بعد ذلك نجح تركي آل الشيخ عن طريق بوابة الإعلام، بدءاً بمذيعه المفضل عمرو أديب، الذي لا يجد غضاضة أن يجلس في حضرته، وقد دلدل رأسه في خضوع، ثم تلقى ما يشبه الصفعة على القفا بكل امتثال، ثم بعد ذلك وجدناه وقد اجتذب الفنانين المصريين عن طريق الإنتاج السخي لأفلامهم، ثم تدخّله في من يحقّ له أن يستكمل مهنته، كبيومي فؤاد، ومن سيتعثر فيها وسيعاني وسيحرم من جنة سخائه، كمحمد سلام، كما أن موسم الرياض العام الماضي، بدا كأنه موجود بالضبط للتشويش بصوت الأفراح العالية على تلك القضية، وعلى أصوات الموتى، كما يرى الباحث عبده فايد، حين قال: “الإصرار على بدء موسم الرياض بشكل احتفالي باذخ، في وقت الإبادة الجماعية في غزة، ليس مجرّد ( قلة ذوق) بل موقف سياسي واضح في رأي البعض، يعكس الموقف السعودي تجاه ما يحدث، وهي الدولة التي قاربت على التطبيع على نحو رسمي مع إسرائيل”.
رأى تركي آل الشيخ أن حفل “جوي أووردز” لا يقل أهمية عن جوائز الأوسكار والإيمي ومهرجان كان، وهو ما دعمته كتابات منبطحة، من نقاد كطارق الشناوي، الذي كرّر في مقال له ما أراد تركي آل الشيخ سماعه، فكتب: “ما هي شفرة النجاح؟ من السهل جداً أن تستمع إلى تلك الإجابة لتحليل ما تحقق خلال السنوات الأخيرة بالمملكة العربية السعودية، وفي كل مظاهر الحياة”، وقال أيضاً: “ما رأيناه في الرياض على الشاشات قبل نحو 36 ساعة في (جوي أووردز) ينافس وعن جدارة حفل الأوسكار. إنه دليل عملي قاطع، يؤكد أن الخيال يسبق الإمكانات، وهناك رؤية متجدّدة تعانق المستحيل، وقبل وبعد كل ذلك شعب عاشق للفن وللحياة”.
على رغم الديباجة ومئات الملايين، وعلى رغم الإبهار ودعم المنافقين، يكفي أن يصرّح فنان عن دعمه للقضية الفلسطينية، بكلمات بسيطة، لتنقلب الدنيا، ويغطي ذكره لفلسطين على الحفل، ويسبّب هذا التشويش والهجوم كله، الذي يصل إلى حد التقليل والإهانة لكل ما هو مصري، ويتحوّل الفن إلى “هَلْس” مفرّغ من معناه.
رغم ذلك، بقي المثقفون، على الأقل، قادرين على انتقاد تركي الذي يسخّر كل موارده، ليس فقط لخدمة دولته، وهو الحق الوحيد المشروع له، لكن ما لا يحق له هو أن يفعل ذلك بتفريغ كل شيء من معناه، من معنى الفنّ نفسه وكرامة الفنانين ومن قيمة المتعاملين معه، الذين إن لم يبد هؤلاء خضوعاً مهيناً للنفس سيحرمون من جنته، وما انقلابه على النادي الأهلي في الأساس إلا لإدراكه أن الخضوع لم يكن تاماً بسبب ضغط جماهيره.
غضبي سرعان ما تحول إلى قرف، مع سرعة من كتبوا من الروائيين أو الكتاب بشكل عام، مبرّرين قبول فكرة التقديم لتلك الجائزة، مبرّرات تُشعرك بالإهانة بسبب تضليلها وتمييعها للأسباب، وخلطها للحابل بالنابل، والحجّة الأولى الكاذبة أنها تشبه الجوائز كلها، فما الفارق بينها وبين جوائز الإمارات أو قطر، وأن الجوائز كلها في النهاية “سبوبة” أو “لقمة عيش”.
