تعتبر سهام ترجمان حارة “القرماني” حارتها منها كانت إطلالتها على الحياة ومدينتها دمشق. اليوم ليس لهذه الحارة وجود، لكن وجودها محفور في ذاكرتها، وإذا تركنا سهام ترجمان تدلنا إليها، فلن تبخل علينا بتفصيل واف وبنكهة شامية تقليدية.
(تبدأ نزلة القره ماني من سوق ساروجة “مواجه” حارة قولي. حارتنا، حارة القره ماني لها قوس، على كتفها الأيمن دكانة عمي “أبو راشد” البقال كامل الأحمدي وأخيه مظهر الأحمدي.
حارتنا، تنتهي بحمام القره ماني وبدكانة مجيد الفوال وسوق العتيق على “ايدك اليمين” وتنتهي من “ناح” بيت المرتضى وبيت ظريف أفندي على ايدك الشمال بخان الزيت والقطران من “ناح” بيت الدالاتية، ومن خان الزيت “بتنفد” على سوق العتيق وسوق التبن والزرابلية وسوق الهال عند السكة. وحارتنا “بتنفد” قبل خان الزيت على ايدك الشمال على سوق ساروجة عند حمام الخانجي وقصر العظم وطلعة سوق الهال وحارة السمانة).تستقيم الحارة بكل جمالها وبهائها في كتابها “يا مال الشام”، ومعها تستعيد الكاتبة مدينتها دمشق القديمة بحاراتها وأزقتها ودخاليجها وبيوتها وعائلاتها وحماماتها وأزهارها وورودها وأمثالها الشعبية وطبخها ونفخها…كأن لم يصب تقاليدها وعاداتها النسيان، ومعالمها شره التحديث العشوائي والنهب المنظم.
هذه واحدة من أهم المآثر التي اجترحتها سهام من أجل دمشق. أبقتها على قيد الذاكرة وفي الأذهان، لم تغير حللها بعد، أو ينال الوهن من صورتها العتيقة. بعبارة وجيزة، لا يمكن الفصل بين سهام ترجمان ودمشق. سهام، إمرأة هي مدينة. وكأنها من فرط تمثلها لمدينتها، ما جاءت ـ كما كتبت ـ إلى الدنيا إلا لتكون دمشقية.
تعلقت طفولتها بأحياء الشام الرحبة والضيقة، بالميدان والشاغور والقيمرية والقنوات وسوق ساروجة والعمارة وباب توما والقصاع والشيخ محي الدين والمهاجرين… وصولاً إلى أزقة قولي، الورد، الشالة، السمانة، ستي زيتونة، العقيبة، بوابة الآس، السبع طوالع، النوفرة، بحرة الدفاقة، المناخلية، باب سريجة…
تلقت دراستها الابتدائية في مدرسة “زبيدة” بحي الصالحية. ونالت الشهادة الثانوية عام 1950. دخلت قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق وتخرجت عام 1954. وتأثرت خلال دراستها الجامعية بعدد من الأساتذة والمفكرين، كالأستاذة جولييت عويشق، والأساتذة جميل صليبا وبديع الكسم وعادل العوا وعبد الكريم اليافي وسامي الدروبي وحافظ الجمالي وعبد الله عبد الدايم وأنطون مقدسي وشاكر مصطفى… هؤلاء الأعلام كانوا الأساتذة في كلية الاداب، فما بالنا في كلية الطب مثلاً
بعد تخرجها من الجامعة السورية، دخلت الحياة العامة، وعملت في الصحافة، ما يزيد عن ثلاثين سنة وكانت رئيسة تحرير بارزة في مجلة “الجندي”. وبالتالي اعتبرت أول صحفية سورية بعد ماري عجمي في النصف الثاني من القرن العشرين.
