وبالعودة إلى بسام كوسا فهو أحد هؤلاء الممثلين الذين استطاعوا تجيير الثقافة لصالح المهنة عبر دراسة الشخصيات التي يلعبها ليظهر بها مقنعًا قدر الإمكان، وإن كان هناك، حسب رأيي الشخصي، فجوة يكشفها المشاهد المتمرس في أداء كوسا تظهر افتعالًا ومبالغة وتجعل من الشخصية أداءً وليست عفوية وطبيعية. والسبب، وهذا رأي شخصي أيضًا، هو عدم توفر مناخ الحريات العامة التي تحتاجها الفنون عامة لكي ترتقي في أدائها وإنتاجها، لا قبل 2011 ولا بعدها بطبيعة الحال. وحين نتحدث عن الحريات العامة فنقصد بها كل أنواع الحريات، السياسية والعقائدية وحرية الرأي والتفكير وصولًا إلى الحريات الفردية المتعلقة باختيار شكل الحياة التي يرغب الفرد في عيشها حتى لو كانت لا تناسب عادات وقيم المجتمع المحيط.
"إن الممثلين السوريين، خصوصًا خريجي معهد الفنون المسرحية أو من كانوا يعملون في المسرح الجامعي في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، هم في معظمهم مثقفون وينتمون إلى شريحة المثقفين العلمانيين والتنويريين في سوريا."
ظهرت ثقافة بسام كوسا في حوار أجراه أخيرًا مع منصة "المنتدى" التابعة لقناة روسيا اليوم مع صحفية لا بأس بها في طرحها للأسئلة ومحاولات جر كوسا للإجابة على أسئلة تتعلق بموقفه السياسي مما حدث ويحدث في سوريا منذ 2011 وحتى الآن. كان كوسا في الحوار هادئًا يحاول إظهار الاتزان الذي عادة ما تتسم به الشخصيات الثقافية ويحاول إظهار ثقافته من دون رطانة لغوية ودون تثاقف بل بسعة صدر وإظهار انفتاح في الرأي السياسي وصرامة فيما يتعلق بشؤون الفن والدراما في سوريا. لكن حتى في هذا الحوار لم يستطع بسام كوسا أن يبدو عفويًا، كان كمن يلعب دور شخصية براغماتية متحايلة وذكية وتسعى لإحاطة نفسها بهالة من ادعاء الإنسانية والمحبة المعممة على الجميع. ولولا أن بسام كوسا كان قبل أشهر في لقاء علني لمجموعة من الفنانين السوريين مع رأس النظام السوري لصدقنا أن له قلبًا يتسع لجميع السوريين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم وانحيازاتهم. ولحاولنا أن نتجاوز غرائبية مقولته (حين يتصارع الحق مع الحق تنتصر الفجيعة)، هذه الجملة التي تلخص موقف بسام كوسا من كل ما يحدث، الموقف البراغماتي المتحصن بثقافة عالية؛ فهل جميع الأطراف محقة في سوريا؟ هل النظام الذي قتل وهجر ودمر واعتقل واغتال محق مثل أحقية الشعب الذي ثار مطالبًا بالعدالة والكرامة والحريات السياسية واستمر لعدة أشهر يخوض نضالًا سلميًا ومدنيًا ويقابل بإجرام معتوه وغير مسبوق؟ كيف تستقيم هذه المساواة بين الطرفين؟ كيف يستقيم لديه أن ما فعلته إيران وميليشياتها هو بنفس المكان مع ضحاياها، وأيضًا ما فعلته داعش بضحاياها، الجميع كانوا على طرفي صراع فهل الجميع كانوا محقين؟ منطق غريب فعلًا لكنه يتناسب مع هروبه من استحقاق الإجابة على أسئلة كثيرة منها سؤال المتسبب فيما حدث في سوريا حيث ألقى على المشاهدين جوابه السحري: إسرائيل التي لا تريد السلام! فما حدث في سوريا وفي غيرها من بلاد العرب هو بسبب زرع إسرائيل في منطقتنا قبل عقود؛ لا بأس، لسنا مختلفين معه على أسباب وجود إسرائيل وعلى ما فعلته وتفعله، ولكن هل إسرائيل هي من قصفت الشعب السوري بطائراتها وصواريخها عام 2011، وهل هي من هجرتهم؟ إلا إذا كان يقصد أن الربيع العربي مؤامرة إسرائيلية وما حدث في سوريا هو جزء من هذه المؤامرة عندها لن يكون أمامنا سوى إرسال التحايا له على هذه اللفتة بالغة الذكاء التي لم يتطرق لها أحد بعد.
