تقفز الذاكرة متجاوزة وصولهم إلى الحارة حيث تستقبلهم أعين الأمهات اللواتي يشتركن بإعداد المؤونة على أبواب أحد ”الحواش “ وبنظرات العتاب “ وين جنتم يوّلم ؟ , أكيد بالمغارة !“ , إلى حرب المقاليع بين أبناء منطقتي الحميدية والجبيلة والتي سببتها مجرد “ كونة “ بين حميداوي وجبيلاوي لتستمر هذه الحرب بضعة أعوام تخللتها فترات متقطعة من الخمود والود ما تلبث أن تشتعل من جديد,“ بالنهاية أكبر مشاكلنا تفض برضوة و بوسة شوارب“. تركز ذاكرة العجوز على تفاصيل” نشابته السبعاوية “ (على شكل رقم سبعة ) وشريطيها المطاطّيين المربوطين بقطعة جلد مربعة تحضن ”حصوة النّشابة“, وكيف أنه كان ”ُسگماني“ دقيق في إصابة الهدف الذي لا يحيد عنه , ولا تؤثر على حواسه الأحوال الجوية حتى وإن كانت “ عجاج“ .
تحتفظ الذاكرة بلون العجاج شديد الحمرة ليجد صاحبها نفسه أمام ”صينية ثرود الباميا“ الأكلة المفضلة لعموم الديريين مع كامل أفراد الأسرة في دائرة لا يقل قطرها عن المتر ونصف المتر , تتوزع حول الصينية أباريق ”الشنينة“ والبصل الأخضر والفليفلة الحارة “يابااااا , وين جنا ووين صرنا؟“ يقول هذه الكلمات بعد استذكار جميع الشخوص الجالسين على المائدة بدءًا من الجد والانتهاء بآخر حفيد , مع تأوه عميق تكاد تخرج معه الروح , ليتابع مسيرته التأملية وينتقل إلى شمال المدينة حيث الماء المقدس الذي يطفئ جذوة الحر , ويخفف من حدة وفورة الديري الذي أُجبر أن يكون متوازنًا في بقعة جغرافية صغيرة طالما تنقلت بين البداوة والحضر.
تتنوع أشكال” السبابيل“و“اللگحات“في النهر “أبو مهيدي كان خبير بالسبول الفرنسي، وأبو عمشة يلگح حام حيم“ وفي النهاية جميعهم يسبحون , متحدين قسوة النهر وجبروته , فهم أسياد المكان , يستميتون بالمناحرة ) السباحة عكس التيار) , لكنهم ُيجبرون بالنهاية إلى ”التسييس“ (السباحة مع التيار والخضوع لقوانينه) يتبادر إلى ذهنه ذاك” السيباط“ في ”حويجة صگر“ الذي أنشأته عائلة من ذات عشيرته ”عمومته“ من أشجار الغرب تقيهم الحر المعتاد , وتلك ”الدبشية“ (البطيخ الأحمر) المركونة في آخر نقطة انحسار للنهر وسط ترقب ذبحها, والاستيلاء على ُجّمارتها (قلب البطيخة)، إلا أنه في النهاية يأبى إلا توزيع الجّمارة بين الحاضرين.
بسحبة من ذات السيجارة , يتصدر الحوش العربي المشهد من جديد , ليركز على ”الشايدان“ (ابريق الشاي) وتتوسع الدائرة قليلا لتشمل صحن ”الكليجة“ و“الكاسات العراقية المخوصرة“ المركونة على حافة ”البقجة“ (مساحة صغيرة مزروعة في باحة البيت) حيث الأم تجلس في محيطها مع الحّبابة ”نورية“, الجدة التي ”تتباوع“ في المكان لالتقاط خطأ ما في الترتيب , وهي بذات الوقت تركز مسامعها على حديث ”جنتها“ (الكنة) استعدادًا لاقتناص زلة لسانها والتي تحرص زوجة الابن على عدم حدوثها, رغم ثقتها باستحالة ذلك , فالجدة هي رأس النظام المنزلي , ومركز هذا العالم الصغير , ”الله يرحمجي يما , ويرحم حّبابة, ويرحم هذيج الأيام“، يقولها والدخان يخرج من بين شفتيه مع أوف الحسرة , ذات الحسرة بقيت مسيطرة على المشهد التالي من شريط الذكريات الذي استحضر عملية هدم الدير العتيق ببيوتاته و“درباته“ الضيقة وأربعة من مساجده من قبل نظام البعث في العام /1968/, معلنة بدء خراب المدينة على أيدي التصحيحيين, يتشبث سكان الدير العتيق بتاريخه لإثبات قدمهم وجذورهم المدنية, وأسبقيتهم في الأصل ”الديري“. “من يوم سّموا الأعيور بالبعث، راح الخير وراحت البركة“، يتمتم العجوز الديري هذه العبارة قبل أن تسرح مخيلته بجسر ”الأعيور“ أو الجسر العتيق الذي تهدم تلقائيًا وبنت السلطة جسرًا آخرًا بديلاً عنه, شريان مهم يصل أحياء المدينة بحي الحويقة حيث يفصلهما الفرع الصغير لنهر الفرات. تعبر المخيلة ذاك الجسر لتدخل شارع الجسرين والذي سمي فيما بعد بشارع المحافظ نتيجة وجود بيت المحافظ في آخره ”حتى شارع الجسرين سموه شارع المحافظ !! , شلحونا حتى تاريخنا“ , تتلمس الذاكرة بيوت الحويقة وتلقي السلام على أهلها, وتتابع المسير لآخر الشارع المنصف لها, فاتحة ذراعيها وقد عاد لون وجهها إلى نضارته, لتضم الجسر المعلق (كل الجسر),وتقبل ”دنگاته“ (أعمدته) وأوتاده, وتكمل المسير عليه وهي تنظر إلى النهر الكبير بشموخ وتباهي وكأنها تقول ”هذا لي“ , وتسرح في جمالية ”حويجة گاطع“ حيث الجنة بوسط النهر , وتتابع مشيتها البطيئة وكأنها لا تريد الوصول إلى نهايته, التي تأذن بدخول الجزيرة السورية, حيث أبناء العمومة والامتداد القبلي لبعض عشائر المدينة.
