وهو البيان نفسه الذي اعتُبر حمّالاً للأوجه بالنسبة إلى الأميركان الذين وجدوا بين سطوره ما ينصّ على رحيل بشّار الأسد عن السلطة، والروس الذين اعتبروا أن رحيل الأسد غير مطروح وفق ما هو وارد في البيان.
ومنذ ذلك الحين، بدأت لعبة الشد والجذب بين الروس ومجموعة أصدقاء الشعب السوري بقيادة الولايات المتحدة. فبينما كان الروس يركّزون على القشور التي تُبقي على سلطة الأسد، كانت المجموعة المشار إليها ترى في ذلك الحين أن الأولوية في المفاوضات ينبغي أن تُعطى للانتقال السياسي عبر تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية.
وفي ما بعد، وبقدرة قادر، تراجعت تلك الأولوية لصالح بند محاربة الإرهاب، بعد أن تمكّنت الجهات الإقليمية والدولية وسلطة آل الأسد من تسويق داعش الكوكتيل المخابراتي لصالح حساباتها وعلى حساب تضحيات (وتطلعات) السوريين المناهضين استبداد سلطة آل الأسد وفسادها.
وقد حدث هذا التحوّل في أولويات الحل في سورية نتيجة مساع واضحة من الروس الذين تمكنوا في حينه، والله أعلم، من إقناع الرئيس أوباما بصفقة الكيماوي في اللحظة التي كان من المفروض أن ينفذ الأخير فيها وعده، ويحاسب بشار الأسد لتجاوزه الخط الأحمر الذي كان قد حدّده أوباما نفسه وليس غيره، وذلك بعد أن استخدم بشّار السلاح الكيميائي ضد الأطفال والنساء والشيوخ في غوطة دمشق.
ومع شعور الروس بوجود ثغراتٍ واضحة في الموقف الأميركي تجاه التمسّك بانتقال سياسي جاد ينسجم مع تطلعات السوريين وتضحياتهم، والأهداف التي خرجوا من أجلها محتجين ثائرين معلنين رغبتهم في التخلص من سلطة مستبدّة فاسدة مفسدة تسبّبت في انسداد الآفاق أمام السوريين، لا سيما الشباب منهم، وقطعت الطرق أمام أي مستقبلٍ واعد مطمئن لأجيالهم المقبلة. وكان من الواضح في الجولات الأولى لمسار جنيف أن الروس يحاولون بشتّى السبل الحفر تحت هذا المسار للتخلّص نهائياً من أي حديثٍ عن الحكم الانتقالي، أو حتى الدعوة إلى عملية انتقال سياسي مقنعة في سورية بغية الخروج من الأزمة المستعصية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن 2254.
وفي أجواء تحسّن العلاقات بين روسيا وتركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية عام 2015، وارتفاع منسوب البرودة في العلاقات التركية الأميركية، خصوصا بعد إعلان أنقرة شراء منظومة الدفاع الصاروخي إس 400 الروسية، وما ترتب على ذلك من إبعاد تركيا عن مشروع إنتاج طائرات إف 29 وتطويرها، وتجميد موضوع صفقة إف 16. اشتدّ الحماس التركي لمسار أستانة الذي بدأ في يناير/ كانون الثاني عام 2017. وكان من الواضح منذ البداية أن الروس يطرحونه بوصفه المسار المنافس، بل البديل.
وليس سرّاً أن السلطة الأسدية ورعاتها تمكّنوا، بموجب صفقات هذا المسار، من قضم مساحاتٍ واسعة من المناطق المحرّرة. كما جرى ترحيل أعداد كبيرة من المقاتلين المعارضين إلى الشمال السوري. ومنذ ذلك الحين، بدأت عملية الانهيار الشمولي في أداء المعارضة السورية الرسمية، وظهر إلى العلن عجزُها عن اتخاذ المبادرة، بل تحوّلت إلى مجرّد أداة في المشاريع الإقليمية وحتى الدولية، وذلك تحت يافطة ضرورة الالتزام بتعليمات الضامن لمصلحة السوريين وتوجيهاته.
وكان اللافت في جولات أستانة الـ 20 المنصرفة، حضور وفد باسم المعارضة السورية، رغم عدم تبني أي جهة في المعارضة الرسمية له؛ ولكن مع ذلك كنا نجد أن المشاركين في جولات أستانة من "المعارضين السوريين" الخوارج إذا صح التعبير، كانوا يحصلون على مواقع مهمة مؤثرة ضمن كل من الائتلاف وهيئة التفاوض؛ وكان ذلك، وما زال، يثير أكثر من تساؤل واستغراب.