حررت في المجلة صفحة المرأة تحت عدة عناوين لهذا الباب: (طريق السعادة ـ هذه الصفحة لك يا سيدتي ـ للمرأة ـ خاص بحواء ـ آدم وحواء ـ جنة آدم ـ مجلة الأسرة ـ الأسرة ـ المرأة). لم يقتصر نشاطها الصحفي على الأسرة والمرأة، بل قامت بتحقيقات سجلت فيها وقائع وأحداث ومعارك حروب مصر وسورية ضد إسرائيل، وقابلت المقاتلين تحت قصف المدافع في جبهات القتال السورية، وكتبت عن الطيارين والشهداء وجرحى وأسرى الحرب. وكانت أول امرأة عربية سورية تعمل مراسلة حربية في جبل الشيخ وخط بارليف بمصر، وتؤرخ بطولات الجنود في حرب تشرين عام 1973. وإذا كانت قد خرجت بنفسها سالمة من الحرب، لكنها ستنال منها، باستشهاد زوجها النقيب فؤاد محفوظ في الجبهة السورية، فكتبت رسالة مؤثرة إلى الطيار الإسرائيلي الذي قتله، أثارت ضجة عربية وعالمية.
خلال عملها الصحفي، كلفت إبان الوحدة بين سورية ومصر 1958 ـ 1961 بمهمات إعلامية عسكرية للكتابة عن سورية في المجلات والصحف المصرية، وعن مصر في المجلات والصحف السورية. كما عينتها دار “أخبار اليوم” في مكتبها الصحفي مراسلة لها في دمشق، ونُشرت تحقيقاتها المصورة في مجلات آخر ساعة والجيل وروز اليوسف وصحيفة أخبار اليوم. وخلال عملها الوظيفي أيضاً، تسلمت مناصب عديدة منها: مدير التخطيط في الإدارة السياسية، ومجلة جيش الشعب، ومخططة للبرامج الإعلامية والثقافية، ورئيسة تحرير مجلة “فلاش” باللغة الإنجليزية …
كما عملت مذيعة لصوت القوات المسلحة في الإدارة السياسية بوزارة الدفاع حتى عام 1992. قدمت خلالها العديد من البرامج الإذاعية لإذاعة دمشق منها: (المرأة ـ الوجه الآخر ـ فنجان قهوة ـ الحقيبة الدبلوماسية). حضرت عدداً من المؤتمرات الدولية والرسمية في فرنسا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وفنلندا… ومثلت سورية في الندوات والدراسات الجامعية العليا حين رشحتها الخارجية السورية لمنحة “برنامج هيوبرت همفري”. وحصلت على شهادة من جامعة مينيسوتا، ومعهد الثقافة الدولي في نيويورك. وقد حضرت عدة مؤتمرات عربية ودولية كمؤتمر الأدباء العرب في سورية 1979، ومؤتمر المرأة العالمي في هلسنكي 1969. وبعد انتهاء خدمتها في وزارة الدفاع، دعيت لإلقاء محاضرات على المستوى المحلي والعربي والدولي في دمشق محاضرة بعنوان “روح الشام في الأربعينات”، ومحاضرة في لندن بعنوان “يا مال الشام”. أما في باريس، فكان عنوان المحاضرة “لوحات شعبية شامية في باريس”.
-----------
العربي القديم
كتبت سهام ترجمان خمسة كتب تنوعت بين الفولكلور والخاطرة الأدبية والسيرة والتاريخ والتحقيق والكتابات القومية والوطنية.
يعتبر كتابها “يا مال الشام”، كتاباً فريداً في موضوعه وفي طريقة تناوله. وهو أهم ما كتبته، والأقرب إلى قلوب القراء، وأيضاً إلى قلب مؤلفته التي قامت بكل وفاء واندفاع وحماسة بتعريف الناس بماضي مدينتها؛ دمشق القديمة.
من خلال هذا الكتاب بالذات تعرَّف عليها الناس، فحملوا لها كل تقدير وإعجاب. استحوذ الكتاب على اهتمام الكثيرين من المثقفين العرب والأجانب ومازال الاهتمام به يتنامى على المستوى الشعبي دون توقف, طوال أكثر من خمسة وأربعين عاماً؛ منذ طبعته الأولى إلى طبعته الخامسة الموسوعية في ثلاثة مجلدات. وقد ترجمته إلى الإنجليزية المستشرقة الأمريكية البروفيسورة د. أندريا رو عالمة الأنتروبولوجي والسوسيو لوجي ـ جامعة سيراكوز، وصدر تحت عنوان “ابنة دمشق”. وعُدَّ واحداً من أفضل عشرة كتب ترجمت ونشرت عام 1994. كما قام المستشرق ما يكل ميركو ششينكي بترجمته إلى البولونية. وترجمت منه بعض النصوص إلى الأسبانية.
