تهدد أمن قبرص مرات عديدة بسبب تداعيات الحروب اللبنانية، أشهرها حين حاولت مجموعة حزبية لبنانية اغتيال ميشال عون وخططت لإسقاط مروحيته فوق الجزيرة.
في الفترة الأخيرة، بدت قبرص خائفة من تدفق اللاجئين السوريين إليها عبر الموانئ اللبنانية، وجاء رئيسها مرتين إلى بيروت لترتيب إجراءات تمنع هكذا تهديد.
على أي حال، بقيت قبرص في عيون الكثير من اللبنانيين محط حسد وغيرة، طالما أنهم يتمنون لو أن بلدهم "جزيرة" بعيدة عن العدو الإسرائيلي والشقيق السوري. لكنها أيضاً في عيون لبنانيين آخرين، مصدر ريبة أو نفور أو حتى الاحتقار..
ففي العام 2014، ظهر بوجهه الطفولي ونبرته الدمثة وحضوره اللطيف، وعباراته المهذبة، التي لا تخلو من اللؤم والعناد، "المحلّل" الصحافي، ضيفاً تلفزيونياً صباحياً، بوصفه أحد المقربين من حزب الله، وهو شقيق أحد نواب الحزب، و"الخبير" العليم بسياسات هذا الحزب ومواقفه، والذي بات محترفاً في إطلالاته الإعلامية على الفضائيات العربية والمحلية.
حينها شاهدت 30 ثانية من تلك الفقرة الصباحية، ثم أطفأت التلفزيون يأساً. في تلك الثواني الثلاثين قال هذا الصحافي بلهجة استعلائية محتدّة: "لولا المقاومة لكان لبنان مثل قبرص، مجرد منطقة جغرافية تعيش فيها مجموعة من السكان، ولا أحد يسمع بها".
تلك الفكرة التي نطق بها المعلّق الدمث، بشفاهه المكتنزة، وبصوته الدافىئ. تلك الفكرة التي تستهزئ بقبرص وتحقّر شأنها مقابل التعظيم من "لبنان المقاومة".
إذاً، لولا المقاومة لكان لبنان مثل قبرص. هذه الجزيرة الصغيرة، جارتنا، التي كانت حتى وقت قريب بلداً فقيراً وريفياً مضجراً، تعتاش في كنف الفضاء اليوناني، باقتصاد هزيل ومتواضع، انضمت إلى الإتحاد الأوروبي عام 2004، وبات نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي نحو 29 ألف دولار، فيما مؤشر التنمية البشرية عال جداً (المرتبة 31 عالمياً). لا يوجد في قبرص ميليشيات مسلحة خارج الدولة، كما لا تتصدر قبرص نشرات الأخبار. إذ لا تحصل فيها اغتيالات لشخصيات سياسية، ولا تفجيرات انتحارية، ولا إطلاق صواريخ عبر الحدود. وليس فيها بؤر أمنية محظورة على السلطات الرسمية. لا أحد يسمع بقبرص على نحو ما يحدث للبنان الذائع الصيت. فالحياة هناك "عادية"، مستقرة. الناس يعيشون يومياتهم كما سائر البشر في هموم روتينية لا يعكرها اشتباك مسلح ولا عبوة ناسفة ولا عمليات قتل ولا تهديد دائم بحرب شاملة، ولا بانهيار الدولة وتعطيل مؤسساتها. ما من أحد في قبرص يريد تدمير أميركا وإسرائيل وأوروبا ومقاتلة الدول المجاورة جميعها. ما من حزب في قبرص يرسل آلاف الشبان للموت دفاعاً عن ديكتاتور. لا شيء من هذا في قبرص البائسة، الخالية من "المقاومة".
الحظ التعس لقبرص أنها تفتقد على نحو فادح للكرامة والعزة، إذ ترضى أن تكون وديعة، مسالمة، منضوية في المنظومة الأوروبية وخانعة لشروطها، تعتاش على ذل "السياحة" والخدمات والصناعات الغذائية وليست مشهورة بالزراعات الممنوعة (كحشيشة الكيف والأفيون) ولا بالصناعات المشبوهة (حبوب الكابتاغون). قبرص بلا "مقاومة"، ليس فيها تنظيم واحد على لائحة الإرهاب الدولية، ولا حتى محاكمة دولية خاصة بها كما هو امتياز لبنان. والأسوأ من ذلك، أن قبرص التي تعرضت عام 1974 لاجتياح عسكري تركي، احتل قسمها الشمالي، حيث تقطن الأقلية التركية القبرصية، لم تنشئ مقاومة مسلحة لطرد الجيش التركي، تحاشياً لحرب أهلية لا نهاية لها ولا أفق، فركنت إلى "الأمم المتحدة" وإلى مبدأ التفاوض والسياسة الدبلوماسية، وإلى مسار بطيء يخرج قسميّ الجزيرة من ماضيهما القومي الشوفيني، ومن ذاكرتهما الإعتصابية الدينية (مسلمين ومسيحيين). خيار قبرص الصعب هذا جنّب الجزيرة الوقوع في المأساة والدمار. لقد قبل القبارصة ذلّ العيش بسلام على عنفوان الموت بحرب. يا للعار.
وحدها "المقاومة" وضعت لبنان على سكة الشهرة والسمعة العالمية. إسم لبنان يتردد دائماً في كل نشرات الأخبار، بفضلها وبسبب أعمالها البطولية وجبروتها المتعاظم. ولولاها لكنّا نسياً منسياً. لولا إنجازات تلك المقاومة لكان لبنان بلداً لا يستحق سطراً في جريدة. كل من يتنكر لهذا هو جاحد حقود، وعميل وخائن.
في لحظة سكون قبرص وسكوتها على مصيبتها، في منتصف السبعينات، كان لبنان المزدهر والحديث، والمتطور في تنميته أضعاف ما كانت عليه حال تلك الجزيرة آنذاك، قد اختار الحرب الأهلية وسيلة لحل نزاعاته الأهلية وسبيلاً لإصلاح نظامه السياسي، والأهم أن هذه الحرب المدمرة التي أطاحت بعمرانه، كانت افتداء لبنان من أجل "حماية المقاومة والدفاع عن عروبته". وبمعنى آخر، كانت من أجل التنازل عن السيادة الوطنية من أجل شن حرب مفتوحة ضد إسرائيل من جهة، وإلحاق لبنان بمحور "جبهة الرفض" التي ستصير لاحقاً "جبهة الصمود والتصدي" وتتحول فيما بعد إلى محور "الممانعة".
قبرص تافهة حسب معايير ذاك الصحافي الممانع. وتفاهتها أن لا نصر إلهياً يكلل تاريخها. مجرد جزيرة هانئة يؤمّها الناس من كل حدب وصوب لقضاء العطلات والنقاهة والترفيه. يا للخزي.
------
المدن