وفي عام 2023، وقبل أيام قليلة من أكثر انتخابات تحبس الأنفاس بتاريخ تركيا منذ وصول العدالة والتنمية إلى الحكم في البلاد، يذهب ذلك الانسجام تماماً، ويتحول إلى عداء مطلق بين الرجلين الذين كانا "رفاق درب" بقي أردوغان مستمراً في أهدافه التي رسمها بقيادة البلاد، وترك أحمد داود أوغلو الطريق لصاحبه صامتاً لعدة سنوات ثم عاد وأسس حزب المستقبل، وبدأ طريقه الخاص مع رفاق جدد لا يبدو أنهم على انسجام مشابه، مع اختلاف المشارف والأفكار والهويات والتطلعات المستقبلية.
لطالما كان يُعرّف أحمد داوو أوغلو كمنّظر أساسي ومهندس السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في كل الصحف والكتب التي تحدثت عن "المفكر والبرفسور التركي" الذي كان من القلة النادرة التي جمعت بين العلم الأكاديمي والتطبيق عبر دخول المعترك السياسي بكل ما فيه من مطبات وتحديات وخلافات، وإن كان من المبالغ به رفعه إلى مرتبة أهم السياسيين الأتراك نظراً لحجم التأثير الذي ترصده استطلاعات الرأي بشكل دائم.
بعد خلافه مع الرئيس التركي عام 2016 انسحب من المشهد لعدة أعوام، ومع مرور السنوات تحول إلى واحد من ألد أعداء الحزب الحاكم، متحولاً إلى أحد أعضاء الطاولة السداسية الساعية لإسقاط حكم أردوغان عبر صناديق الاقتراع بانتخابات 14 أيار.
من الأكاديمي إلى السياسي
على مقربة من مدينة قونية عاصمة الصوفية بالعالم، والتي تضم مقام "مولانا" جلال الدين الرومي، ولد أحمد داود أوغلو في طشقند عام 1959 لعائلة محافظة، واختار في مرحلة شبابه دراسة علوم الاقتصاد والسياسة في جامعة البوسفور، وهي واحدة من أهم الجامعات التركية في هذا المجال.
كما حصل داود أوغلو على درجة الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة البوسفور أيضاً ليبدأ عمله كمدرس بالجامعة الإسلامية في ماليزيا عام 1990، ثمّ أسس كلية العلوم السياسية في نفس الجامعة ليترأسها حتّى عام 1993. انتقل بعدها للعمل بجامعة مرمرة، قسم العلاقات الدولية بين أعوام 1995 – 1999، في الوقت الذي شغل فيه أيضاً منصب متحدث زائر في الأكاديمية العسكرية وأكاديمية الحرب في الفترة ما بين 1998 و2002.
وزاد من قوته في العلاقات الدولية أنه يتحدث أربع لغات إلى جانب التركية، وهي العربية والألمانية والإنكليزية والمالاوية.
بدأ البرفسور أو "الخوجا" كما يطلق عليه باللغة التركية، حياته السياسية الفعلية بعد أن قدّمه الرئيس التركي السابق (الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء حينذاك) عبد الله غول ليكون مستشاراً له ثم مستشاراً لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عام 2003.
ولطالما كانت فكرة الدمج بين الأكاديمي والسياسي حالة متعثرة وتحمل في طياتها كثيرا من التعقيد، إلا ما ندر، وهو ما استطاع داود أوغلو أن يظهر عكسه خلال سنوات ليست قليلة من العمل السياسي التنفيذي البحت.
منظّر السياسة في الدولة
وكانت المساحة المتاحة لداود أوغلو كبيرة ليطبق رؤيته ونظرياته بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، حيث عمل على إعادة ترتيب العقيدة الخارجية التركية بما ينطبق مع الوضع الجيوستراتيجي الجديد لتركيا، قادماً من خلفية إسلامية منفتحة على الشرق قبل الغرب، حيث لم يكن لتركيا مشكلات كبيرة مع الغرب بشكل عام، إنما عاشت قطيعة مع الشرق، خصوصاً أن خطة العدالة والتنمية قامت منذ البداية على التحول إلى قوة إقليمية صاعدة مستفيدة من التموضعات الدولية في المنطقة حينذاك.
