.
إلا أن تزامن هذا الحديث وهذه التعزيزات مع صفقة إفراج طهران عن المواطنين الأميركيين من أصول إيرانية مقابل إفراج واشنطن عن أموال إيرانية محتجزة، يقلل من احتمالية هذه المواجهة بل يجعلها قريبة من الصفر، ويضع كل هذه التحركات العسكرية (من الطرفين) في سياق تعزيز الأوراق السياسية على طاولة التفاوض التي كانت جارية بينهما.
بالمقابل، ترسل قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران منذ أسابيع الحشود وتعزز مواقعها وتقوم بعمليات التحصين الهندسي ورفع السواتر في ضفة الفرات المقابلة للتواجد الأميركي وحليفها المحلي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في نفس الوقت تقوم بعض الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني بعملية إعادة انتشار وتموضع في باديتي البوكمال والميادين، لاستكمال الاستحواذ على تلك المنطقة ذات الأهمية الجيواستراتيجية بالنسبة لجميع الفاعلين على الأرض السورية، وتحسباً لأي احتمال خارج إطار التفاهمات.
ما يحصل في المنطقة الشرقية من تسخين الساحة سياسيا وعسكريا بين إيران والأسد ومن وراءهم روسيا، من جهة، وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، مؤشر على احتدام التنافس بين الأطراف المحلية والدولية، وقد يكون على مشاريع جديدة لم تتضح معالمها بعد.
بالمقابل فإن الولايات المتحدة من جانبها تبدو بالفعل مهتمة بإعادة هيكلة القوى الموجودة في المنطقة وتنظيمها وضبطها وإشراك قوى عشائرية ذات تأثير فيها، بما يتلاءم مع مستجدات المرحلة القادمة التي قد تتطلب قطع أذرع إيران أو تحجيم نفوذها في المنطقة، وهذا يتطلب من الأميركيين اعداد قوى عسكرية من أبناء المنطقة ومن العشائر العربية، على غرار ما فعلت في عام 2014، مع جيش مغاوير الثورة الذي أعدته ودربته في الأردن قبل زجّه في مواجهة تنظيم داعش في منطقة التنف على المثلث الحدودي وفي أماكن اخرى. وربما هذا ما تفكر به واشنطن اليوم، لعلمها ان قسد التي يتولى زمام أمرها قادة حزب العمال الكردستاني المرتبطين ارتباطاً وثيقا مع قيادتهم في قنديل، والمرتبطة بدورها بعلاقات ومصالح كبيرة مع إيران والنظام السوري، ترفض الدخول في أي مواجهة مع الإيرانيين.
لكن رغم كل ما سبق، إلا أن الحديث عن مشروع أميركي لتقويض المشروع الإيراني في المنطقة، وتحجيم وجوده لم يعد مقنعاً للسوريين، ومثلهم العرب في الخليج كما بات واضحاً لأي متابع لمجريات الأحداث!
فتغلغل كل تلك الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة كان على مرأى ومسمع الولايات المتحدة والعالم أجمع، ولا يخفى على أحد أن العلاقة بين واشنطن وطهران منذ ثورة الخميني في عام 1979، قائمة على حرب صوتية متفق عليها، وعلى الصفقات التي لم تتأخر، ولن يكون آخرها الإفراج عن المواطنين الأميركيين المحتجزين في إيران.
الولايات المتحدة أيضاً لم تعلن في أي يوم أن استراتيجيتها تقوم على تقويض الوجود الإيراني في المنطقة، لأن جذور الخلاف بين واشنطن وطهران ليس الصراع على النفوذ بحد ذاته بل على حجم هذا النفوذ، فإيران تتموضع في سوريا والعراق ولبنان واليمن سياسيا وعسكرياً، وهي صاحبة القرار واليد الطولى في تلك الدول، ومع ذلك لا تتعرض لأي استهداف أميركي او إسرائيلي الا عندما تتجاوز ميليشياتها حدود التفاهمات المتفق عليها، والمواقع الإيرانية ليست مجهولة بالنسبة للقوات الأميركية إذ لا يفصلهما عن بعض في سوريا سوى أمتار من عرض مجرى نهر الفرات.
ربما من حق الجميع أن يتساءل هل فعلاً قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غير قادرة على القيام بتنفيذ ضربة عسكرية تنهي التواجد الإيراني في مناطق شرق سوريا؟ وهل هذه الميليشيات التي تستهدف بين الفينة والأخرى القواعد الأميركية المتواجدة شرق الفرات، دون وقوع أي أضرار، تشكل تحد حقيقي لواشنطن؟
بعيداً عن النفي والتأكيد وتحليل موازين القوى العسكرية وأبعاد أي مواجهة ونتائجها على كافة الصعد، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الأهداف التي يمكن ان تدفع أميركا لهكذا مواجهة؟ وما هي الأهداف التي تدفع إيران أيضاً لهذه المواجهة؟ وهل هذه الأهداف تستحق ان تكون ثمن كافٍ ومغرٍ لنشوب مواجهة عسكرية مكلفة جداً لكلاً منهما؟
في الوقت الراهن لا يوجد أي سبب يستدعي نشوب أي صراع او مواجهة بين الطرفين، فالعدو المشترك لجميع الأطراف والذي يعطيهم ذريعة التواجد هو محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، الذي يعتبر ورقة استثمار بيد الجميع، فيما أرتال الميليشيات الإيرانية تنتقل من طهران عبر العراق وصولاً الى دمشق وبيروت مروراً بالأراضي الواقعة تحت سيطرة ونفوذ القوات الأميركية وحلفائها قسد وجيش سوريا الحر، دون أن يتعرض لها أحد، فهل يمكن لإيران ان تحظى بعدو حميم أفضل من الولايات المتحدة؟ وما الداعي لمواجهتها؟
في نفس الوقت، فإن الولايات المتحدة التي سهلت لها إيران احتلال أفغانستان، ومكنتها من دخول العراق واحتلاله وكانت الحامي لجنودها، لم تتعرض لأي هجوم حقيقي منذ ان دخلت قيادة قوات التحالف الدولي الى سوريا في صيف عام 2014، ما يؤكد وجود تفاهمات وخطوط ساخنة تحفظ أمن ومصالح جميع الأطراف المتواجدة على الأرض السورية.
وعليه من المرجح أن كل ما تريده واشنطن حالياً من تعزيزاتها العسكرية في المنطقة هو عدم ترك فراغ فيها، وتعزيز أمن الشرق الأوسط وطمأنة الحلفاء الخليجيين بأنها موجودة ولم تغادر المنطقة، بالإضافة الى تأمين الملاحة في الخليج العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي، بينما تستهدف كل التحركات الموازية الأخرى، إبعاد إيران عن روسيا ما أمكن، وعزل موسكو عن أحد أهم حلفائها.
-------
المدن
المدن