وبما أن طلال سلمان هو “السفير”، و”السفير” هي طلال سلمان بوصفه مؤسسها ومالكها، فهو يتحمل مسؤولية عنوان الصحيفة العريض “حلب تعود إلى حضن دمشق”، دون التماس البعد الإنساني والأخلاقي في تدمير أحياء بكاملها بالبراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية وقصف الطيران عام 2016، والدور الروسي كقوة احتلال.
 
لا أدري إن كان يجب على “السفير” في سنواتها الأخيرة أن تنبه إلى “سلوغون” تحت اسمها يقول إنها “صوت الذين لا صوت لهم”، فهي عبارة ذات بعد إنساني أخلاقي، وما مارسته “السفير” خلال تلك السنوات كان خليطًا متأثرًا بالصراع يقترب من الموقف أكثر من التزامه بمهمة الصحافة، وكانت كتابات رئيس تحريرها عملًا سياسيًا صرفًا، يملك كل عناصر الانحياز، لكن هذا لا يلغي تاريخها، فـ”السفير” أخرجت صحفيين وكتّابًا مميزين، وأثارت الجدل على صفحاتها بمقالات رأي متضادة، وهي ميزة مهنية افتقدتها كثير من الصحف في العالم العربي.
الأحداث في سوريا منذ 2011، والموقف في لبنان حيال سيطرة “حزب الله”، أثرت على أداء “السفير” ومؤسسها، وبات الموقف رجراجًا ومضطربًا، فطلال سلمان الذي انتقد “الإمبريالية الإيرانية” الدعوية التي قتلت مهسا أميني و”سببت الكثير من عدم الاستقرار في دول مجاورة” بمقال رأي له في آذار الماضي، هو نفسه الذي أشاد بالخميني وثورته في حوار مع وكالة “إرنا” الرسمية الإيرانية عام 2018، وكان نقده واضحًا حول مسألة تصدير الثورة لشعوب المنطقة في ذات الحوار.
كان طلال سلمان قريبًا من نظام بشار الأسد، ويثبت هذا القرب تواصله معه ومع ذراعه الأمني محمد ناصيف، ليظهر من خلال مقالاته أنه كان يلعب دور الناصح السياسي بجانب مهمته كصحفي، بل ويتحيز أحيانًا في كتاباته لمصلحة القناعات الشخصية، كما ظهر في مقال كتبه عن حوار مستعاد مع الأسد قبل 2011، بشأن العلاقة مع تركيا، إذ يتحدث بلغة الخبير السياسي الناصح لا الصحفي، ثم يصف فيه المقاتلين القريبين من تركيا بأنهم “مجموعات إرهابية”، دون أن يتنصل من العبارة بطريقة ذكية، على اعتبار أن سوريا خاضعة لاحتلال من عدة أطراف، وكل منها له مجموعاته على الأرض، وما مارسته التنظيمات المسلحة الموالية لإيران من قتل على الهوية أكبر بكثير مما فعلته مجموعات أخرى، دون منح صك براءة لطرف دون آخر.
جلد الصحفي طلال سلمان دول الخليج وعلى رأسها السعودية في مقالاته بسبب الحرب في اليمن، وبسبب صراعها المزمن مع إيران، وكان قاسيًا مع السعوديين بصفة لا تقارن مع تقديره لسياسات “الملالي”، اتهم الرياض بخوض حرب مذهبية، لكنه كان أقل صراحة في وصف ما تفعله إيران بعدد من الدول العربية، وفي السنوات الأخيرة كانت أفكاره تتدافع على الورق بشكل يظهر انحيازه السياسي، أكثر من كونه شاهدًا أمضى 60 عامًا في المهنة.
ليست الأمثلة التي أسوقها في المقال حكمًا على سياسات الدول وصراعاتها، بل أحاول فيها طلب تفسير منطقي لأن يكون الصحفي منحازًا في اللغة أو الموقف، وإذا كان يحق لصحفي بارز أن يبدي رأيًا في السياسة، فما الذي يفصله عن أن يكون جزءًا من تلك الصراعات، بل ويتورط في تأريخها خالطًا رأيه وقناعاته وميله في تقييم الأحداث، وهذا مبرر لانتقاد أدائه مع تقدير تجربته الثرية.
كان طلال سلمان يراوح بين عروبته ومهنيته وميله العقائدي والسياسي أو علاقاته الشخصية، وكاد أن يدفع حياته ثمنًا للمهنة والموقف عندما تعرض لمحاولة اغتيال تركت آثارها بوجهه وصدره في 14 من تموز 1984.
مات طلال سلمان، الذي كنا ننتظر افتتاحيته في “السفير” خلال سنوات دراستنا الجامعية في التسعينيات، وكنت حزينًا لموته وحزينًا لتحولاته في ذات الوقت، إنها معادلة تشبه أن تفصل بين الفكرة ومن كتبها حتى ولو كان تاريخه المهني حافلًا.
ستعود الأجيال إلى تجربة طلال سلمان الفذة في “السفير”، وستكون سيرته مثالًا يمكن الاستدلال به على تحولات الصحفي وارتباطه بالقضايا السياسية وتأثير تحولاتها في شخصيته وحياته الخاصة.
كما أن الصحافة لا تعرف الحياد في حقيقتها العميقة، يبدو أن أعمدتها أيضًا هم جزء من هذه القاعدة، وعلى هذا الأساس يمكن تقبّل تفنيد التجربة ونقدها دون التقليل من أهميتها وتاريخ صاحبها.
دفعني لكتابة هذا المقال الموقف، نصيحة الصديق زيدون الزعبي ردًا على تدوينة منفعلة كتبتها في موت طلال سلمان ثم محوتها احترامًا لنهج الصحفي في التناول، عدت للقبول مستذكرًا فلسفة “اليين واليانغ” رمز “الطاويّة”، فالتضاد حقيقة مقبولة، ولا شيء مطلق.. وللحديث بقية.
------------
عنب بلدي