ولو تتبعنا مسيرة وحال أضراب هذا المثقف لوجدنا أنهم لا يعملون ضمن أي إطار سياسي، كما لا يقبلون الانخراط في أي سياق من سياقات العمل المشترك أو الجمعي، ويعتذرون عن المشاركة أو التفاعل في أي صيغة من صيغ التفاعل كالندوات أو المحاضرات التي تحاول مقاربة أي مسألة من مسائل الشأن العام السوري، إذ كيف سيكون ذلك وهم المثقفون الذين يتفردون بحيازة مستوى عال من المعرفة والتفكير ولا يوجد الإطار الذي يوازي ما هم عليه من عمق الوعي! فضلاً عن أن العمل السياسي أو أي عمل مدني جمعي من شأنه أن يعرّضهم للاحتراق أو التلوث، باعتبار السياسة هي لوثة متى أصابت المثقف أعطبته.
جل ما ينتجه هؤلاء لا يتجاوز التبرّم بكل العاملين بالشأن العام والتعالي على جمهور العامة وادّعاء التنبؤ أو التكهن بما لا يعلمه الآخرون، فهو في سلوكه هذا أقرب ما يكون إلى سلوك الكهّان وضاربي المندل كما يقال
ووفقاً لهذا التصوّر فالحفاظ على نقاء صورة هذا المثقف وسمعته وهيبته إنما تقترن بابتعاده عن المشاركة المباشرة مع الآخرين، وبقائه بعيداً عن المعترك العام، فهو يراقب المشهد من بعيد، يقرأ ويحلل ويستنبط ويتنبأ، ولا تقتضي الضرورة أن يُطلع الآخرين على مُنتَجه، خشية أن تقع أفكاره النفيسة بين أيدي الدهماء فيفسدوها، أو يخطئون في فهمها فتذهب إلى غير وجهتها الصحيحة، فهو صاحب مشروع متفرّد، ومشروعه الذي يعمل عليه لا صلة مباشرة له بالشأن العام، بل ربما لنفسه، وهذا الأرجح فيما أعتقد، لأن المتابع والقارئ لمجمل نتاجات هؤلاء سوف يجد أن ما يكتبه وينشره لا يجسّد قيمة معرفية خالصة يمكن الاستفادة منها، ولا كذلك تصورات أو رؤى في السياسة أو الثقافة أو أي شيء ذي أهمية، بل جل ما ينتجه هؤلاء لا يتجاوز التبرّم بكل العاملين بالشأن العام والتعالي على جمهور العامة وادّعاء التنبؤ أو التكهن بما لا يعلمه الآخرون، فهو في سلوكه هذا أقرب ما يكون إلى سلوك الكهّان وضاربي المندل كما يقال. وغالباً ما يعلل هؤلاء ابتعادهم أو نأيهم عن العمل التشاركي بزعمهم أن ما هو موجود سيئ ولا يمكن الاطمئنان إليه، أو أنهم يطلبون من الآخرين أن يجهّزوا لهم المركب ليكون مكان القيادة بانتظارهم ولا شيء سوى ذلك.
ربما أتاح امتداد سنوات الحرب في سوريا وتشعّب مأساة السوريين، افتضاح الفحوى الحقيقي لنماذج من المثقفين الذين أحاطوا أنفسهم طيلة عقود مضت بهالة من الوقار المعرفي والسياسي، إلّا أن شدّة المعترك السوري وارتداداته العاصفة كشفت الكثير ممّن (شحمُه ورمُ)، كما بيّنت أن أمارات التبرّم والاستعلاء واستصغار الآخر ما هي إلّا محاولة لتحصين الخواء الداخلي من الافتضاح، وحماية الأنا المنتفخة من أن تفجرها أي وخزة من وخزات الواقع السوري المرير.
لكثرة إيغال هؤلاء بعالم الغرائب والمعلومات المفاجئة والمباغتة يتخيّل المرء أن كل واحد من هؤلاء المثقفين (الكهنة) ربما كان مستشاراً لأكثر من رئيس من رؤساء الدول العظمى
ربما بات مألوفاً أن تواجه في المشهد الثقافي والسياسي العديد ممّن وقّروا في أذهان الناس أنهم سَدَنة السياسية والفكر، ولكنهم لا يظهرون إلّا حين يكون المشهد ساخناً من جرّاء حدث مفصلي ما، فيباغتون الناس بآراء وتحليلات وتصورات تكاد تكون مفارقة لكل ما هو مألوف، زاعمين أن تصوراتهم إنما تتأسس على ما هو غير معلوم، نظراً لحيازتهم على علاقات وقنوات سرية رفيعة مع أهم مراكز القرار العالمية، وبالطبع لا يمكن لأمثال هؤلاء أن يصرّحوا ولا حتى أن يلمّحوا إلى مصادرهم سوى بالقول لجمهورهم: انتظروا سوف نفصح عن كل شيء في حينه، ولكثرة إيغال هؤلاء بعالم الغرائب والمعلومات المفاجئة والمباغتة يتخيّل المرء أن كل واحد من هؤلاء المثقفين (الكهنة) ربما كان مستشاراً لأكثر من رئيس من رؤساء الدول العظمى، وتأتيه كل يوم جردة حساب بمجمل الاستراتيجيات والتفصيلات الدقيقة لما ستقوم به الدول مستقبلاً.
ثمة ما هو ثابت ومشترك بين أضراب كهنة الثقافة والسياسة يتمثل بوهم قائم على أن المثقف والسياسي هو أقرب إلى طبيعة (الملائكة) من جهة أنه يحوز على ما لا يحوزه الآخرون، ويحتّم عليه امتلاك هذه السمة ألّا يصدر عنه سوى ما هو غريب ومخالف ومبهر، وهو بهذا ربما كان أكثر التزاماً بمنحى التفكير الغيبي الذي يلاقي استجابةً واسعة بين الجمهور، فما أكثر ما نسمع بعبارات من مثل (كل شيء يمر من تحت الطاولة – جوهر السياسات هو ما يُطبخ في الكواليس ...) إذ إن تعميم مضامين هكذا عبارات وتعزيزها يجعل من أحاديث الكهنة البضاعة الأكثر رواجاً واستسهالاً بين الناس.
على مدى عقود مضت من عمر نظام الإبادة الأسدي حفل المشهد السوري بأسماء كثيرة لمناضلين سوريين مخلصين جسّدوا حالة نضالية متميّزة سواء على مستوى الفكر والثقافة والسياسة، ومنهم من عاش ومات وهو في حالة من التماهي الكامل مع قضية شعبه، ولكنهم كانوا كبقية الناس يُخطئون ويصيبون ويطولهم غضب الناس وسخطهم ورضاهم ويعملون هنا وهناك ولم يجدوا في أنفسهم حالةً مفارقة لعاديتهم، بل ربما شعروا أن الرضا الحقيقي عن الذات والإحساس بالتوازن إنما ينبثق من قدرتهم على التعايش والانسجام وقبول الآخر بمنجزهم وليس العكس، وعلى الرغم من ذلك فقد ظل هؤلاء في قلوب السوريين واستطاعت (عاديتهم) أن تمنحهم ما يستحقون من حفاوة أخلاقية ومعرفية، نعم لقد كانوا بشراً كبقية الناس فأحبتهم الناس لأنهم بشر مثقفون وليسوا كهنة.
---------
تلفزيون سوريا