نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الصراع على دمشق.. إلى متى؟

13/09/2024 - جمال الشوفي

( ماذا نفعل بالعلويين؟ )

12/09/2024 - حاتم علي

(عن الحرب بصفتها "الأهلية" ولكن!)

07/09/2024 - سميرة المسالمة *

(الأسد المتوجس من غَضبة الداخل)

31/08/2024 - إياد الجعفري*


ثورة أم حرب أهليّة في سورية؟







أردتُ أن أبيّنَ بعض الأمور حيالَ الجدلِ الدّائر عن التّسميةِ الأنسب للأحداث التي عصفت بسورية خلال السنين الـ 13 الماضية، أهي "ثورة" أم "حرب أهليّة" كما سمّاها البعض.
لكن قبلَ أن أشرعَ في مقالتي عليّ أن أوضح أمرين: منشوري هذا الذي أكتبهُ على عُجالة (وأنا في الطّائرة) ليس تعليقاً على كتابٍ بعينه— فأنا لم أقرأ الكتاب المُختَلَفَ عليه— ولا على ندوةٍ ما، ما فأنا لم أحضرها، بل هو عن جدلِ التّسمية وحسب.


كما أنّ هدفي ليس التّشكيك بأحد، إذ انّني أرى بأنّ علينا أن نتحلّى بأدب الاختلاف حين تتباينُ آراؤنا طالما أنّنا في خندق واحد، وأن نحفظَ بأسنا لعدوّنا وعملائه.
 
ثانياً، رغم أنًي ناشطٌ ومساهمٌ أساسيّ في هذه الأحداث منذ بدايتها وحتّى اليوم، إلا أنّي لا أكتبُ تعليقي هذا بصفتي ثائراً— مع شديدِ افتخاري بهذه الصّفة— بل بوصفي أكاديمياً وباحثاً استطاع، وبكلّ تواضع، أن يُقْبَلَ وأن يتخرّجَ بتفوّقٍ في أعظم جامعات العالم، ولا أقولُ ذلك تباهياً معاذ الله، فلا فخرَ بما هو فضلٌ محضٌ من الله، بل للتبيان فقط، وبصفتي أيضاً مختصّ ومُجاز في مجال النّزاعات من جامعات أميركية.
 
قد يعتقدُ البعضُ أنّ هناك حقيقةً "علميّة"، "مجرّدةً" و"موضوعيّة" سنهتدي لها لو أعملنا عقلنا فحسب وأسقطنا العاطفةَ من حساباتنا، مفادها بأنّ ما جرى ويجري في سورية هو "حرب أهليّة" ولا ريب، في حين أنّ صفةَ "الثورة" نابعةٌ بالضرورة من تغليبِ العاطفةِ على العقل، ومن التّعامي عن وقائع كثيرة، وبناءً عليه فإنّ استخدام هذا الوصف لا يليقُ بباحثٍ جادّ، ولا مكانَ له في الأدبيّات الرّصينة.
 
وقد يحتجُّ أصحابُ الرّأي هذا بأنّ السّنينَ التي خَلَت قد شهدت اقتتالاً بين بعض الجماعات العرقيّة والمذهبيّة في سورية لا يستطيعُ إنكارهُ ذو عينين، كمحاربةِ شيعة نبّل والزّهراء لمحيطهم السنيّ الثّائر في حلب مثلاً، أو كاحترابِ فِرقةٍ كرديّة مسلّحة مع عشائر عربيّة في منطقة الجزيرة السورية، الخ. لكنّ الاعتقاد بـ "علميّة" هذا الرًأي أوّلاً، وبأنّ المسمّيات التي يُطلقها علماءُ الاجتماعِ والمؤرّخونَ (والسياسيّون) على الأحداث والوقائع التاريخيّة نابعةٌ من استنباط "موضوعيّ مجرّد" موجود في "الطبيعة" بمعزلٍ عن البشر وأهوائهم هو اعتقادٌ خاطئ جدّاً— وغير علميّ.
 
