كذلك اجتمع المستشار الألماني أولاف شولتس مع زعماء الدول الآسوية الخمس، والتقى الرئيس الكازاخي في اجتماع خاص، أكدت فيه كازاخستان التزامها العقوبات على روسيا، والتزامها تزويد أوروبا بالنفط.
ثم، وقع الرئيسان التركي والأذري، أردوغان وعلييف، اتفاقاً تاريخياً لمد أنبوب نفط استراتيجي في إقليم ناخيتشيفان ليمهد لخط نقل مباشر للنفط الأذري نحو أوروبا، وعبر تركيا.
لم يكن أي من ذلك وارداً على الإطلاق في الماضي. لكنه يحصل الآن على حساب روسيا.
ولست أبالغ إذ أقول إن هذه التطورات ليست إلا بواكير المنعطف الذي ستعبره دول القوقاز ووسط آسيا، ولقد سبق أن أشرت إلى ذلك في مقالة فور انسحاب بايدن من أفغانستان. فمن ذلك الوقت كانت العديد من البراكين الصغيرة والكبيرة تموج وتغلي حول روسيا.
بعد 30 عاماً من تجميد الوضع بين أذربيجان وأرمينيا، عادت الأوضاع إلى الانفجار. لكن المعركة كانت محسومة أصلاً لمصلحة الأذريين منذ 2020. في حينه، رغم ما تتمتع به روسيا من علاقات تقليدية عميقة مع أرمينيا، ورغم قواعدها العسكرية فيها، تمكنت أذربيجان من توجيه ضربة قاصمة للقوات الأرمنية، دمرت فيها ما يقدر بملياري دولار من العتاد الروسي بدعم تركي حيوي وكثيف.
وكانت هذه النتيجة محسومة بديهياً، فإذا لم تقدم روسيا غطاءها الاستراتيجي لأرمينيا، تكون الهزيمة الأرمنية حتمية. وإذ تتفوق أذربيجان في عدد السكان والموارد والتحالفات، فإنها تستفيد من أهميتها بالنسبة إلى أوروبا التي تتلقى منها مليون برميل نفط يومياً.
لكن موسكو، في حينه، ابتلعت لسانها، وسعياً لحفظ ماء الوجه اكتفت بالوساطة.
في تلك الفترة كان بوتين يراهن على دق إسفين بين الحلف الأطلسي وتركيا عبر مشاريع أنابيب النفط من آسيا وصولاً إلى ميناء جيهان التركي. وأمام انخراط البلدين في جملة من الملفات المتشابكة، تمكن الرئيس أردوغان من إغواء بوتين، ليسقط من يده دعم أرمينيا، أقرب حليف لروسيا، وبذلك سبق السيف العذل. في نهاية الأمر، كانت تلك الهزيمة الأولى لروسيا في القوقاز وعلى يد تركيا وأذربيجان.
في 20 أيلول الماضي، استعادت أذربيجان كل أراضي ناغورني كراباخ، والتي تعتبرها أرمينيا مهد الأمة. بل وافق سكانها الأرمن على حل حكومتهم ونزع سلاحهم.
كانت يريفان تدرك هذه الحقائق منذ سنين. وبعد انخراط روسيا في حربها ضد أوكرانيا وتراجع نفوذها وهيبتها، كان يمكن بسهولة أن نتوقع إقدام أذربيجان على حسم الأمور. لذلك، بدأت يريفان في خلق مسافة بينها وبين روسيا، على الصعيد الاستراتيجي والدبلوماسي.
وبما أن القانون الدولي قد يصبح أحد الملاذات الأخيرة لمنع الانهيار الكامل للبلاد، وقّعت أرمينيا على اتفاقية روما حول المحكمة الدولية، والتي من تداعياتها أن تجعل من الرئيس الروسي بوتين متهماً كمجرم حرب.