من أبرز كتب أحمد داود أوغلو التي صاغها قبل أن يدخل إلى المجال السياسي وسعى لتطبيقها في أثناء أداء مهامه السياسية والدبلوماسية كتاب "العمق الاستراتيجي" الذي يعرفه معظم المهتمين بالشأن التركي من طلاب العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حيث ناقش فيه السياسة العالمية بعد انتهاء الحرب الباردة ومحاولة إيجاد موقع لتركيا فيها، محاولاً استعارة فضاء الإمبراطورية العثمانية وبعثه بوصفه عمقاً استراتيجياً للدولة التركية الحديثة، لذا يوصف بأنه من "العثمانيين الجدد" أو من دعاتها على الأقل، رغم رفضه للمصطلح.
وبالفعل طبقت تركيا نظرية داود أوغلو "صفر مشاكل" مع دول الجوار، وحسّنت من علاقاتها مع الكثير من الدول وتمددت دبلوماسياً، وإن اختلف ذلك مع بدء الربيع العربي والاصطفافات التي حصلت بعده.
ويمكن اعتبار العثمانية الجديدة نظرية جيوسياسية ترى أنه يجب أن تكون أنقرة لاعباً أساسياً في الأراضي التي كانت خاضعة للدولة العثمانية بدءاً من شرق أوروبا في البلقان، مروراً بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقوقاز. هذا الأمر الذي لا يرفضه فقط تلامذة داود أوغلو بل هو نفسه.
وفي تصريح سابق له قال: "علينا أن نبتعد عن هذا المفهوم لأنه بات يستخدم ضدنا، قلت مراراً إن تركيا كدولة قومية لا تختلف عن أي دولة أخرى في منطقتنا سواء كانت صغيرة أو كبيرة من ناحية عدد السكان"، وفق صحيفة "صباح" التركية.
أردوغان يختاره شخصياً
في عام 2009، اختير ليكون داود أوغلو وزيراً للخارجية في حكومة رجب طيب أردوغان الثانية، من خارج دائرة البرلمان في مخالفة للأعراف السياسية في البلاد، وفي انتخابات 2011 انتخب نائباً في البرلمان عن مدينته قونية، مستمراً في منصب وزير الخارجية.
ومع التعديلات الدستورية التي أتاحت للرئيس التركي أن ينتخب مباشرة من قبل الشعب لأول مرة في تاريخ البلاد، استقال أردوغان من قيادة الحزب ورشح أحمد داود أوغلو ليشغل المنصب إلى جانب رئاسة الوزراء في تقديم لشخصية جديدة ليست من كبار القيادات الأولى في الحزب.
وفي لقاء مع قناة الجزيرة قال الرئيس أردوغان في عام 2014، إن "اختيار أحمد داود أوغلو لمنصب رئيس الوزراء وقيادة الحزب كان بعد مشورات طويلة مع قيادات الحزب ونتيجة الاستشارات كان الشخص الأفضل لقيادة الحزب هو داود أوغلو".
وأضاف: "معرفتي به كانت قبل أن يعمل معي مستشاراً لرئيس الوزراء في عام 2003، فأنا أعرفه منذ شبابه، وأراد أحمد داود أوغلو أن يرجع إلى حياته الأكاديمية في أثناء عمله معنا، لكني قلت له: أنت واجباتك كثيرة بعد الآن، لقد كنت منظراً حتى ذاك اليوم، وأخبرته أن عليه أن يدمج بين النظرية والممارسة ليكون أكثر فائدة لبلدنا وشعبنا.