ولعل أكثر من استفاد من كتابها وغزارة معلوماتها ودقة رصدها لعادات وتقاليد البيئة الشعبية الدمشقية، بعض صانعي المسلسلات التلفزيونية التي صورت تاريخ دمشق الاجتماعي والسياسي، وحصدت رغم تقصير غالبيتها على نجاح قلَّ نظيره في الوطن العربي. وعلى التأكيد من دونها لما استطاع مخرجو هذه الأعمال، أن يتصوروا مناخات الحارة الشامية، وإن تلاعبوا بمصداقية تاريخها، ولا أن يكون للدراما السورية هذه الأرضية المشبعة بالشخصيات، وإن بولغ بتصويرها. ومن المفارقة المؤلمة، ورغم العثرات الكبيرة، انه لولا “يا مال الشام” لما شهدت هذه الأعمال النور.
لم تكن اللوحات المبذولة في الكتاب مرسومة بأناقة ساكنة مثل طبيعة صامتة، وإنما مصورة تصويراً لا يقل عن كاميرا حاذقة وذكية، تنتقل بخفة ورشاقة من منظر إلى منظر، ومن حي إلى زقاق. وتتجول في البيت الدمشقي، فتصعد من أرض الديار إلى الفرنكة ومنها إلى السطح. كاميرا تعرف كيف تلتقط التفاصيل. لا تهمل عروق الياسمين، ولا دالية العنب الزيني، وأوراق الخميسة، وخشبات الدرابزين المسوس، وحشيشة المي، وأزهار الأضاليا، وأشجار الأكيدينيا، والليمون الحامض والحلو والكباد…
إذا كانت دمشق قد منحت سهام ترجمان نسغ حياتها، وأضفت عليها الروح والهدف والمعنى. فهي بالمقابل منحت دمشق زهرة شبابها وجهد عمرها، وكرست لها كتاباً وثق حاراتها وبيوتها ومختلف مظاهر الحياة فيها، ليس بأكاديمية جافة، وإنما بريشة مضمخة بشغف مشبوب وحنين جارف لا يرتويان. ريشة لا تنقصها الحيوية والتألق، لا تفوتها نكهة التفاصيل الصغيرة، وبلمسات رشيقة وبارعة لا تخلو من سحر. ويمكن القول، نادراً ما نعثر على كتاب مثل “يا مال الشام”، كتاب لا يتكرر، إذ يختم بظهوره قصة كانت تنتظر من يكتبها. “يا مال الشام” باتساعه وشموله ودقته، يكاد يغطي موضوعه، ولا يترك لغيره شيئاً يضيفه إليه، سوى تنويعات عليه.
وقد كان لسهام ترجمان دور كبير في نشوء تيار يتعشق دمشق إلى حد الإفراط، وكانت دمشق حسب الكاتبة، مدينة لها سر إلهي مقدس، وسحر تاريخي روحاني صوفي حضاري عربي. ولقد حاول الآخرون شعراً، ما عبرت عنه بنثر، كان أحياناً أجمل من الشعر بصدقه ورهافته. ومن حسن الحظ، أن الله حبا دمشق بعاشقة مثلها، أحبت دمشق حباً أعمى، لم تفارقه حدة البصر وشدة التبصر.
رحلت سهام ترجمان عن دمشق، وبنفسها منها أشياء واشياء، غادرتها تحمل المرارة، غادرتها مدينة محتلة، يرتع فيها العسكر والشبيحة والمخابرات، وبمرمى البصر يربض في القصر الجمهوري مجرمون ولصوص.