من جهة أخرى، وفي الشيشان، وإثر حربين مدمرتين تم خلالهما تحويل غروزني عاصمة الشيشان إلى ركام، تمكن ابن أحد زعماء الفصائل الشيشانية المتنافسة أن يتصالح مع روسيا، ليتسلم كل المقدرات الغنية للشيشان، ويسحق خصومه.
صحيح أن سيطرة روسيا على الشيشان قد عادت، إلا أنها لم تعنِ سيادة روسية كاملة. فلقد تركت الشيشان مزرعة للسيادة المطلقة لرمضان قديروف، ليحصل على حصص كبيرة من الموازنة الروسية، شرط أن يبقى ضمن دائرة الولاء لموسكو.
وبالمناسبة، من هذ المنظور، لا يبدو تمرد زعيم "فاغنر" بريغوجين إلا جزءاً من مسلسل صراع أمراء الحرب!
ولكي نتذوق نكهة السيادة الروسية في الشيشان، حسبنا أن جزءاً من الاتحاد الروسي، قد غزا جزءاً آخر! وذلك عندما أرسل قديروف، في الماضي، قواته إلى جمهورية إنغوشيا المجاورة، مدعياً أن أجزاء منها تتبع للشيشان. ليتبين في نهاية الأمر، أنها كانت مجرد محاولة للضغط على موسكو التي شحت مدفوعاتها أخيراً.
في جورجيا حيث تدعم كياني أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليين، تضطر روسيا لإرسال إحدى أهم قطع أسطولها في البحر الأسود إلى موانئ أبخازيا لتؤكد دعمها لهما. وكذا الأمر بالنسبة إلى الكيان الانفصالي الروسي ترانس-نستريا في مولدافيا.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، خاضت روسيا ثماني حروب في مغامرات عنجهية أزهقت الكثير من الأرواح البريئة، بما فيها أرواح الشباب الروس. الأمة الروسية تجد نفسها الآن في خطر حقيقي. فروسيا التي لا يزيد سكانها عن سكان اليابان واقتصادها عن اقتصاد إيطاليا، تنكشف مواردها الطبيعية الوفيرة للحصار الغربي. وتجد أن عليها أيضاً أن تخوض حرباً شاملة، وأن تحاول في الوقت ذاته الحفاظ على نفوذها على عشرات المسارح الاستراتيجية، وضد أقليات متمردة وقوى إقليمية معادية، على امتداد قارتين.
وبينما تدفع الجمهوريات الطرفية في الاتحاد الروسي معظم ثمن الحرب الأوكرانية (بحسب الإحصاءات الروسية فإن 3% من ضحايا الحرب قتلى هم من المدن الكبرى مثل موسكو وسانت بطرسبرغ)، تتكاثر سيناريوات الفوضى، ليس فقط في القوقاز بل في باقي الجمهوريات ذات الحكم الذاتي الروسية. كما يتصاعد شعور جمهوريات آسيا الوسطى بانعدام الوزن تجاه روسيا.
ولسنا نحتاج لخيال كبير كي نتصور العديدين ممن يبحثون عن مسند ظهر آخر، ويتوجسون من انفلات النزاعات العديدة النائمة بعيداً من موسكو. وفي المقابل، يندفع بايدن وشولتس وتندفع الهند والصين سعياً لتبريد الأوضاع.
فلقد صار واضحاً أن روسيا ضعيفة في القوقاز، بعدما استولت أذربيجان ببساطة على ناغورني كراباخ. فمتى سيرغب شخص في أي من هذه المناطق اختبار ضعف روسيا؟
تبدو روسيا - بوتين كلاعب أكروبات يدور عشرة صحون في الهواء، وبعدما بدأ الحبل الذي يمشي عليه يهتز بشدة، نجده من دون شراب أو طعام، مضطراً للاستمرار في تدوير صحونه من دون توقف. وإذ تفلت من يديه بعض الصحون، علينا أن نفكر في نصب الشبكة من تحته حين يقع.
-----
النهار العربي
-----
النهار العربي