تهرب بسام كوسا أيضًا من السؤال عن لقائه مع بشار الأسد بطريقة براغماتية حين تحدث عن المتغيرات العالمية في السياسة ومنها المتغيرات تجاه سوريا دون أن يذكر بحرف واحد اسم بشار الأسد أو كلمة واحدة مما دار في ذلك اللقاء واعتبر أن عودة المنفيين والممنوعين من دخول سوريا هي شأن دولي (لم يشرح لماذا)، وكأن من نفى وهجر ومنع من الدخول تحت طائلة الاعتقال والموت هو المجتمع الدولي؛ شاتمًا طبعًا الديمقراطية معتبرًا إياها كذبة كبيرة (لا أعرف كيف يمكن لمثقف أن يشتم الديمقراطية حتى لو كانت غير محققة كما يجب في الدول التي تطبقها) وطبعا اعترض على أحقية السوريين الذين يعيشون في الخارج في إبداء الرأي بما يحدث في سوريا التي غادروها كأنهم لم يدفعوا أثمانًا باهظة بسبب آرائهم! ولعله كان محقًا في شيء واحد فقط هو تخوين كل من بقي في سوريا من قبل كثر ممن خرجوا وهذا خطأ كبير ساهم في انقسام المجتمع السوري.
كان كوسا في الحوار هادئًا يحاول إظهار الاتزان الذي عادة ما تتسم به الشخصيات الثقافية ويحاول إظهار ثقافته دون رطانة لغوية ودون تثاقف بل بسعة صدر وإظهار انفتاح في الرأي السياسي وصرامة فيما يتعلق بشؤون الفن والدراما في سوريا.
تحدث كوسا عن الفساد والمحسوبيات والواسطة في سوريا وادعى أنه كان يتحدث في ذلك من قبل 2011، وكأن مشكلة سوريا كانت وما زالت فقط في الفساد والمحسوبيات، كأن لا مشكلة كانت في مصادرة حرية الرأي ولا مشكلة في منع كل أنواع الحريات ولا مشكلة كانت في الخوف الذي عاش فيه المجتمع السوري طيلة عقود كاملة، ولا مشكلة في الخراب العام الذي كان يعيش في وسط المجتمع مغطى بغطاء أمني، ولا مشكلة في اعتقال أي أحد لديه رأي سياسي مخالف والترويج مجتمعيا لخيانته وتعامله مع العدو، لا مشكلة في تقديس العائلة الحاكمة واعتبار الاقتراب منها ولو بالرأي بمثابة الخيانة. هل يعرف بسام كوسا ما حصل لرياض سيف مثلا وهو متمتع بحصانة برلمانية لاعتراضه تحت قبة البرلمان على سيطرة رامي مخلوف على قطاع الاتصالات في سوريا؟ هل سمع بما حدث مع الأكاديمي والاقتصادي عارف دليلة لمجرد اعتراضه على سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي أشرف عليها عبد الله الدردري؟ وهذان مثلان فقط عما كان يحدث في سوريا قبل 2011 وهما يصبان في صلب حياة المواطن السوري الذي يبدو أنه كان يعيش (بكرامة) برأي بسام كوسا حيث أن راتب الموظف كان يكفيه لآخر الشهر (لا أعرف عن أي موظف سوري يتحدث)، نعم كانت سوريا ممتلئة بالخيرات التي تكفي شعبين مثل الشعب السوري لكن هل كان الناتج النهائي في المعادلة الاقتصادية السورية يصب في صالح الشعب؟ هل هجرة نحو مئة وخمسة وثلاثين ألف شخص سنويًا بين عامي 2000 و2005 من مناطق الجزيرة السورية بسبب الجفاف هو مؤشر على الكرامة؟ هل التفاوت الطبقي بين مدينة حلب وريفها والريف المحيط (كوسا ينحدر من مدينة حلب) هو أيضًا مؤشر على الكرامة؟ هل يعرف أيضًا أن ريف الساحل السوري (ومنه قريتي والقرى المحيطة بها) هو حتى هذه اللحظة بلا بنى تحتية ولا صرف صحي؟ هناك الكثير جدًا مما يمكن التحدث عنه في شأن المواطن الذي كان يعيش بكرامة قبل 2011 لكنه كمواطن خائن فضل الانسياق وراء المؤامرة بقصد خراب بلاده! هذه هي خلاصة كلام بسام كوسا في حواره؛ كل هذه المراوغة والديماغوجية والتهرب من استحقاق الإجابة على أسئلة تتعلق بموقفه الحقيقي مما حدث تؤكد شيئا واحدًا: هناك مثقفون سوريون كان يمكن لدورهم أن يكون بالغ الأهمية في تغيير مسار ما حدث لو أنهم كانوا منتمين لشعوبهم كما يفترض بالمثقف أن يكون، لا منحازين لأنظمة مجرمة ومتعجرفة ترى في الأوطان مزارع لها وفي الشعوب مجرد أجراء يعملون لديها. وليس بسام كوسا سوى واحد من هؤلاء المثقفين القادرين على الجذب عبر كلام يخفي أكثر بكثير مما يبدي ويظهر
------------
تلفزيون سوريا.