دمشق تخوض امتحان البقاء على قيد الحياة، رغم الموت الذي يعيث فيها، والقتلة الذين يعبثون فيها. مهما طال الوقت، ومرّ من الغزاة، فدمشق باقية، تنهض من الرماد، لؤلؤة مكنونة في سورية التي لا تموت ولا تركع.
(تبدأ نزلة القره ماني من سوق ساروجة “مواجه” حارة قولي. حارتنا، حارة القره ماني لها قوس، على كتفها الأيمن دكانة عمي “أبو راشد” البقال كامل الأحمدي وأخيه مظهر الأحمدي.
حارتنا، تنتهي بحمام القره ماني وبدكانة مجيد الفوال وسوق العتيق على “ايدك اليمين” وتنتهي من “ناح” بيت المرتضى وبيت ظريف أفندي على ايدك الشمال بخان الزيت والقطران من “ناح” بيت الدالاتية، ومن خان الزيت “بتنفد” على سوق العتيق وسوق التبن والزرابلية وسوق الهال عند السكة. وحارتنا “بتنفد” قبل خان الزيت على ايدك الشمال على سوق ساروجة عند حمام الخانجي وقصر العظم وطلعة سوق الهال وحارة السمانة).تستقيم الحارة بكل جمالها وبهائها في كتابها “يا مال الشام”، ومعها تستعيد الكاتبة مدينتها دمشق القديمة بحاراتها وأزقتها ودخاليجها وبيوتها وعائلاتها وحماماتها وأزهارها وورودها وأمثالها الشعبية وطبخها ونفخها…كأن لم يصب تقاليدها وعاداتها النسيان، ومعالمها شره التحديث العشوائي والنهب المنظم.
هذه واحدة من أهم المآثر التي اجترحتها سهام من أجل دمشق. أبقتها على قيد الذاكرة وفي الأذهان، لم تغير حللها بعد، أو ينال الوهن من صورتها العتيقة. بعبارة وجيزة، لا يمكن الفصل بين سهام ترجمان ودمشق. سهام، إمرأة هي مدينة. وكأنها من فرط تمثلها لمدينتها، ما جاءت ـ كما كتبت ـ إلى الدنيا إلا لتكون دمشقية.
تعلقت طفولتها بأحياء الشام الرحبة والضيقة، بالميدان والشاغور والقيمرية والقنوات وسوق ساروجة والعمارة وباب توما والقصاع والشيخ محي الدين والمهاجرين… وصولاً إلى أزقة قولي، الورد، الشالة، السمانة، ستي زيتونة، العقيبة، بوابة الآس، السبع طوالع، النوفرة، بحرة الدفاقة، المناخلية، باب سريجة…
تلقت دراستها الابتدائية في مدرسة “زبيدة” بحي الصالحية. ونالت الشهادة الثانوية عام 1950. دخلت قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق وتخرجت عام 1954. وتأثرت خلال دراستها الجامعية بعدد من الأساتذة والمفكرين، كالأستاذة جولييت عويشق، والأساتذة جميل صليبا وبديع الكسم وعادل العوا وعبد الكريم اليافي وسامي الدروبي وحافظ الجمالي وعبد الله عبد الدايم وأنطون مقدسي وشاكر مصطفى… هؤلاء الأعلام كانوا الأساتذة في كلية الاداب، فما بالنا في كلية الطب مثلاً
بعد تخرجها من الجامعة السورية، دخلت الحياة العامة، وعملت في الصحافة، ما يزيد عن ثلاثين سنة وكانت رئيسة تحرير بارزة في مجلة “الجندي”. وبالتالي اعتبرت أول صحفية سورية بعد ماري عجمي في النصف الثاني من القرن العشرين.