وفي موازاة مسار أستانة، ارتأى الروس تنظيم "مؤتمر"، أو عراضة، سوتشي، تحت اسم "مؤتمر الحوار الوطني السوري" عام 2018، الذي ضمّ نحو 1600 شخصٍ اختارهم المنظمون بعشوائية استفزازية، وبالتفاهم مع السلطة الأسدية. وكان ذلك كله ضمن خطة روسية لتفجير مسار جنيف وإلغائه إن أمكن. وقد استغلّ الروس تراجع أوباما ورخاوته بفعل حساباته الخاصة ربما، أو ربما بناءً على تفاهمات مع القيادة الإسرائيلية في ذلك الحين التي لم تكن ترى أي مصلحة لها في التخلّص من بشّار الأسد، وعلى الأغلب ترى القيادة الإسرائيلية الحالية الأمر نفسه.
وكان ترتيب الأمور في جنيف وفق السيناريو الروسي، وبموافقة المعارضة السورية الرسمية بكل أسف لأسباب عدة. وكان توحيد المنصّات، واختزال أهداف السوريين الثائرين في تعديل دستوري لم يتم، ولن يتم، رغم أن لا قيمة له طالما أن هناك سلطة تعتبر نفسها فوق الدستور، وتعطي لنفسها من الصلاحيات ما يمكّنها من تعطيل الدستور وحل البرلمان. ومع ذلك كله، ظلت المعارضة الرسمية حريصةً على المشاركة في اجتماعات اللجنة الدستورية الكسيحة غير المجدية، وهي تعرف أكثر من غيرها بأنها اجتماعاتٌ عبثية لن تسفر عن شيء.
وتوقف مسار جنيف بعد اعتراض الروس على الموقف السويسري الخاص بالمشاركة في العقوبات الأوروبية، في مقدّمتها نتيجة حرب الأخيرة على أوكرانيا قبل نحو عامين؛ ومع ذلك ظلّ الممثل الأممي بيدرسون مواظباً على تقديم الإحاطات المطوّلة المنتظمة لمجلس الأمن، وملوحاً بالأمل، من دون أن يحقّق ذلك كله أي تقدّم حتى بالسنتيمترات في الملفّ المكلف به.
ولإعطاء انطباع غير واقعي بشأن ديمومة العملية السلمية في سورية، استمرّ بيدرسون في اتصالاته ولقاءاته مع ممثلي الدول الراعية الداعمة سلطة الأسد، إلى جانب ممثلي السلطة الأسدية، وواجهات المعارضة الرسمية، ولم يؤدّ ذلك كله إلى أي تقدّم ملموس.
ولكن الهرطقة الكبرى التي ربما استلهمها المبعوث الأممي بيدرسون في دافوس من أجواء اللقاءات والحوارات التي أجراها، هي تلك الخاصة بالدعوة إلى عقد الجولة ـ 21 من مسار أستانة الذي كان المضيف الكازاخستاني قد أعلن عن نهايته، وذلك في ختام الجولة الـ 20 صيف عام 2023، فالرجل (بيدرسون) يبدو أنه قد رفع، في نهاية المطاف، الراية البيضاء أمام الروس، ووافق على دمج المسارين (جنيف وأستانة) في هذا الأخير وفق الشروط الروسية، وبالمشاركين الذين وافق عليهم الروس.
هناك فرق كبير بين أن يحضر بيدرسون اجتماعات أستانة بصفة مراقب، ليكون قريباً من واقع المناقشات، ويتعرّف إلى طبيعة أطروحات المحور الداعم لسلطة بشّار الأسد، ولا ينسى، في الوقت ذاته، أن شرعيته مستمدّة من قيادته للمسار الأممي، وبين أن يغدو هو نفسُه الداعي إلى اجتماع يلتزم مرجعية غير المرجعية الدولية المفروض أن بيدرسون يستمدّ منها مشروعية عمله أصلاً.
