيلاً حوله، فلن نجد هذا الأمر على الأغلب، برغم وجود هذا التفصيل في وصفه ضمن صفحته.
أما البحث في الأرشيف واليوميات فهو الأسوأ، حيث لا ينفعُ وجود كلمات مفتاحية في البحث لتحاشي ظهور مئات النتائج، وربما الآلاف منها، في الفترة التي نتوقع أن الحدث كان فيها، ولا سيّما إن تعددت الكلمات المفتاحية. ننتظر من أي محرك بحث أن يُظهر لنا كأولويةٍ النتائجَ المتقاطعة في عنوانها مع الكلمات الموجودة في البحث، لا إظهارها بحسب الفترة المحددة، حتى لو لم يكن في النتائج الأولى أي كلمة مشتركة في العنوان أو المتن! لنأخذ مثالاً (مظاهرة 15 آذار): تظهر النتائج في اليوميات لمظاهرات بين 15 آذار 2011 و15 آذار 2024، وليس للمظاهرات التي تتطابق مع المكتوب في البحث، أما في الأرشيف فلا تظهر أي نتيجة للمكتوب، وربما لا وجود لأي مقطع فيديو لمظاهرة 15 آذار 2011 في المنصة الرقمية «شاملة المحتوى»!
ونواجه مشكلةً أيضاً في البحث في قسم الشهادات عن حدثٍ ما لنعرف ما قيل عنه في كل الشهادات. شاهدتُ مثلاً مقطعاً من شهادة محمد حاج بكري عن مظاهرة انطلاق الثورة في دمشق 15 آذار (هل يعتبرها القائمون على المشروع كذلك؟)، ويظهر التاريخ في عنوان المقطع، لكن عند وضعه في البحث لن يظهر مقطع شهادة حاج بكري ولا غيره!
وللطرافة أيضاً، فعند الضغط على إحدى (الموضوعات المرتبطة) الموجودة في شهادةٍ ما، أعني مثلاً عند الضغط على (النشاط السياسي قبل الثورة السورية) التي تحتوي 84 شهادة كما هو ظاهر بجانبها، تظهر شهادات في تسع صفحات، وكل الصفحات مكررة عن الصفحة الأولى التي تحتوي عشر شهادات فقط.
هل اختبر القائمون على المشروع هذه «التقنيات المتقدمة في البحث المعدَّة لتوفير نتائج بحث دقيقة على الرغم من ضخامة البيانات» قبل وصفها بذلك؟
خاتمة
تهمني الإشارة في الختام أنه بعد تداول الكثير من النقاط التي أشرتُ إليها على وسائل التواصل، خرج مدير المشروع الدكتور عبد الرحمن الحاج ليقول إن العمل لم يكتمل بعد، وإنه ما زال هناك آلاف الشخصيات والوثائق والشهادات لإضافتها. عدتُ إثرها إلى مادة المركز المذكورة في بداية المقالة، والمنشورة في تاريخ 6 أيار (مايو) لأتأكد مما كنتُ قرأته سابقاً عن انطلاق المشروع، ولا أتذكر في تلك المادة أي حديث عن عدم اكتمال العمل، بل إن الانطلاقة كانت «تتويجاً» لعمل سنواتٍ خمس. وجدتُ أن ذكر عدم الاكتمال موجودٌ فعلاً في المقالة. وعند محاولة الوصول عبر خبيرٍ تقني إلى عمليات تعديل المقالة في موقع المركز الذي يُخفي تاريخ التعديل، لم نصل إلى أقدم من نسخة تم تعديلها يوم 15 أيار (مايو) هذا الشهر، دون إمكانية الوصول لنُسخة يوم الإطلاق. غير أننا وجدنا النسخة الإنكليزية غير المعدّلة، ولا وجود فيها لأي ذكر عن عدم اكتمال العمل.
وخلال هذه الفترة حرصَ الدكتور الحاج على التفاعل مع النقد المتعلق بالإغفالات تحديداً، وتم بالفعل إضافة الكثير من المعلومات وتصحيح بعضها آخر. في حين بقيت أمورٌ أخرى على حالها، خاصة تلك المتعلقة بالتعامل مع الفصائل الإسلامية بصفتها مجرد قوى وطنية ثورية وتجميل دورها على حاله. ربما لا يطمح القائمون على «المنصة الرقمية شاملة المحتوى» إلى حذف ما يكرهون من الذاكرة، فهم يعلمون صعوبة ذلك، لكن لا يبدو أنهم راغبون أو قادرون على قول الحقيقة كاملة عندما يتعلق الأمر بدور «محورهم» الإيديولوجي-الإقليمي، فتحولوا بدورهم إلى «مركز سلطة آخر».
في مادتي الذاكرة في الراهن السوري قبل ثلاثة أعوام، كتبتُ خاتمةً تصلح أيضاً هنا:
والمشروع الذي سيضمنُ لسوريا عقد بناء وطن مُستدام لأبنائه لا يمكن إلا أن يحمل ذاكرات هذا الشعب بأمانة دون عوار، دون انتقامية أو طغيان، دون تحوير أو تجميل أو استخفاف. ذاكرة تنشد التعافي
--------
الجمهورية.