حررت في المجلة صفحة المرأة تحت عدة عناوين لهذا الباب: (طريق السعادة ـ هذه الصفحة لك يا سيدتي ـ للمرأة ـ خاص بحواء ـ آدم وحواء ـ جنة آدم ـ مجلة الأسرة ـ الأسرة ـ المرأة). لم يقتصر نشاطها الصحفي على الأسرة والمرأة، بل قامت بتحقيقات سجلت فيها وقائع وأحداث ومعارك حروب مصر وسورية ضد إسرائيل، وقابلت المقاتلين تحت قصف المدافع في جبهات القتال السورية، وكتبت عن الطيارين والشهداء وجرحى وأسرى الحرب. وكانت أول امرأة عربية سورية تعمل مراسلة حربية في جبل الشيخ وخط بارليف بمصر، وتؤرخ بطولات الجنود في حرب تشرين عام 1973. وإذا كانت قد خرجت بنفسها سالمة من الحرب، لكنها ستنال منها، باستشهاد زوجها النقيب فؤاد محفوظ في الجبهة السورية، فكتبت رسالة مؤثرة إلى الطيار الإسرائيلي الذي قتله، أثارت ضجة عربية وعالمية.
خلال عملها الصحفي، كلفت إبان الوحدة بين سورية ومصر 1958 ـ 1961 بمهمات إعلامية عسكرية للكتابة عن سورية في المجلات والصحف المصرية، وعن مصر في المجلات والصحف السورية. كما عينتها دار “أخبار اليوم” في مكتبها الصحفي مراسلة لها في دمشق، ونُشرت تحقيقاتها المصورة في مجلات آخر ساعة والجيل وروز اليوسف وصحيفة أخبار اليوم. وخلال عملها الوظيفي أيضاً، تسلمت مناصب عديدة منها: مدير التخطيط في الإدارة السياسية، ومجلة جيش الشعب، ومخططة للبرامج الإعلامية والثقافية، ورئيسة تحرير مجلة “فلاش” باللغة الإنجليزية …
كما عملت مذيعة لصوت القوات المسلحة في الإدارة السياسية بوزارة الدفاع حتى عام 1992. قدمت خلالها العديد من البرامج الإذاعية لإذاعة دمشق منها: (المرأة ـ الوجه الآخر ـ فنجان قهوة ـ الحقيبة الدبلوماسية). حضرت عدداً من المؤتمرات الدولية والرسمية في فرنسا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وفنلندا… ومثلت سورية في الندوات والدراسات الجامعية العليا حين رشحتها الخارجية السورية لمنحة “برنامج هيوبرت همفري”. وحصلت على شهادة من جامعة مينيسوتا، ومعهد الثقافة الدولي في نيويورك. وقد حضرت عدة مؤتمرات عربية ودولية كمؤتمر الأدباء العرب في سورية 1979، ومؤتمر المرأة العالمي في هلسنكي 1969. وبعد انتهاء خدمتها في وزارة الدفاع، دعيت لإلقاء محاضرات على المستوى المحلي والعربي والدولي في دمشق محاضرة بعنوان “روح الشام في الأربعينات”، ومحاضرة في لندن بعنوان “يا مال الشام”. أما في باريس، فكان عنوان المحاضرة “لوحات شعبية شامية في باريس”.
-----------
العربي القديم
كتبت سهام ترجمان خمسة كتب تنوعت بين الفولكلور والخاطرة الأدبية والسيرة والتاريخ والتحقيق والكتابات القومية والوطنية.
يعتبر كتابها “يا مال الشام”، كتاباً فريداً في موضوعه وفي طريقة تناوله. وهو أهم ما كتبته، والأقرب إلى قلوب القراء، وأيضاً إلى قلب مؤلفته التي قامت بكل وفاء واندفاع وحماسة بتعريف الناس بماضي مدينتها؛ دمشق القديمة.
من خلال هذا الكتاب بالذات تعرَّف عليها الناس، فحملوا لها كل تقدير وإعجاب. استحوذ الكتاب على اهتمام الكثيرين من المثقفين العرب والأجانب ومازال الاهتمام به يتنامى على المستوى الشعبي دون توقف, طوال أكثر من خمسة وأربعين عاماً؛ منذ طبعته الأولى إلى طبعته الخامسة الموسوعية في ثلاثة مجلدات. وقد ترجمته إلى الإنجليزية المستشرقة الأمريكية البروفيسورة د. أندريا رو عالمة الأنتروبولوجي والسوسيو لوجي ـ جامعة سيراكوز، وصدر تحت عنوان “ابنة دمشق”. وعُدَّ واحداً من أفضل عشرة كتب ترجمت ونشرت عام 1994. كما قام المستشرق ما يكل ميركو ششينكي بترجمته إلى البولونية. وترجمت منه بعض النصوص إلى الأسبانية.
