قال مارك لوكوك، الرئيس السابق للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: "تركيا الآن غارقة تماماً في التعامل مع شعبها ومساعدته، ولا يمكننا أن نتوقع واقعياً إعطاء الأولوية لتسهيل مساعدة السوريين". وبحسب صور الأقمار الاصطناعية والمسيرات، يتركز 84% من الدمار في الأراضي السورية في غرب الفرات خارج سيطرة النظام.
في هذه المناطق يسكن المهجرون للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة في بيوت عشوائية، بعضها من دون هياكل إسمنتية على الإطلاق. فبعد التطفيش الجماعي للمهاجرين، غرق بعضهم في المتوسط، على أبواب العالم المتحضر، وحط بعضهم رحاله في تركيا وغرب الفرات. هرب هؤلاء هرباً من القصف الكيماوي والبراميل وصواريخ بوتين "الدقيقة"، من الغوطة الشرقية إلى حلب ودوما وريف حماة وحمص إلخ.
بذريعة خراب الطرق نحو معبر باب الهوى المتفق عليه مع مجلس الأمن، يتم إيقاف المساعدات، فيما هناك ثمانية معابر أخرى، كانت تستخدم حتى 2015، لدخول المساعدات، وذلك قبل تفويض الولايات المتحدة للفيتو الروسي.
أما الآن، فينتظر المجتمع الدولي إذناً من روسيا لفتح المعابر، إذ تبتز روسيا المجتمع الدولي الآن، من ثقب التمسك بما تبقى من سيادة الدولة السورية، ليصبح السوريون تحت الأنقاض، الضحية المثلى للأقدار وللابتزاز السياسي.
لا تشبه ذاكرة الكبار والأطفال السوريين من هؤلاء المهاجرين ذاكرة الأسماك في شيء. إذ لا يزال هؤلاء يرتعدون في أحلامهم رعباً من أزيز القنابل وبريقها في السماء. بل صاروا الآن يستيقظون مذعورين لهدير الريح الذي يشبه هدير الأرض قبل الزلزال، ويسمعون في نومهم الأنين اليائس لأحبائهم تحت الأنقاض. وفيما لا يملك هؤلاء حتى الدموع ليبكوا من أحبوا، يصبح مصيرهم مرة أخرى رهينة بخسة.
ثمة مثل في بلادنا يقول: "من يجرب ما هو مجرب يكون عقله مخرباً". وذاكرة الناس عن فظائع الحرب لا تزال حية تماماً، هذا ما يفسر ذعرهم من استعادة النظام لأي دور يخص مستقبلهم، رغم التراجيديا السوداء اليائسة التي يعيشونها لحظة بلحظة.
لم يعترف الزلزال بحدود الدول، ولم يحترم ما تبقى من سيادة النظام السوري حين داهم قدره الأسود هؤلاء اللاجئين السوريين. من جهة، من البديهي أن تكون إغاثة أهلنا في مناطق سيطرة النظام واجباً إنسانياً لا مجال للمساومة فيه، لكن من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى فداحة هذه المأساة، إضافة إلى وقائع الحرب على مدى أحد عشر عاماً، فسنجد، بشكل لا لبس فيه، كيف أن تدمير النظام بنية الدولة السورية ومؤسساتها المدنية وتدمير النسيج الاجتماعي في مناطق واسعة من البلاد، لمصلحة حكم الميليشيات والمافيات جعل كارثة الزلزال الرهيبة، مجرد شريك موضوعي صغير لجرائم النظام من أجل البقاء في السلطة.
لقد جرى منذ زمن طويل تذخير آلام السوريين لتتحول سلاحاً لتحقيق انتصارات روسيا والأسد. تقول كاثلين فالون، منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة "لقد تم تذخير الرعاية الصحية في سوريا من قبل النظام". وقالت السفيرة جنكينز في إيجاز لمجلس الأمن الدولي بشأن الأسلحة الكيماوية في سوريا في مجلس الأمن: "لسنا غافلين عن حقيقة أن العديد من المستجيبين الأوائل السوريين الذين ينقذون المدنيين من تحت الأنقاض الآن، كانوا يساعدون منذ بضع سنوات المدنيين الذين تعرضوا لحروق أو اختناق بسبب الأسلحة الكيماوية التي استخدمها نظام الأسد. الشعور بالإنسانية والشجاعة اللذين يتحلى بهما هؤلاء المستجيبون الأوائل السوريون مذهل ونحن نرفع لهم القبعة".
في المقابل، كتبت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، أن مجموعة العقوبات الأميركية، المعروفة باسم "قانون قيصر"، تهدف إلى إجبار الحكومة على وقف انتهاكات حقوق الإنسان ولا تستهدف المساعدة الإنسانية للشعب السوري أو تعرقل أنشطة تحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا. لقد وصف تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، دعوات سوريا إلى رفع العقوبات، بأنها "انتهازية سياسية". وأضاف أن العقوبات ضمن "قانون قيصر"، ليس لها أي تأثير في تقديم المساعدة لمواجهة آثار الزلزال.
ومع ذلك، ومن باب سد الذرائع، ها هي وزارة الخزانة الأميركية تعلن أنها ترفع كل أشكال العقوبات المتعلقة بأي شكل من أشكال المعونات المتعلقة بمساعدات إغاثة الناس من الزلزال.
بعد أكثر من خمسة أيام على الزلزال، لا تزال المساعدات من منظمات الإغاثة الدولية إلى غرب الفرات، قاصرة قصوراً مدقعاً. وتدل الاتصالات مع المنظمات الإنسانية على الأرض، إلى أنه لم يتم استلام أي مساعدة تتناسب مع حجم الكارثة من قبل الأطراف المانحة الدولية، ولا يبدو أن هناك أي خطة للاستجابة الطارئة ترقى لمستوى إنقاذ الأرواح تحت الأنقاض.
يفتقد المتطوعون المرهقون الآليات اللازمة لإنقاذ ما تبقى من أرواح، كما يفتقدون المرافق لمساعدة الناجين، وتستمر الأمم المتحدة ومنظماتها في التسييس العبثي والبيروقراطي لعملية إيصال المساعدات الإنسانية عبر إصرارها المتكرر على حصر التعامل مع النظام السوري.
لا يمكن لوهم سلوك إنساني من قبل السلطات السورية تجاه مواطنيها، أن يُبنى على جثث المدنيين السوريين تحت الأنقاض! كما لا تحمل مهمة حماية المدنيين التي تدّعيها الأمم المتحدة أي معنى، ما لم يتم تجسيدها بموقف عملي لإنقاذ البشر السوريين في أحرج اللحظات كتلك التي نعيش الآن.
لم تبق إلا بضع ساعات لإنقاذ حياة المئات تحت الأنقاض، أو الجرحى المصابين في المشافي، أو المتجمدين من البرد في العراء.
ومرة أخرى، كما كان الأمر في سيربرينتسا ورواندا، سيكون هذا القصور الأخلاقي للمنظمات الدولية والمجتمع الدولي شاهداً على تواطؤ المنظمات الدولية ضد حق السوريين في الحياة، بحجة واهية هي ما تبقى من سيادة النظام السوري.
بعد سريبرينتسا توافق الغرب على حق الدول في "التدخل الإنساني" لتجاوز السيادة الوطنية للدول التي تتعسف في ظلم مواطنيها، وعلى هذا الأساس تم التدخل في كوسوفو. لكن، يبدو أن الكيل بمكيالين هو سمة اللعبة الدولية بين الكبار، حتى لو كان بينهم ما صنع الحداد.
-------
النهار العربي
-------
النهار العربي