وكنت مستعداً، قبل عشرات التبريرات، أن أتفهّم الضعف الإنساني وضخامة الرقم، وأن أقبل فكرة أن بالتأكيد هناك عشرات الكتاب الذين سيقدّمون للجائزة المغرية حقاً، فعلى الأقل لم يحاولوا تزيين المسألة، ولم أكن لألومهم على اختيارهم، وهو شيء كان ليثير تحفّظي لا قرفي.
ما أثار قرفي هو منطق “النفوس الجائعة” التي تشابه عليها كل شيء في هذه الأيام “المهزأة”، التي لم تعد ترى في الجوائز أصلاً تقديراً لأدب مكتوب وجهد إبداعي، ولم تعد تراها سوى “لقمة عيش” لسدّ فم جائع، وهو ما يعني أن هناك من بيننا من استقبلها، أو من هم على استعداد وتوق لاستقبالها، بلا أي شعور بكرامة التقدير الأدبي، بل باستجداء المتسوّل الذي مُنح هبة أو منحة من كفيل.
لا أظن أن ذلك هو المنطق السائد لدى الجميع في قبول الجوائز، لكن من الضروري للنفوس الجائعة أن تفرض ذلك التعميم، كي تهدّئ من ضمائرها، فمن الأسهل على شخص أن يكون بلا كرامة إذا ما رأى الآخرين كذلك، والنفوس الجائعة لن تشبعها ملايين الدنيا، لذا من الملاحظ في تلك التبريرات أن تفترض أن من سخروا أو هاجموا الجائزة “سيكون موقفهم محرجاً عندما يكتشف خبر تقديمهم للجائزة لاحقاً”.
تلك التصورات التي لم تعد تعكس تصور كتّاب يحترمون أنفسهم أو ما يفعلونه، ويرونه فاسداً وتافهاً في الجوهر، ما يسهّل لهم أن يكونوا كذلك بمنطق “ما جتش عليا يعني”، هي الكارثة الحقيقية لا جائزة تركي آل شيخ.
من يقول إن جائزة تركي آل الشيخ تشبه كل الجوائز، يعلم بداخله أنها ليست كذلك، فعلى الرغم من أنه لا توجد جائزة أدبية في العالم، وليس فقط في العالم العربي، تخلو من توجه سياسي ما وتهدف إلى شيء آخر، لكن لا توجد جائزة واحدة إلا جائزة تركي آل الشيخ مشبوهة ومفضوحة بهذا القدر، ولا توجد جائزة عرفنا عنها أنها تفرض عليك أن تسبح بحمد صاحبها ليلاً نهاراً، أو تخضع له طائعاً لسياساته وسياسات دولته، كما أن أغلب الجوائز تحمل نوعاً من التقدير الأدبي وصكّ احترام للفائز، جائزة تركي آل الشيخ ليست إلا إمعاناً في اللاشيء، أو بحسب تعبير الكاتب والمترجم محمد جمال: “فهي أكثر جائزة، ليس فيها سوى الشيك، وصورة لك ترقص لتسلية سعادته وهو يقولك: أحسنت أحسنت”. ونحن نعلم من شواهد سابقة ما فعله تركي آل الشيخ في كل من انتقده أو عاداه، ولم يخضع له.
منطق تشويه الجوائز كلها، لتصفية الحسابات مع كتّاب، أو لانتصار يدعي الطهرانية على رأس المال الإماراتي على حساب القطري، أو العكس، هو ما أدى إلى سهولة التضليل عندما نجد أمامنا جائزة مشبوهة بما لا يدع مجالاً للشك، جائزة لا مجال فيها لصك تقدير مستحق أو استقبالها بكرامة المبدع، الذي قد يكون اسمه وما كتبه أهم من الجائزة نفسها، بل وهو من يرفع من قيمتها في كثير من الأحيان.