من جهة أخرى، يتساءل المرء عن الأسباب التي دفعت ببيدرسون نحو توجيه مثل هذه الدعوة. هل هناك، على سبيل المثال، مؤشّرات توحي بإمكانية تفعيل المسار التفاوضي في الأجواء الكالحة التي تعيشها المنطقة بصورة عامة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزّة، وكذلك في أجواء الخشية من اتساع نطاق الحرب وارتفاع وتيرتها، سيما بعد عمليات الحوثيين التي استهدفت، وتستهدف، عرقلة الملاحة الدولية في البحر الأحمر؛ إلى جانب ارتفاع حرارة الأجواء التي تُنذر بالحرب على الحدود اللبنانية الإسرائيلية؛ والضربات الإيرانية الصاروخية لكل من إدلب وأربيل وباكستان؛ بالإضافة إلى عمليات الاغتيال المستمرّة التي طاولت كوادر من الوزن الثقيل في الحرس الثوري الإيراني والقوى المحلية المتحالفة معها؟ هذا إلى جانب حالة شبه القطيعة بين الروس والأميركان بخصوص أوكرانيا؛ والتوترات بين الغرب والصين، إلى جانب أمور كثيرة أخرى تؤكد غياب المناخ الدولي والإقليمي المساعد لدفع المفاوضات الخاصة بالملف السوري نحو الأمام قليلاً، أو تحريكها على الأقل.
هل يريد بيدرسون إجراء تجربة جديدة أسوة بتجاربه السابقة، وتجارب سلفه دي ميستورا في التعامل مع ملفٍّ إنساني بالغ الخطورة، يستوجب مساءلة (ومحاسبة) المسؤولين عن قتل أكثر من مليون سوري، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري في الداخل والخارج، وإيصال البلاد إلى حافة الإفلاس، وإغراق المواطنين السوريين سواء في المناطق الخاضعة لسلطة الأسد أم الخاضعة لسلطات الأمر الواقع بفواتير الكهرباء والمياه وتكاليف الرعاية الصحية والارتفاع الجنوني في الأسعار؟
من الواضح أن السوريين قد أصبحوا مادّة للتجارب والاعتبارات المصلحية الأنانية على مستوى الدول والمنظمات، وحتى على مستوى الأفراد؛ ولا غرابة في ذلك إذا ما كانت المعارضة الرسمية نفسها، التي من المفروض أن تعبّر عن إرادة السوريين وأولوياتهم، مشغولة، هي الأخرى، بلعبة تبديل الطرابيش وفق حسابات الأجهزة وتعليماتها، لتبقى في المشهد بعيداً عن شرعية السوريين من ضحايا سلطة آل الأسد.
----------
العربي الجديد
ومنذ ذلك الحين، بدأت لعبة الشد والجذب بين الروس ومجموعة أصدقاء الشعب السوري بقيادة الولايات المتحدة. فبينما كان الروس يركّزون على القشور التي تُبقي على سلطة الأسد، كانت المجموعة المشار إليها ترى في ذلك الحين أن الأولوية في المفاوضات ينبغي أن تُعطى للانتقال السياسي عبر تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية.
وفي ما بعد، وبقدرة قادر، تراجعت تلك الأولوية لصالح بند محاربة الإرهاب، بعد أن تمكّنت الجهات الإقليمية والدولية وسلطة آل الأسد من تسويق داعش الكوكتيل المخابراتي لصالح حساباتها وعلى حساب تضحيات (وتطلعات) السوريين المناهضين استبداد سلطة آل الأسد وفسادها.
وقد حدث هذا التحوّل في أولويات الحل في سورية نتيجة مساع واضحة من الروس الذين تمكنوا في حينه، والله أعلم، من إقناع الرئيس أوباما بصفقة الكيماوي في اللحظة التي كان من المفروض أن ينفذ الأخير فيها وعده، ويحاسب بشار الأسد لتجاوزه الخط الأحمر الذي كان قد حدّده أوباما نفسه وليس غيره، وذلك بعد أن استخدم بشّار السلاح الكيميائي ضد الأطفال والنساء والشيوخ في غوطة دمشق.
ومع شعور الروس بوجود ثغراتٍ واضحة في الموقف الأميركي تجاه التمسّك بانتقال سياسي جاد ينسجم مع تطلعات السوريين وتضحياتهم، والأهداف التي خرجوا من أجلها محتجين ثائرين معلنين رغبتهم في التخلص من سلطة مستبدّة فاسدة مفسدة تسبّبت في انسداد الآفاق أمام السوريين، لا سيما الشباب منهم، وقطعت الطرق أمام أي مستقبلٍ واعد مطمئن لأجيالهم المقبلة. وكان من الواضح في الجولات الأولى لمسار جنيف أن الروس يحاولون بشتّى السبل الحفر تحت هذا المسار للتخلّص نهائياً من أي حديثٍ عن الحكم الانتقالي، أو حتى الدعوة إلى عملية انتقال سياسي مقنعة في سورية بغية الخروج من الأزمة المستعصية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن 2254.