وحتّى لا نُغْرِقَ في الكلامِ المجرّد فالمقامُ هنا ليس مقامَ تجريد، دعونا نستعرض مثالاً شهيراً: الحربُ التي شنّها سُكّانُ المستعمراتِ البريطانيّة في ما يسمّى اليوم بالولايات المتّحدة الأميركيّة على الحكم البريطانيّ في القرن الثامن عشر الميلادي كانت وبإقرارِ الكثيرِ من المؤرّخين حرباً أهليّة بامتياز. فرغمَ وجود فئةٍ مُعارضةٍ لحكم بريطانيا وراغبةٍ في الاستقلال عنه، إلا أنّ قطاعاتٍ واسعة من سكّان تلك المستعمرات كانت مواليةً للتاج البريطانيّ ومعارضةً للعمل المسلّح ضدّه. وأذكرُ أنّ آخرَ تقدير قرأتُهُ عن نسبة المؤيدين للثورة الأميركية حينها كان للمؤلّفِ الأميركي المرموق ريك آتكينسين في كتابه الشهير "أتاكم البريطانيّون" حيث قدّرهم بـ 30 بالمائة تقريباً، وهو القول المطابق لقول الرئيس الأميركي السابق جون آدامز—الذي كان أحد قادة الثورة— حين سُئِلَ عن عددهم فأجاب بأنّ "الوطنيين الغيورين" كانوا 30٪؜ تقريباً. 
 
هل تعرفون معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الأغلبيّة السّاحقة لسكّان المستعمرات كانت إمّا معارضة للثورة (30٪؜ تقريباً حاربوا مع التّاج البريطاني) أو محايدة على أقلّ تقدير (40٪؜) .الأهمّ من ذلك هو السّياسةُ التي انتهجها الثوّارُ الأميركيّون مع من خالفهم من أبناء جلدتهم، فقد نكّلوا بالموالين (وبالمحايدين حتّى) على نطاق واسع بالسَّجْنِ في قوارب شحن صغيرة في نهر الهدسون في ظروف شبّهها الكُتّاب المعاصرون بالظروف المريعة في سجن "أبو غريب"، وبمهاجمة وحرق منازلهم، ومصادرة أموالهم، وبعقوبات كان أبسطها ما يُعرف حينها بالـ ((tarring and feathering حين كان يُؤتى بأحدهم أمام العامّة ليُعذّبَ فتُنْزَعَ عنه ثيابه ثم يُغمس في القَطِران الحارّ أو يُطلى به جسده، ويُرمى بعدها في كومة من الريش ليلتصق الريشُ بالقطران وبجلده— وأشدّها— ما دونَ القتل— هو إنزالهم بالحبال إلى كهوف ضيّقة في مناجم الفحم حيث كان المائة نَفَر يُحتجزون في بطن الأرض في مكان أشبه بالقبر يسمّى "جهنّم" شديد الضيق لا ضياء فيه ولا هواء، وبوسعكم زيارة سجن Old New Gate Prison في ولاية "كُونِّكتِكِت"الذي صار متحفاً اليوم للاطلاع على جانبٍ من ذلك.
 
وحقيقةً— ورغم إعجابي الشديد بالثورة الأميركيّة وبحذاقة الآباء المؤسّسين— فقد راعني في معرض دراستي لتلك الحقبة ما طالعتهُ عن حجم البطش الذي أنزلهُ الثوّارُ بأبناء جلدتهم الموالين لبريطانيا ممّا لم يأتِ الثوّار السوريّون بـ 10٪؜ منه. فهل أطلقَ علماءُ الاجتماع والمؤرّخون على تلك الحقبة اسم "الحرب الأهليّة الأميركيّة" من باب الإنصاف والدقّة العلميّة رغم انطباقِ التّعريف الأكاديميّ عليها ورغم محاربة الأخ لأخيه والوالد لابنه في كثير من الأحيان؟ بالطبع لا! فتلك الأحداثُ تُعرفُ تاريخيّاً بثلاثة أسماء هي: —" الثورة الأميركية" —و"الحرب الثورية (الأميركية)" — و بـ "حرب الاستقلال".
 
وسواءً أبحثتَ في كُتُبِ التاريخ التي تُدرّسُ اليومَ للطلاب في المدارس، أم في الكتب والمقالات الأكاديمية التي ينشرها المختصّون فإنك لن تهتدي لهذا الباب البحثيّ ما لم تستخدم مصطلح "الثورة الأميركية"، لمَ؟ لأنّ إرادة النّخبة السّياسيّة التي انتصرت قضت بذلك وسعت له سعياً محموماً أثناء الحرب وبعدها، وهي التي شكّلت وعيَ الأمّة النّاشئة ووعيَ الأجيال اللاحقة بتلك الحقبة.
 