وأردف: "أما من الناحية الفكرية فنحن منسجمان جداً ولا يوجد بيننا خلاف في هذا المجال، وهو دؤوب وكثير العمل، أثق به وأثق بقدراته، مثل هذا التعيين لا يأتي من فراغ..".
قاد أحمد داود أوغلو الحكومة، وبعد أقل من عام أجرى أول انتخابات برلمانية بعهده في حزيران 2015 إلا أنها لم تحقق الأغلبية البرلمانية، ثم في انتخابات الإعادة في تشرين الثاني من العام نفسه تحسنت النتيجة واستطاع أن يشكل حكومة منفردة لحزب العدالة والتنمية.
بداية الفراق بين الرفاق
كان اختيار أردوغان لأحمد داود أوغلو سبباً أساسياً لتطبيق رؤيته في الانتقال إلى النظام الرئاسي، ويبدو أن الأخير حين وصل إلى المنصب قرر أن يأخذ كافة صلاحياته ما زاد من وتيرة الخلافات بين الجانبين، والتي بدأت بعد أول انتخابات حين أراد أردوغان الذهاب إلى انتخابات مبكرة في الوقت الذي كان يدفع فيه أحمد داود أوغلو لتشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب المعارضة، إلى جانب خلافات أخرى بالحزب.
ومع زيادة الشرخ بين الجانبين؛ صاحب الرؤية الجديدة للجمهورية ومؤسس الحزب وقائده التاريخي، والمنظر السياسي وأحد أعمدة الدبلوماسية في تركيا، يبدو أن كفة "الرئيس" كان راجحة أكثر من كفة "الخوجا"، وهو ما ظهر حينذاك في تسريبات "ملف البجعة" الذي انتشر على الإنترنت ويحكي خفايا الخلاف بين الجانبين في انحياز كامل لأردوغان، خصوصاً أن التسريبات تشير إلى محاولة داود أوغلو الانقلاب على الرئيس أردوغان.
وفي 5 أيار 2016، تنحى أحمد داود أوغلو عن منصبه في رئاسة الوزراء وقيادة حزب العدالة والتنمية في مؤتمر صحفي ليعلن عن عقد هيئة عمومية استثنائية للحزب وعدم ترشحه فيها، مختاراً "الرفيق على الطريق" بحسب قوله، في مغادرة سياسية بدت استثنائية وهادئة في حينها.
الانقلاب الأخير
بقي أحمد داود أوغلو صامتاً تماماً، محتفظاً بعضويته في البرلمان حتى عام 2018، ولم يكن له أي نشاط واضح، إلا أنه بدأ مشوار العودة إلى المشهد السياسي عبر انتقادات وإشارات خفيفة زادت وتيرتها مع عام 2019 حين أصدر "المانفيستو" الذي أورد فيه جميع آرائه في حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، ثم أعلن استقالته من الحزب الحاكم في مواجهة جديدة يبدو أنها كانت معدة من قبل، مستبقاً بذلك قراراً بفصله من الحزب.
وفي نهاية العام نفسه، أطلق داود أوغلو حزب "المستقبل" الذي يعد منشقاً عن العدالة والتنمية ويحمل كثيرا من رؤاه، محسوباً على التيار المحافظ أو يمين الوسط، داخلاً بأيدٍ مفتوحة إلى ساحة المعارضة الرسمية للرئيس التركي وحزبه الحاكم.
شارك في التأسيس 154 عضواً مؤسساً، عدد كبير منهم كانوا في حزب العدالة والتنمية (دون أي مناصب تنفيذية بالدولة أو عضوية برلمان).
وقال رئيس الحزب أحمد داود أوغلو عقب المؤتمر الأول التأسيسي للحزب "نحن مجتمع ينتمي إلى ديانات مختلفة، نأتي من خلفيات عرقية مختلفة، ولكننا مواطنون متساوون وشرفاء".