يستذكر صاحب الذاكرة وجه آخر غزالة وقع عليها نظره في بادية البشري، قبل أن يختفي وجود الغزلان نتيجة صيدهم الجائر، فكانوا يتغزلون بها وكأنهم يستحضرون أبيات قيس في ليلى، لدرجة أنهم عندما يصفون فتاة جميلة يقولون عنها” خشفة“ (الغزالة الصغيرة). ويقودهم عشقهم بالنهاية إلى ذبحها وتناول لحمها بأكلة” البجارية“.
ويدفعهم ولعهم بالصيد إلى التوغل في البادية والمبيت فيها عدة أيام, بحثًا عن طرائدهم, فهم أسود الصحاري, يعرفونها شبرًا شبرًا, ويحفظونها عن ظهر قلب, ولهم فيها نقاط علام لا يعرفها غيرهم, يتسابقون مع وحوش البادية على اصطياد فرائسهم, والغلبة لهم في النهاية, بعد أن تصبح الوحوش جزءًا من صيدهم.
تعود به المشاهد غير التراتبية إلى شارع النهر , حيث ”الجراديق“ (المقاهي المحاذية للنهر), التي تجمع ”الديريين“ على روائح شجر الَغَر ب ونسمات الفرات العذبة بعد يوم من التعب والجهد, تزينها ”السوالف العتيقة“ المليئة بالعناد وإصرار كل طرف على صحة روايته, وصيحات لعبة ورق ”البوراكو“ التي يختص بها الديريون دون غيرهم, لينتهي هذا الصراع الحميم بجلسات ود ومزاح خفيف تترافق مع انكسارات في حرارة الجو. تتوقف الذاكرة هنا, ويتمسك العجوز بآخر الصور المرسومة فيها, ولا يكترث بما يسمعه عن خراب المدينة الأخير, وعن تغيير معالمها, وعن السواد الذي يكتنفها, وما فتئ يردد ”الدير مر عليها أشكال وألوان, راحوا كلهم, وظلت الدير“
موقع حرية بريس
تحتفظ الذاكرة بلون العجاج شديد الحمرة ليجد صاحبها نفسه أمام ”صينية ثرود الباميا“ الأكلة المفضلة لعموم الديريين مع كامل أفراد الأسرة في دائرة لا يقل قطرها عن المتر ونصف المتر , تتوزع حول الصينية أباريق ”الشنينة“ والبصل الأخضر والفليفلة الحارة “يابااااا , وين جنا ووين صرنا؟“ يقول هذه الكلمات بعد استذكار جميع الشخوص الجالسين على المائدة بدءًا من الجد والانتهاء بآخر حفيد , مع تأوه عميق تكاد تخرج معه الروح , ليتابع مسيرته التأملية وينتقل إلى شمال المدينة حيث الماء المقدس الذي يطفئ جذوة الحر , ويخفف من حدة وفورة الديري الذي أُجبر أن يكون متوازنًا في بقعة جغرافية صغيرة طالما تنقلت بين البداوة والحضر.
تتنوع أشكال” السبابيل“و“اللگحات“في النهر “أبو مهيدي كان خبير بالسبول الفرنسي، وأبو عمشة يلگح حام حيم“ وفي النهاية جميعهم يسبحون , متحدين قسوة النهر وجبروته , فهم أسياد المكان , يستميتون بالمناحرة ) السباحة عكس التيار) , لكنهم ُيجبرون بالنهاية إلى ”التسييس“ (السباحة مع التيار والخضوع لقوانينه) يتبادر إلى ذهنه ذاك” السيباط“ في ”حويجة صگر“ الذي أنشأته عائلة من ذات عشيرته ”عمومته“ من أشجار الغرب تقيهم الحر المعتاد , وتلك ”الدبشية“ (البطيخ الأحمر) المركونة في آخر نقطة انحسار للنهر وسط ترقب ذبحها, والاستيلاء على ُجّمارتها (قلب البطيخة)، إلا أنه في النهاية يأبى إلا توزيع الجّمارة بين الحاضرين.