ومن إحدى الطّرائف ذات الصلة بمبحثنا أنّ إحدى شرارات تلك الحرب كانت حادثةً تُعرفُ تاريخيّاً باسم "مذبحة بوسطن." وحقيقة قبل دراستي لتلك "المذبحة" كنت قد سمعتُ باسمها كثيراً واعتقدت بأنّها— حسب ما يوحي الاسم— مجزرةٌ كبرى قام بها البريطانيّون بحقّ سكّان "بوسطن"، فإذا بي بعد الدّراسة أجد أنّها كانت حادثة إطلاق نار عن غير إصرار وترصّد جرت حين حاصرَ حشدٌ هائج جنديّاً بريطانيّاً كان يحرسُ الجباية في ديوان الجمرك، فوقعَ القومُ في هَمَرجة هجم فيها السكّان على الحارس بالعصيّ والهراوات ليحصل إطلاق نار عن غير قصد ويسقطَ خمسة قتلى. (وقد جرت مقاضاة الجنود رغم ذلك في محاكمة شهيرة).
 
تلك كانت هي "المذبحة" الشهيرة! خمسة فقط! وعن غير تعمّد!.
 
وقد بحثتُ بدافعٍ من الفضول في أصل التّسمية المعتمدة في كتب التاريخ، لأجدَ أنّ سببها يعود للبروباغاندا أو الدعاية السياسية المحمومة التي أطلقها الثوّار الأميركيّون حينها— وعلى رأسهم صموئيل آدامز— فقد وجودوا في تلك التسمية ما يوغرُ صدورَ سُكّانِ المستعمرات على البريطانيين، ويُؤلّبهم عليهم، ويعينُ الثوّارَ على كسبِ المزيد من المناصرين لصفّهم، وقد نجحوا في ذلك.
 
لن أغوصَ في الثورة الفرنسية وما حصل فيها من فظاعات ورُعب—لمن كان يعتقد أنّ الثّورات طوباويّة وإلّا فإنّ صفة الثوريّة تسقط عنها— ولا في غيرها من الأحداث التي جرت في العصور الغابرة ممّا يصلحُ الاستشهاد به هنا، بل سأكتفي بمثالين أخيرين من عصرنا الحالي.
 
لو سألتكَ عمّا يجري في أوكرانيا اليوم فإنّك ستشيرُ له على الأرجح باسم "الغزو الروسيّ لأوكرانيا" فهذا هو الاسمُ الشائع والمستخدمُ في الإعلام. لكن من أين أتى هذا الاسم وكيف شاع؟ لا ريبَ أنّ روسيا قد غزت أوكرانيا، لكنّ أقاليماً كاملة في شرقِ أوكرانيا مؤيّدةٌ لهذا الغزو فقد اندلعت حربٌ أهليّة في أوكرانيا قبل 10 سنين دخل فيها سكّان إقليم الدونباس في احتراب أهليّ مع أبناء جلدتهم من الأوكران ممّن يريد الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبيّ، بل وبلغَ بهم الأمر أن يعلنوا انفصالهم الكامل رغم حملهم للجنسية الأوكرانية. 
 
فلم لم تُسمّ الحرب الدّائرة في أوكرانيا ب "الحرب الأهليّة الأكرانيّة"؟ ولمَ لا نسمعُ عن ذلك في الإعلام؟ ولمَ لمْ يُدع المتحاربون لجنيف كما دُعيَ لها السوريون بغية الوصول لحلّ سياسيّ تحت شعار "لا حلّ عسكريّ في أوكرانيا" و"الحلّ السياسيّ هو الحلّ الوحيد"، وهما العبارتان اللتان ثُقّبَتا آذانُ السوريّين بهما؟.
 