وفي أجواء تحسّن العلاقات بين روسيا وتركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية عام 2015، وارتفاع منسوب البرودة في العلاقات التركية الأميركية، خصوصا بعد إعلان أنقرة شراء منظومة الدفاع الصاروخي إس 400 الروسية، وما ترتب على ذلك من إبعاد تركيا عن مشروع إنتاج طائرات إف 29 وتطويرها، وتجميد موضوع صفقة إف 16. اشتدّ الحماس التركي لمسار أستانة الذي بدأ في يناير/ كانون الثاني عام 2017. وكان من الواضح منذ البداية أن الروس يطرحونه بوصفه المسار المنافس، بل البديل.
وليس سرّاً أن السلطة الأسدية ورعاتها تمكّنوا، بموجب صفقات هذا المسار، من قضم مساحاتٍ واسعة من المناطق المحرّرة. كما جرى ترحيل أعداد كبيرة من المقاتلين المعارضين إلى الشمال السوري. ومنذ ذلك الحين، بدأت عملية الانهيار الشمولي في أداء المعارضة السورية الرسمية، وظهر إلى العلن عجزُها عن اتخاذ المبادرة، بل تحوّلت إلى مجرّد أداة في المشاريع الإقليمية وحتى الدولية، وذلك تحت يافطة ضرورة الالتزام بتعليمات الضامن لمصلحة السوريين وتوجيهاته.
وكان اللافت في جولات أستانة الـ 20 المنصرفة، حضور وفد باسم المعارضة السورية، رغم عدم تبني أي جهة في المعارضة الرسمية له؛ ولكن مع ذلك كنا نجد أن المشاركين في جولات أستانة من "المعارضين السوريين" الخوارج إذا صح التعبير، كانوا يحصلون على مواقع مهمة مؤثرة ضمن كل من الائتلاف وهيئة التفاوض؛ وكان ذلك، وما زال، يثير أكثر من تساؤل واستغراب.
وفي موازاة مسار أستانة، ارتأى الروس تنظيم "مؤتمر"، أو عراضة، سوتشي، تحت اسم "مؤتمر الحوار الوطني السوري" عام 2018، الذي ضمّ نحو 1600 شخصٍ اختارهم المنظمون بعشوائية استفزازية، وبالتفاهم مع السلطة الأسدية. وكان ذلك كله ضمن خطة روسية لتفجير مسار جنيف وإلغائه إن أمكن. وقد استغلّ الروس تراجع أوباما ورخاوته بفعل حساباته الخاصة ربما، أو ربما بناءً على تفاهمات مع القيادة الإسرائيلية في ذلك الحين التي لم تكن ترى أي مصلحة لها في التخلّص من بشّار الأسد، وعلى الأغلب ترى القيادة الإسرائيلية الحالية الأمر نفسه.
وكان ترتيب الأمور في جنيف وفق السيناريو الروسي، وبموافقة المعارضة السورية الرسمية بكل أسف لأسباب عدة. وكان توحيد المنصّات، واختزال أهداف السوريين الثائرين في تعديل دستوري لم يتم، ولن يتم، رغم أن لا قيمة له طالما أن هناك سلطة تعتبر نفسها فوق الدستور، وتعطي لنفسها من الصلاحيات ما يمكّنها من تعطيل الدستور وحل البرلمان. ومع ذلك كله، ظلت المعارضة الرسمية حريصةً على المشاركة في اجتماعات اللجنة الدستورية الكسيحة غير المجدية، وهي تعرف أكثر من غيرها بأنها اجتماعاتٌ عبثية لن تسفر عن شيء.
وتوقف مسار جنيف بعد اعتراض الروس على الموقف السويسري الخاص بالمشاركة في العقوبات الأوروبية، في مقدّمتها نتيجة حرب الأخيرة على أوكرانيا قبل نحو عامين؛ ومع ذلك ظلّ الممثل الأممي بيدرسون مواظباً على تقديم الإحاطات المطوّلة المنتظمة لمجلس الأمن، وملوحاً بالأمل، من دون أن يحقّق ذلك كله أي تقدّم حتى بالسنتيمترات في الملفّ المكلف به.