بسحبة من ذات السيجارة , يتصدر الحوش العربي المشهد من جديد , ليركز على ”الشايدان“ (ابريق الشاي) وتتوسع الدائرة قليلا لتشمل صحن ”الكليجة“ و“الكاسات العراقية المخوصرة“ المركونة على حافة ”البقجة“ (مساحة صغيرة مزروعة في باحة البيت) حيث الأم تجلس في محيطها مع الحّبابة ”نورية“, الجدة التي ”تتباوع“ في المكان لالتقاط خطأ ما في الترتيب , وهي بذات الوقت تركز مسامعها على حديث ”جنتها“ (الكنة) استعدادًا لاقتناص زلة لسانها والتي تحرص زوجة الابن على عدم حدوثها, رغم ثقتها باستحالة ذلك , فالجدة هي رأس النظام المنزلي , ومركز هذا العالم الصغير , ”الله يرحمجي يما , ويرحم حّبابة, ويرحم هذيج الأيام“، يقولها والدخان يخرج من بين شفتيه مع أوف الحسرة , ذات الحسرة بقيت مسيطرة على المشهد التالي من شريط الذكريات الذي استحضر عملية هدم الدير العتيق ببيوتاته و“درباته“ الضيقة وأربعة من مساجده من قبل نظام البعث في العام /1968/, معلنة بدء خراب المدينة على أيدي التصحيحيين, يتشبث سكان الدير العتيق بتاريخه لإثبات قدمهم وجذورهم المدنية, وأسبقيتهم في الأصل ”الديري“. “من يوم سّموا الأعيور بالبعث، راح الخير وراحت البركة“، يتمتم العجوز الديري هذه العبارة قبل أن تسرح مخيلته بجسر ”الأعيور“ أو الجسر العتيق الذي تهدم تلقائيًا وبنت السلطة جسرًا آخرًا بديلاً عنه, شريان مهم يصل أحياء المدينة بحي الحويقة حيث يفصلهما الفرع الصغير لنهر الفرات. تعبر المخيلة ذاك الجسر لتدخل شارع الجسرين والذي سمي فيما بعد بشارع المحافظ نتيجة وجود بيت المحافظ في آخره ”حتى شارع الجسرين سموه شارع المحافظ !! , شلحونا حتى تاريخنا“ , تتلمس الذاكرة بيوت الحويقة وتلقي السلام على أهلها, وتتابع المسير لآخر الشارع المنصف لها, فاتحة ذراعيها وقد عاد لون وجهها إلى نضارته, لتضم الجسر المعلق (كل الجسر),وتقبل ”دنگاته“ (أعمدته) وأوتاده, وتكمل المسير عليه وهي تنظر إلى النهر الكبير بشموخ وتباهي وكأنها تقول ”هذا لي“ , وتسرح في جمالية ”حويجة گاطع“ حيث الجنة بوسط النهر , وتتابع مشيتها البطيئة وكأنها لا تريد الوصول إلى نهايته, التي تأذن بدخول الجزيرة السورية, حيث أبناء العمومة والامتداد القبلي لبعض عشائر المدينة.
يستذكر صاحب الذاكرة وجه آخر غزالة وقع عليها نظره في بادية البشري، قبل أن يختفي وجود الغزلان نتيجة صيدهم الجائر، فكانوا يتغزلون بها وكأنهم يستحضرون أبيات قيس في ليلى، لدرجة أنهم عندما يصفون فتاة جميلة يقولون عنها” خشفة“ (الغزالة الصغيرة). ويقودهم عشقهم بالنهاية إلى ذبحها وتناول لحمها بأكلة” البجارية“.
ويدفعهم ولعهم بالصيد إلى التوغل في البادية والمبيت فيها عدة أيام, بحثًا عن طرائدهم, فهم أسود الصحاري, يعرفونها شبرًا شبرًا, ويحفظونها عن ظهر قلب, ولهم فيها نقاط علام لا يعرفها غيرهم, يتسابقون مع وحوش البادية على اصطياد فرائسهم, والغلبة لهم في النهاية, بعد أن تصبح الوحوش جزءًا من صيدهم.
تعود به المشاهد غير التراتبية إلى شارع النهر , حيث ”الجراديق“ (المقاهي المحاذية للنهر), التي تجمع ”الديريين“ على روائح شجر الَغَر ب ونسمات الفرات العذبة بعد يوم من التعب والجهد, تزينها ”السوالف العتيقة“ المليئة بالعناد وإصرار كل طرف على صحة روايته, وصيحات لعبة ورق ”البوراكو“ التي يختص بها الديريون دون غيرهم, لينتهي هذا الصراع الحميم بجلسات ود ومزاح خفيف تترافق مع انكسارات في حرارة الجو. تتوقف الذاكرة هنا, ويتمسك العجوز بآخر الصور المرسومة فيها, ولا يكترث بما يسمعه عن خراب المدينة الأخير, وعن تغيير معالمها, وعن السواد الذي يكتنفها, وما فتئ يردد ”الدير مر عليها أشكال وألوان, راحوا كلهم, وظلت الدير“
موقع حرية بريس