من بين القضاة المعزولين يوم 1 يونيو/حزيران 2022 عبد الستار الخليفي (58 عاما)، وهو أب لأربعة أطفال، عمل قاضيا ووكيلا للجمهورية على مدار 28 عاما. رغم أنّ السلطات اتهمت القضاة بارتكاب مخالفات، إلّا أنها أعطتهم مكافآت نهاية الخدمة لمدّة ستة أشهر قبل أن تقطع عنهم رواتبهم، وتوقف صفاتهم كموظفين عموميين، والمزايا المرتبطة بذلك، مثل التأمين الصحيّ. كما فُرض حظر سفر إلى الخارج على البعض منهم على الأقلّ، وسُجن اثنان منهم منذ 12 فبراير/شباط، أحدهما بشير العكرمي ، الذي يواجه اتهامات زائفة تتعلّق بتعامله مع قضايا الإرهاب لمّا كان وكيلا أوّلا في تونس العاصمة.
لمّ تسمح الحكومة للخليفي وزملائه بجلسات استماع أو تقدم لهم أيّ شرح رسمي لعزلهم، حتى بعد أن استأنفوا القرار لدى "المحكمة الإدارية بتونس"، التي أمرت الحكومة يوم 9 أغسطس/آب بإعادة تعيين 49 ممّن لم توجّه إليهم أي تهم في مناصبهم. تجاهلت الحكومة قرار المحكمة رغم أنّه غير قابل للاستئناف. وفي يناير/كانون الثاني، رفع القضاة المعزولون دعوى لدى المحكمة ضدّ وزيرة العدل لعدم امتثالها للحكم القضائي، بموجب الفصل 315 من "المجلّة الجزائيّة ".
لم تردّ المحكمة بعد. وبدلا من الامتثال لقرار المحكمة بإعادة القضاة إلى مناصبهم، أعلنت وزارة العدل فتح عشرات التحقيقات الجنائيّة ضدّهم، منها اتهامات تتعلق بالإرهاب ضدّ 13 منهم، من بينهم الخليفي. كما لاحقت النيابة المحامين الذين دافعوا على القضاة المعزولين، مثل العياشي الهمّامي، الذي تم استدعاؤه بتهمة نشر "أخبار كاذبة"، بموجب "المرسوم 54 " القمعي الذي أصدره سعيّد.
قال هشام بن خالد، وهو قاض آخر معزول، لـ هيومن رايتس ووتش: "لقد عزلوا القضاة لترهيب الذين لا زالوا في مناصبهم. الهدف هو ضمان وجود قضاء يُمكن استخدامه لتصفية الحسابات مع معارضي سعيّد".
عمليّة تصفية الحسابات هذه شملت اعتقالات، تمّت في معظمها في فبراير/شباط ومارس/آذار، لحوالي 30 معارض ومنتقد للرئيس، أذن قضاة بالاحتفاظ بهم رغم قلّة الأدلّة المتوفرة لإدانتهم. وصف سعيّد الموقوفين، دون تحديد أسمائهم، "بالإرهابيين" و"الخونة"، وحذّر فيما بدا أنّه تهديد للقضاة بأنّ "من يتجرأ على تبرأتهم فهو شريك لهم".
لا يزال أغلب هؤلاء الـ30 قابعين وراء القضبان منذ ثلاثة أشهر أو أكثر دون أي جلسات استماع حقيقية.
في 4 مارس/آذار، ندّدت "جمعيّة القضاة التونسيين" بـ"الضغوطات الكبيرة وغير المسبوقة التي يتعرّض لها القضاء... وما صاحبها من تهديد ووعيد موجّه للقضاة المتعهّدين بتلك الملفّات".
قال الخليفي لـ هيومن رايتس ووتش إنّ اتهامات الإرهاب الموجّهة إليه سببها قيامه بشراء سيّارة مستعملة من تاجر قدّم تبرّعات لمدرسة قرآنيّة كانت متهمة بتلقين الأطفال والإساءة لهم. استجوبته النيابة بخصوص عمليّة الشراء في 2019، دون أن توجه له أيّ تهم، واليوم يتم تحريك الملف من جديد.