ولإعطاء انطباع غير واقعي بشأن ديمومة العملية السلمية في سورية، استمرّ بيدرسون في اتصالاته ولقاءاته مع ممثلي الدول الراعية الداعمة سلطة الأسد، إلى جانب ممثلي السلطة الأسدية، وواجهات المعارضة الرسمية، ولم يؤدّ ذلك كله إلى أي تقدّم ملموس.
ولكن الهرطقة الكبرى التي ربما استلهمها المبعوث الأممي بيدرسون في دافوس من أجواء اللقاءات والحوارات التي أجراها، هي تلك الخاصة بالدعوة إلى عقد الجولة ـ 21 من مسار أستانة الذي كان المضيف الكازاخستاني قد أعلن عن نهايته، وذلك في ختام الجولة الـ 20 صيف عام 2023، فالرجل (بيدرسون) يبدو أنه قد رفع، في نهاية المطاف، الراية البيضاء أمام الروس، ووافق على دمج المسارين (جنيف وأستانة) في هذا الأخير وفق الشروط الروسية، وبالمشاركين الذين وافق عليهم الروس.
هناك فرق كبير بين أن يحضر بيدرسون اجتماعات أستانة بصفة مراقب، ليكون قريباً من واقع المناقشات، ويتعرّف إلى طبيعة أطروحات المحور الداعم لسلطة بشّار الأسد، ولا ينسى، في الوقت ذاته، أن شرعيته مستمدّة من قيادته للمسار الأممي، وبين أن يغدو هو نفسُه الداعي إلى اجتماع يلتزم مرجعية غير المرجعية الدولية المفروض أن بيدرسون يستمدّ منها مشروعية عمله أصلاً.
من جهة أخرى، يتساءل المرء عن الأسباب التي دفعت ببيدرسون نحو توجيه مثل هذه الدعوة. هل هناك، على سبيل المثال، مؤشّرات توحي بإمكانية تفعيل المسار التفاوضي في الأجواء الكالحة التي تعيشها المنطقة بصورة عامة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزّة، وكذلك في أجواء الخشية من اتساع نطاق الحرب وارتفاع وتيرتها، سيما بعد عمليات الحوثيين التي استهدفت، وتستهدف، عرقلة الملاحة الدولية في البحر الأحمر؛ إلى جانب ارتفاع حرارة الأجواء التي تُنذر بالحرب على الحدود اللبنانية الإسرائيلية؛ والضربات الإيرانية الصاروخية لكل من إدلب وأربيل وباكستان؛ بالإضافة إلى عمليات الاغتيال المستمرّة التي طاولت كوادر من الوزن الثقيل في الحرس الثوري الإيراني والقوى المحلية المتحالفة معها؟ هذا إلى جانب حالة شبه القطيعة بين الروس والأميركان بخصوص أوكرانيا؛ والتوترات بين الغرب والصين، إلى جانب أمور كثيرة أخرى تؤكد غياب المناخ الدولي والإقليمي المساعد لدفع المفاوضات الخاصة بالملف السوري نحو الأمام قليلاً، أو تحريكها على الأقل.
هل يريد بيدرسون إجراء تجربة جديدة أسوة بتجاربه السابقة، وتجارب سلفه دي ميستورا في التعامل مع ملفٍّ إنساني بالغ الخطورة، يستوجب مساءلة (ومحاسبة) المسؤولين عن قتل أكثر من مليون سوري، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري في الداخل والخارج، وإيصال البلاد إلى حافة الإفلاس، وإغراق المواطنين السوريين سواء في المناطق الخاضعة لسلطة الأسد أم الخاضعة لسلطات الأمر الواقع بفواتير الكهرباء والمياه وتكاليف الرعاية الصحية والارتفاع الجنوني في الأسعار؟
من الواضح أن السوريين قد أصبحوا مادّة للتجارب والاعتبارات المصلحية الأنانية على مستوى الدول والمنظمات، وحتى على مستوى الأفراد؛ ولا غرابة في ذلك إذا ما كانت المعارضة الرسمية نفسها، التي من المفروض أن تعبّر عن إرادة السوريين وأولوياتهم، مشغولة، هي الأخرى، بلعبة تبديل الطرابيش وفق حسابات الأجهزة وتعليماتها، لتبقى في المشهد بعيداً عن شرعية السوريين من ضحايا سلطة آل الأسد.
----------
العربي الجديد