واحدة من الحجج المهينة الأخرى هو أن نجعل من العمل في مواقع عربية ذات تمويل خليجي، شبيهاً لقبول جائزة مشبوهة، فما الفارق؟ خاصة أن المواقع العربية التي لا يحركها رأس مال سياسي غير موجودة. رغم علم هؤلاء أن الكاتب مسؤول عما يكتبه في أي مكان يعمل به، حتى لو عمل ضمن حدود سقفها، إذا كانت أغلب المواقع المتاحة كذلك، وأن المسألة هي إذا ما كان مستعداً لكتابة ما يخالف ضميره، أو تلوين ذلك الضمير كمهرج وأراجوز مدفوع الأجر، فينافق أو يدلّس لملاك الموقع، أو يكتب ما يملونه عليه، ولا أظن أن ذلك هو ما يفعله أغلب الكتّاب.
المهين هو تحول العالم في نظر البعض إلى “سبّوبة” كبرى، فلا مجال فيها لكرامة أو احترام، ذلك ما يُسقطه أصحاب تلك الحجج وهم يتساءلون، في ادعاء لبراءة يظنونها مكراً ودهاء، عن الفارق، وتخفيض لسقف المتاح من العمل، وإغلاق كل المسالك الممكنة أمام الكتّاب، من أجل قبول منطق مشبوه: استبدال ما هو ضروري وممكن بالخضوع التام لما هو غير ضروري، طالما حمل سحر المال.
كما أن حجّة أن الإبداع في العالم العربي يحتاج إلى مصاريف إعالة لذا فلن نجد غضاضة في قبول جائزة تركي آل الشيخ، كما لو أن الكاتب، بحسب تعبير نوارة نجم، “منادي عربيات” أو “بياع ترمس”، كما أنه إسقاط نهائي لفكرة أن الأديب صانع ثقافة، ومدين لقرائه أكثر مما هو مديون لكفيل، أن الأدب نفسه “نحتاية”، وهو ادعاء يقوم على فكرة غاية في الغرابة، أن العالم من المفترض أن يدفع ثمن اختيارك لشيء كالأدب، وأن يصرف على إنتاجك، حتى ولو لم تثبت بعد أنك تستحق أن يكون لك مكان فيه، ولم تُختبر جودة ذلك الإبداع وأهميته من عدمه، وأن الهدف الوحيد من الكتابة هو “تحصيل أكبر مبالغ نقدية ممكنة”.
ليس على الكاتب أن يكون فقيراً، فتلك واحدة من الصور بالغة “الكمكمة” خارجة من رحم الستينيات والسبعينيات، لكنه أيضاً يملك – يا للغرابة- أن يعمل، كي يكفل كرامته وكرامته بيته قبل أن يخط حرفاً، فالأدب هو الشيء الوحيد في العالم الذي لا يطالبك أحد بفعله، ولن ينهار العالم إذا توقفت عن فعله، هذا اختيار محض، من المفترض أن يأتي فيه الإتقان وحب ما نفعل والإخلاص له قبل أن نطالب العالم بشيء.
 من أين لكاتب أن يثق، وهو ما زال على قيد الحياة، أن تقديره أمر حتمي على الآخرين أن ينصاعوا له، كما أني لم أر كاتباً واحداً يتحدث عن “أهمية المال للتفرّغ لإبداعه”، إلا وكان هذا الإبداع في الأساس محلّ شك، تماماً كما يفعل الكتّاب الذين يحيلون مسألة عدم تقديرهم الأدبي إلى مسألة الشلة وفساد الوسط الأدبي، بينما لم يلتفتوا إلى احتمالية أن ما كتبوه قد لا يستحق هذا التقدير، أو قد لا يكون مناسباً إلا لنخبة من القراء، وحتى إن كان يستحق التقدير الواسع، وهو شيء في مخيلة الكتّاب، يعني أن يعبده ملايين القراء لمجرّد أنه تفضل عليهم وكتب نصاً، فأحيل هنا إلى مقولة مبدع أصلي هو نجيب محفوظ، إذ يقول: “دخلت الأدب وفي نيتي أن أعمل لآخر نفس، نجحت سأستمر، فشلت سأستمر، كنت مصراً ألا يعوقني شيء، الفن حياتي”.