قبل المضيّ في هذه القضايا، يتعين على "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء" أن يتخذ قرارا بشأن رفع الحصانة عن القضاة. أنشأ سعيّد هذا المجلس في فبراير/شباط 2022 بعد أن حلّ "المجلس الأعلى للقضاء"، الذي كلّفه "دستور 2014 " بحماية استقلالية القضاء في تعيين القضاة وتنقلهم وتأديبهم. في حينّ أنّ معظم أعضاء المجلس الأعلى للقضاء جاؤوا بالانتخاب، جاء جميع أعضاء المجلس المؤقت الـ21 بالتعيين، تسعة منهم عيّنهم الرئيس مباشرة.
في خضمّ الأخبار الكئيبة عن الاعتقالات السياسيّة والضغوط المسلّطة على المحاكم، استلهم النشطاء بعض الحيويّة من الإقبال الكبير والخطابات الملهمة أثناء مؤتمر عُقد في 20 مايو/أيار في تونس العاصمة للدفاع عن استقلالية القضاء. كان من بين المتحدثين مارغريت ساترثوايت، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة باستقلال القضاة والمحامين، التي تحدّثت إلى الجمع عبر الفيديو لأنّ السلطات التونسيّة أجّلت زيارتها للبلاد التي كانت مقرّرة ذلك الأسبوع.
يُخفي التهديد الحالي لاستقلالية القضاء حقيقة أنّ القضاء لم يكن قويّا قبل أن يتحرّك سعيّد ويسيطر عليه. بعد الثورة، لطالما واجه القضاة، الذين كانوا خاضعين للسلطة التنفيذية من زمن بعيد، عقبات جديدة. في 2012، عزل وزير العدل آنذاك نور الدين البحيري، من حزب النهضة، 75 قاضيا بشكل جماعي وتعسفي، متهما إياهم بالفساد، ثم تحدّى قرار المحكمة الإداريّة ولم يُعدهم إلى مناصبهم (لكنهم عادوا إلى مناصبهم أخيرا، والبحيري واحد من 14 قيادي من حزب النهضة على الأقل لا يزالون مسجونين منذ ديسمبر/كانون الأول).
كان من الممكن تعزيز استقلالية القضاء بمحكمة دستوريّة – لكن هذه الهيئة لم تر النور أبدا بسبب تقاعس البرلمان عن اختيار حصّته من أعضائها. نصّ دستور 2014 على أنّها هيئة دستوريّة قويّة ومستقلّة قادرة على إسقاط القوانين والإجراءات الرئاسيّة والبرلمانيّة التي تعتبرها غير دستوريّة.
في سبتمبر/أيلول 2021، علّق سعيّد الجزء الأكبر من دستور 2014، ودفع نحو اعتماد دستور رئاسي في 2022، وهو ما زاد بشكل كبير من صلاحيات الرئاسة وأضعف استقلالية القضاء ، بما في ذلك المحكمة الدستوريّة.
قال الخليفي لـ هيومن رايتس ووتش: "بصراحة، كل حكومات ما بعد الثورة لم تكن لها رؤية لإصلاح القضاء؛ كلها سعت إلى السيطرة عليه. لكن ما فعلوه لا يُقارن بما تفعله الحكومة الحالية".
قال عبد الوهاب معطر، محام في صفاقس يترافع أمام المحاكم منذ 1983: "في عهد الرئيسين [الحبيب] بورقيبة [الذي حكم حتى 1987] وبن علي، لم يكن هناك أي تصوّر للقضاء كسلطة مستقلّة: كان للرئيس قضاته الذين يتخذون القرارات التي يريدهم اتخاذها، لا سيما في القضايا السياسيّة. أدّت الثورة إلى تغيير في العقليّة وإلى دستور يُكرّس استقلالية القضاء، لكن هذا لم يُحدث تغييرا كاملا، لكنّه أثار فيَّ الأمل ومنحني، كمحام، ثقة أكبر في المحاكم. لكن منذ 25 يوليو/تموز 2021، تمّ القضاء على هذا الانجاز".  
-----------
ميدل ايست مونيتور