هل السبب في ذلك علمي وأكاديمي؟ بالطبع لا؟ فكما ذكرت، هناك حربٌ أهلية دائرة بين جماعات أوكرانية مختلفة علاوةً على الغزو، لكنّ الولايات المتّحدة ودول الاتحاد الأوروبّي أرادوا تعريف الحرب عالميّاً على أنّها "غزو روسيا لأوكرانيا" و"حرب بوتين على أوكرانيا" مُردّدين هاتين العبارتين في كلّ حديث لهم عن تلك الحرب وفي كلّ خطاب مع الصّحافة عنها، وكان ذلك جزءاً من استراتيجيّتهم الإعلاميّة للسيطرة على السرديّة لسببين:
—تسليط الضوء على مسؤولية روسيا وبوتين عن الحرب،
— وكسبُ التعاطف والتأييد المحليّ والدوليّ لتدخّلهم لصدّ هذا الغزو.
 
تخيّل معي لو أنّهم وصفوا ما جرى بأنّه "حرب أهليّة" مع تدخّل أطراف دوليّة في "حرب وكالات" فهل كانوا ليستطيعوا أن يدافعوا عن تدخّلهم لنصرة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر؟ بالطبع لا، فالشعوب لا تُحِبُّ التدخّلَ في الحروب الأهليّة ولا الإنفاقَ عليها.
 
ورغم أنّ مردَّ شيوعِ الاسم سياسيّ، إلا أنّ الأكاديميّين المناصرين للقضيّة الأوكرانيّة ساهموا فيه أيضاً وفي أرقى الدوريّات المحكّمة، واقرؤوا إن شئتم مقالاً عنوانه "لا تُسمّيها حَرباً أهليّة— النّزاعُ في أوكرانيا هو عدوانٌ روسيّ" نُشِرَ على موقع جامعة كامبردج بقلم الدكتور توماس غرانت والدكتور روري فينين.
 
ولذات الأسباب الآنفِ ذكرها -تماماً- فقد نعتت هذه الدول عينها، ما جرى في سورية بأنّهُ حربٌ أهليّة وذلك لإخلاء مسؤوليتها وللدفاع عن تقاعسها عن وقف المجازر. وأنا حقيقةً شاهدٌ حيّ على إصرار الرّئيس أوباما أوًلاً وإدارته ثانياً على نعت ما جرى في سورية بالحرب الأهليّة لأنًه كان يقاومُ دعوات التدخّل لوقف المذابح في سورية، فكان كلّما اشتدّ تنكيلُ نظام الأسد بالشعب واشتدّ ضغطنا على إدارة أوباما لفعل شيء كلّما أمعنَ هو شخصيّاً بالقول بأنّ ما يجري هو حربٌ أهليّة بين جماعات "مصطرعة منذ آلاف السنين" بحسب زعمه، وهو الزّعمُ السّخيف الذي كرّره في مقابلته الشهيرة مع مجلة "الأتلانتيك" قبيلَ مغادرته لمنصبه، كما وذكره في الجزء الأوّل من مذكّراته "أرض الميعاد".
 
شاهدي الأخير هو من ذات الحقبة وهو مثالٌ قد عاصرتهُ أيضاً: بعد انقلاب الجيش المصري على رئيس مصر المنتخب محمد مرسي (سواءً أأعجبكَ أم لم يعجبك واتّفقتَ معه أم اختلفت فلا يستطيع أحدٌ إنكارَ أنّه كان منتخباً) اندلعَ خلافٌ بين جناحين في إدارة أوباما أحدهما كان بقيادة وزير الخارجية "جون كيري" الذي اضطلع بدورٍ بارز في تأييد الانقلاب، والآخر بقيادة سفيرة "أوباما" للأمم المتّحدة "سامانثا باور" التي كانت معارضةً له.
 
"باور" كانت تريد أن تصفَ الإدارةُ ما جرى بصفته الحقيقيّة: انقلاب. في حين عارضَ "كيري" ذلك داعياً لعدم استخدام ذلك المصطلح. هل تعرفون لم؟ هل كان الخلافُ علميًاً وأكاديميًاً؟.
 
بالطبع لا، لكنّ إصرار "كيري" على تجنّب استخدام وصف "انقلاب" كان بسبب ما سيترتّب عليه هذا الوصفُ من تبعات قانونيّة. فالقانون الأميركي يقضي بقطع أيّ دعم ماديّ أميركيّ عن أيّ مؤسّسة عسكريّة تسعى للإطاحة بنظام حكم مدنيّ بالقوّة. ولو استخدمت الإدارةُ وصفَ انقلاب حينها لاضطرت قانوناً لوقف المليار ونصف دولار التي تُرسل سنوياً للجيش المصري منذ توقيع اتّفاقيّة كامب ديفيد عام 1978، الأمر الذي لم تجده الإدارة في مصلحة الولايات المتّحدة.
 