وأكد داود أوغلو أن حزبه الجديد يتبنّى سياسة منفتحة قائمة على الحريات والتعددية، ولكنها قائمة في الوقت نفسه على "احترام العادات وتقاليد المجتمع".
ويعارض الحزب النظام الرئاسي المعمول به في البلاد ويدعو لإعادة تطبيق النظام البرلماني، وإلى تعليم اللغة الكردية لغة ثانية لجميع الأتراك، بينما يعبر عن رفضه الخطاب العنصري ضد اللاجئين والأجانب، ويتبنّى عوضاً عن ذلك الدعوة إلى العودة الطوعية للاجئين السوريين بعد تحقيق البيئة الآمنة في بلادهم.
لاعب احتياط
شارك داود أوغلو في اجتماعات زعماء المعارضة في إطار ما عرف لاحقاً باسم تحالف "الطاولة السداسية" منذ اجتماعهم الأول في شباط 2022، ويضم التكتل المعارض كلاً من حزب الشعب الجمهوري وحزب الجيد وحزب السعادة والحزب الديمقراطي وحزب الديمقراطية والتقدم "دوا" بالإضافة إلى حزب المستقبل.
كان انتقال "الخوجا" سياسياً من مقاعد اليمين إلى مقاعد اليسار مفاجئاً حتى لحواضنه الحزبية الداعمة له، حيث انتقل من لاعب أساسي في صفوف المحافظين، إلى مجرد لاعب احتياط على قوائم حزب الشعب الجمهوري.
وإن كانت خطته تندرج في إطار التحالف السياسي أكثر مما هو انخراط في الحالة الأيديولوجية حيث بقي حزب المستقبل ضمن الرؤية المحافظة القريبة من نظرة العدالة والتنمية ولكنها لم تحقق أي كسر ملحوظ لقواعد العدالة والتنمية وفق آخر استطلاعات الرأي (الأمر ينطبق على حزب علي باباجان وزير المالية السابق في حكومة أردوغان).
حمل التحالف بين داود أوغلو وحزب الشعب الجمهوري حالة مفارقة إلى حد كبير خصوصاً أن "الخوجا" الذي أراد القفز مبكراً من قارب الرئيس أردوغان لم يستطع أن يحقق الشرخ الذي تحدث عنه في خطاباته رغم أهميته السياسية والفكرية، إلا أن الشخصية الكارزمية للرئيس حافظت على حضورها وتمكنت عبر نطاق التحالف نفسه من البقاء في خط الوسط ويمين الوسط وأقصى اليمين في الوقت الذي انقسم فيه الإسلاميون والمحافظون بين اليسار واليمين الذي تقدمه الطاولة السداسية.
ولعل قبول داود أوغلو بترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو لمنصب الرئاسة يحمل في طياته انقلاباً كاملاً في فكر المنظر السياسي الأبرز للإسلاميين الأتراك، وتراجعاً عن النظرة العثمانية وانزياحاً إلى الأفكار الأتاتوركية العلمانية التي وإن كان لا يقبل بها على المستوى الشخصي وربما الحزبي إلا أنه انصاع إليها سياسياً.
وكان الأكثر غرابة أن يقبل أحمد داود أوغلو أن يدخل الانتخابات البرلمانية لحزبه على قوائم حزب الشعب الجمهوري متخلياً عن شعار الحزب وأفكاره ورؤاه ضمن قوائم "عدو تقليدي سابق" فقط لأجل دخول عتبة البرلمان (7%) الذي لا يمكن لحزب المستقبل أن يحققها في الانتخابات.
فهل يكون هذا التحول لصالح داود أوغلو في قابل الأيام ويعطيه المساحة ليناور بين اللاعبين المحليين، أم سيكون انتحاراً سياسياً ويضمحل دوره في حال فوز أردوغان مجدداً بمعركة الرئاسة؟ وحدها صناديق الاقتراع من سيكون عندها الجواب الحقيقي.
---------
تلفزيون سوريا