كان من المفترض أن تكون تلك الجملة المحرّرة من العبء المعطل لانتظار التقدير والأموال والجوائز، أن تكون منطق الأشياء. ما الذي يعنيه قلب ذلك المنطق، سوى ما أقوله الآن مضطراً، بعد أن كشفت جائزة لتركي آل الشيخ أن كلّ شيء مباح، أن الجوائز المادية أفسدت الكتاب حقاً، وهي جملة كنت على استعداد للشجار مع قائليها.
نحن كتّاب، ونتحمّل مسؤولية تجاه صناعة الثقافة، تفرض علينا ما لا يفرض على سوانا، ولسنا قروداً مسلية في كوكب تركي آل شيخ، باسم “السبوبة” و”اللقمة”.
المفاجأة الكبرى بعد أن كتب البعض في تمجيد وتحية تركي آل الشيخ، مونولوغات طويلة عن خطته الذكية الواضحة في المشهد الفني والثقافي من أجل بلاده، وكلمات ضخمة مضللة “كدعم الحراك الثقافي”، وهل يملك المثقفون أي شيء سوى التلاعب بكلمات من “تحت الحوض”، قبل حتى إن يخرج تركي مليماً واحداً، أن الجائزة في الأساس ليست موجهة لكل من تورطوا في الأسئلة عن الفارق وتمجيد صاحب الجائزة، فالجائزة وبوضوح من السطر الأول تتكلم عن “الروايات الشعبية” أو “البيست سيللر”، الأدب البوليسي والفانتازيا، الأكشن والجريمة، بل والكوميدي، وهي تصنيفات لا يكتبها أغلبنا.
كما أن الهدف هو رواية تصلح للسينما، أي أن روايةً تمتلك طموحاً جمالياً أو أدبياً مغايراً قد تُستبعد في الأساس، لأن التقييم سيكون من منظور سينمائي لا أدبي، ومن المعروف أنه حتى الروايات الضعيفة أيضاً تصلح للتحول إلى السينما، مثلها مثل الروايات القوية، وإن كان تحويل الروايات الضعيفة أسهل سينمائياً، كرواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني، لأن منطقها الأول هو الصورة، وهو ما يسهّل على السيناريست عمله، وأغلب الظن أن الرواية التي في خيال تركي آل شيخ، تشبه روايات أحمد مراد التجارية والمشوقة. فهل يغير الكتاب من طبيعة مشاريعهم التي من المفترض أنها تتقصى بعداً إنسانياً، متجاوزاً للروايات التي كتبت بغرض التسلية والتصوير المباشر للسينما، بل إن بعضهم تبرّع بتصور أن الجائزة ستغير مساراتها لاحقاً، ليوفق بين أوهامه وبين ما يكتبه.
تركي آل الشيخ وجائزته لا تراكم من الأصل. تركي يعيش في عالم آخر، إذ يصنع كوكب القرود الخاص به. عالم لا وجود فيه لأي عمق أو أصالة، بل هدفه محو كل عمق وأصالة وإحالة كل شيء إلى التفاهة. إذا كانت تلك هي المسألة من البداية، والكتابة بالنسبة إليكم شيء لا ضرورة فيه للعمق والأصالة، فلا تتحفونا بتبريرات مضللة، أكرم لكم ولنا، وتحلوا بمسؤولية اختياركم، دون أن تضعوا الجميع معكم في سلة واحدة.
“اخْتِشوا”… تلك هي خلاصة هذا المقال الطويل.
-----------
رصيف 22