وبعد احتدامِ الخلافِ حكمَ أوباما لصالح كيري وأمرَ باستخدام مصطلحات أخرى ك "انتقال" و"تغيير" وهو يعلمُ تمامَ العِلم أنّه كان انقلاباً. يعني الحكومة نفسها احتالت على نفسها وعلى الواقع متحايلة على القانون لأغراض سياسية. (لمن أراد أن يقرأ عن تلك الحقبة فليراجع كتاب الرئيس السابق لمكتب صحيفة النيويورك تايمز في القاهرة ديفيد كيرباتريك "إلى يدِ العسكر").
 
لا ريبَ أن جُزءا ممّا يجري في سورية —اليوم— ينطوي على مظاهرِ احترابٍ أهليّ، وعلينا ألا نُنكرَ ذلك لأننا بحاجة للاعترافِ به حتّى نستطيعَ التّعاطي معهُ للخروج من الأزمة التي جرّت عائلةُ الأسد البلادَ لها سعياً للبقاء في السلطة، لكنّ إقرارنا ببعض آثارِ وأعراضِ ما افتعلهُ نظامُ حُكْمٍ طائفيّ مُعْتَمِدٍ في أصله على إمساك زمرةٍ من طائفة واحدة بالجيش والاستخبارات وبمفاصل الحكم، وعلى ضربِ مكوّنات الشعب ببعضها البعض شيء، ووصمُ ثورةِ شعبٍ وانتفاضتهِ على حكم استبداديّ وبمشاركةٍ من شتّى القرى والمدن والمحافظات في سورية وبمساهمة شعبيّة من الكبار والصغار والشيب والشبّان والرّجال والنّساء من مختلف المشارب— كان آخرها انتفاضةَ أهلنا في السويداء— شيءٌ آخر تماماً. وحتّى تعريفُ الثورة الأكاديميّ— الذي يقول بأنّها حركة تغييرية تتّسمُ بالسّعي لإجراء تغييرات سياسيّة واجتماعيّة عميقة ومُفاجئة، ولقلب نظام الحكم بالقوّة بدلاً من استخدام الطرق القانونيّة— منطبقٌ على ثورة أهل سورية 100%.
 
وخذوها من شخص لم يُعاصر تجربةَ أمّتهِ فقط، بل واطلع على تجارب الأمم الأخرى أيضاً، فإنّ الثورة السورية ورغم الحال البائس الذي تردّت له ورغم تهلهل المعارضة السياسيّة وتهافتها، ورغم بروز أمراء الحرب، لهي من أعظم الثورات في التاريخ وذلك لا لعِظَمِ التضحيات التي بُذِلَت في سبيلها فحسب، بل ولشدّة إجرام ونذالة من قامت الثورةُ عليهم، ولتجذّرهم إقليميّاً ودولياً، ولشدةِ خذلان العالم لها وتآمرهم عليها. وكونوا متيقّنين بأنّ بعض الحركات الأخرى التي لم تبلغ معشار ما قدّمه السوريّون ولم تصبر معشار صبرهم قد وصفت نفسها بالثورات فلا تضنوا على أنفسكم وعلى ثورتكم أن تسمّوها بما هي أهلٌ له.
 
ما زلتُ أذكرُ اليومَ في منتصف شهر تموز 2012 حين خرجت منظّمة الصليب الأحمر الدوليّة التي تعتبرُ نفسها وصيّة على اتفاقيّة جنيف لتعلنَ أنّ النّزاع في سورية قد صار "حرباً أهليّة" ليتلقّفَ السياسيّون الغربيّون المتقاعسون بعدها هذا الوصف بكلّ ترحاب تنصّلاً من مسؤوليّاتهم، وليبدأ استخدامهُ على نطاق واسع.
 