ولعل أكثر من استفاد من كتابها وغزارة معلوماتها ودقة رصدها لعادات وتقاليد البيئة الشعبية الدمشقية، بعض صانعي المسلسلات التلفزيونية التي صورت تاريخ دمشق الاجتماعي والسياسي، وحصدت رغم تقصير غالبيتها على نجاح قلَّ نظيره في الوطن العربي. وعلى التأكيد من دونها لما استطاع مخرجو هذه الأعمال، أن يتصوروا مناخات الحارة الشامية، وإن تلاعبوا بمصداقية تاريخها، ولا أن يكون للدراما السورية هذه الأرضية المشبعة بالشخصيات، وإن بولغ بتصويرها. ومن المفارقة المؤلمة، ورغم العثرات الكبيرة، انه لولا “يا مال الشام” لما شهدت هذه الأعمال النور.
لم تكن اللوحات المبذولة في الكتاب مرسومة بأناقة ساكنة مثل طبيعة صامتة، وإنما مصورة تصويراً لا يقل عن كاميرا حاذقة وذكية، تنتقل بخفة ورشاقة من منظر إلى منظر، ومن حي إلى زقاق. وتتجول في البيت الدمشقي، فتصعد من أرض الديار إلى الفرنكة ومنها إلى السطح. كاميرا تعرف كيف تلتقط التفاصيل. لا تهمل عروق الياسمين، ولا دالية العنب الزيني، وأوراق الخميسة، وخشبات الدرابزين المسوس، وحشيشة المي، وأزهار الأضاليا، وأشجار الأكيدينيا، والليمون الحامض والحلو والكباد…
إذا كانت دمشق قد منحت سهام ترجمان نسغ حياتها، وأضفت عليها الروح والهدف والمعنى. فهي بالمقابل منحت دمشق زهرة شبابها وجهد عمرها، وكرست لها كتاباً وثق حاراتها وبيوتها ومختلف مظاهر الحياة فيها، ليس بأكاديمية جافة، وإنما بريشة مضمخة بشغف مشبوب وحنين جارف لا يرتويان. ريشة لا تنقصها الحيوية والتألق، لا تفوتها نكهة التفاصيل الصغيرة، وبلمسات رشيقة وبارعة لا تخلو من سحر. ويمكن القول، نادراً ما نعثر على كتاب مثل “يا مال الشام”، كتاب لا يتكرر، إذ يختم بظهوره قصة كانت تنتظر من يكتبها. “يا مال الشام” باتساعه وشموله ودقته، يكاد يغطي موضوعه، ولا يترك لغيره شيئاً يضيفه إليه، سوى تنويعات عليه.
وقد كان لسهام ترجمان دور كبير في نشوء تيار يتعشق دمشق إلى حد الإفراط، وكانت دمشق حسب الكاتبة، مدينة لها سر إلهي مقدس، وسحر تاريخي روحاني صوفي حضاري عربي. ولقد حاول الآخرون شعراً، ما عبرت عنه بنثر، كان أحياناً أجمل من الشعر بصدقه ورهافته. ومن حسن الحظ، أن الله حبا دمشق بعاشقة مثلها، أحبت دمشق حباً أعمى، لم تفارقه حدة البصر وشدة التبصر.
رحلت سهام ترجمان عن دمشق، وبنفسها منها أشياء واشياء، غادرتها تحمل المرارة، غادرتها مدينة محتلة، يرتع فيها العسكر والشبيحة والمخابرات، وبمرمى البصر يربض في القصر الجمهوري مجرمون ولصوص.
دمشق تخوض امتحان البقاء على قيد الحياة، رغم الموت الذي يعيث فيها، والقتلة الذين يعبثون فيها. مهما طال الوقت، ومرّ من الغزاة، فدمشق باقية، تنهض من الرماد، لؤلؤة مكنونة في سورية التي لا تموت ولا تركع.