بحسب المنظّمة فقد كان هدفها إعلان سريان القانون الإنسانيّ الدوليّ في سورية على النظام و"المتمرّدين" على حدّ سواء، ومن المعلوم أنّ للمنظّمات الإنسانيّة الدّوليّة أجندتها الإنسانيّة المحضة التي تهملُ كل الجوانب الأخرى، فهل يجب علينا أن نلتزمَ في تأريخنا لنضالنا برأي منظّمة غير سورية تعمل على جانب معيّن دون أن تكترث بما سواه؟ أم أنّ علينا أن نفرض رؤيتنا لواقعنا— وهو واقعنا لا واقع غيرنا ونحن أدرى به— على العالم؟.
 
قد بعتقدُ بعض الشباب من الباحثين أن استخدامهم للمصطلحات التي شاعت غربيّاً عن الثورة السورية أمرٌ لازم حتّى يؤخذوا على محمل الجدّ في الأوساط الأكاديمية، لكنّ سؤالي لهم هو التّالي: في ذات الجامعات الغربيّة يُطلبُ منك أن تستخدمَ ضمائرَ كلّ شخص كما يراها "هو فتنادي" من تراهُ رجلاً بصيغة التّأنيث ومن تراه امرأة بصيغة التّذكير فقط لأنّ الشخص يعرّف نفسه كذلك. فإذا كنت مُلزماً بمخالفة عينيك حتّى ولو لم يقتنع عقلك احتراماً لرغبات غيرك أفلا يكون من الأولى عليك تسميةُ واقعك وحاضرك وماضيك بما تراه أنت، وأن تطلب من الآخرين احترام ذلك، لا سيما وأنّ ما تدعو له تتّفق فيه العينان مع العقل؟.
 
في حياتي المهنيّة والأكاديميّة كلّها لم أسمِّ ما جرى في سورية أبداً إلا بأنّه ثورة، فهكذا يصفها أهلها ونحن أدرى بأنفسنا، ولم أعبأ يوماً برأي أستاذ أو سياسي فأنا أعلمُ منهم بسورية بمئات المرّات. إنّ إصرارنا على ذلك ضروريّ لا من باب الانتصار لأنفسنا ولتضحياتنا العظيمة فقط، ولا من باب الوفاء وحسب لمن بذلوا حياتهم في سبيل مثلٍ عليا لا في سبيل حرب أهليّة، بل ولأنّ القاعدة تقول إنّ الحُكْمُ على الشَيءِ فَرْعٌ عن تَصَوُّرِهِ، فإذا قبلنا بتصوّر الحرب الأهليّة فإنّنا سننجرّ لها حكماً، كما أنّ في ذلك استسلاماً لسردية عصابةٍ تربد تفجير حروب أهليّة لكي تبقى في الحكم للأبد، ولسرديّة دول لا تريد مدّ يد العون لنا.
 
وختاماً اسمحوا لي بمناسبة الحديث عن التّاريخ، والموضوعيّة، والحروب الأهليّة بأن أستشهد بقول "جورج أورويل" في مذكّراته التي حملت عنوان "الحنين إلى كاتالونيا" عن الحرب الأهليّة الإسبانيّة التي شارك فيها:
((فَطِنتُ في مقتبل عمري أنّه ما من حدث يُنقلُ في الصحف بشكل صحيح أبداً، لكنّي في إسبانيا، رأيت، وللمرّة الأولى، تقارير صحفية لا تمتّ للحقائق بأيّة صلة، ولا حتّى بالمقدار الذي قد تحتويه كذبة عاديّة. فقد قرأتُ عن معارك كبرى رغم أنّها لم تقع، في حين أنّي لحظتُ صمتاً مطبقاً حين قُتلَ مئات الرّجال. رأيت جنوداً حاربوا ببسالة يُنَدّدُ بهم على أنّهم جبناء وخونة، وآخرين لم يشهدوا إطلاق رصاصة واحدة يُمدحونَ على أنًهم أبطالُ انتصارات وهميّة، ورأيت صُحفاً في لندن تعيد نشر تلك الأكاذيب، ومثقّفين متلهّفين لبناء صروح عاطفيّة على أحداث لم تقع قطّ. رأيت، حقيقةً، التّاريخَ يُكتبُ لا بناءً على ما وقع، بل على ما كان ينبغي أن يقع حسب "توجّهات حزبيّة" شتّى".
--------------
زمان الوصل
محمد علاء غانم - أستاذ سابق في جامعة دمشق، ورائد للعمل السياسي السوري الأميركي
 

محمد علاء غانم
الاثنين 19 غشت 2024