لم يكن التحقيق صادماً للغاية بالنظر إلى سجلّ واشنطن الحافل بالعمليات التخريبية والانقلابية السرّيّة، واعتراضها الشّديد والعَلَني على مشروع نورد ستريم حتى قبل إطلاقه، ليس فقط لأنه ينافس شركات الغاز المُسال الأميركية، بل أيضاً، رفضاً للتعاون الاقتصادي الروسي – الألماني، وما قد يشكله على المدى البعيد من تهديد لنظام القطبية الواحدة الذي تحرص واشنطن على الحفاظ عليه بجميع السبل. منذ انطلاق مشروع نورد ستريم 1 في عام 2011، أحدث التقارب الروسي - الألماني توتّراً أميركياً شديداً عبّر عنه عالم الجغرافيا الاستراتيجية الأميركي، جورج فريدمان، قائلاً: "رأس المال الألماني، والتكنولوجيا الألمانية، والموارد الطبيعية الروسية، واليد العاملة الروسية، هذا هو المزيج الوحيد الذي أرعب الولايات المتحدة قروناً"، في إشارة إلى نظرية "قلب العالم" (Heartland theory) لعالِم الجغرافيا والسياسة البريطاني، هالفورد جون ماكندر، إن من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض، وبالتالي يحكم العالم.
جاء تقرير هيرش مؤكّداً الشكوك التي تحوم حول واشنطن وأوسلو لتوافرهما، أكثر من غيرهما، على الدافعين، السياسي والاقتصادي، والقدرة على ارتكاب جريمة تفجيرات نورد ستريم 1 و2، التي جنت من ورائها شركات الغاز الأميركية والنرويجية أرباحاً هائلة؛ شكوك يُعزّزها التصريح المذهل للرئيس الأميركي جو بايدن، في مؤتمر صحافي بمشاركة المستشار الألماني أولاف شولتز في مطلع فبراير/ شباط 2022، وتعهّد فيه بتعطيل خطّ نورد ستريم بأي شكل إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا.
تلزم غالبية أوروبا الصمت المطبق حيال تحقيق سيمور هيرش لخطورة مآلاته، لكن المُدهش صمت الصحافة الغربية
بخلاف تحقيقات هيرش السابقة، لا يقتصر هذا التحقيق على علاقات واشنطن بدولة معينة، بل يأتي على شراكة استراتيجية بين أميركا وكبرى دول حلف شمال الأطلسي، وفي مقدمتها ألمانيا التي يتساءل بعض محلّليها عمّا إن عادت واشنطن بالحلف إلى أولى أهدافه التي لخّصها أمينه العام الأول، اللورد إسماي، "إبقاء الروس خارجاً، والأميركيين داخلاً، وألمانيا في الأسفل". ونظراً إلى خطورة تداعيات عملية التخريب التي ترقى إلى "جريمة حرب" ضد روسيا وألمانيا، فلقد عمد المسؤولون الأميركيون والنرويجيون على تجاهل التقرير، أو الاكتفاء بتعليقاتٍ مقتضبة تنفيه نفياً قاطعاً، إذ اعتبرته المتحدّثة باسم مجلس الأمن القومي أنه "من نسج الخيال"، فيما وصف ناطق باسم وكالة المخابرات المركزية التقرير بأنه "كاذب تماماً"، ونعتته وزارة الخارجية النرويجية بـ"المزاعم الكاذبة".
ويواجه هذا النَّفي صمتٌ أوروبي تجاه تحقيق هيرش، والتحقيق الذي تضطلع به منذ نحو ثلاثة أشهر الدنمارك وألمانيا والسويد، الدول التي اكتفت في رسالة مشتركة إلى مجلس الأمن بالقول إن "التحقيقات لم تنتهِ بعد" و"من غير المعروف متى يتم الانتهاء منها". من الواضح أنه حتى وإن تأكدت هذه الدول بما لا يترك مجالاً للشك في ضلوع الحليف الأميركي والجار النرويجي في هذه الجريمة، فلن تجرؤ على الجهر بالحقيقة، لما قد يترتب عن ذلك من إعادة النظر في العلاقات الأورو- أميركية، وفي تحالفها في حربها بالوكالة في أوكرانيا، ما يفسّر إصرار هذه الدول على رفض طلب روسيا المشاركة في التحقيق، مثلما رفضت واشنطن ولندن وباريس طلب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة تحقيقاً أممياً تحت إشراف الأمين العام للمنظمة الدولية.
تلزم غالبية أوروبا الصمت المطبق حيال تحقيق هيرش لخطورة مآلاته، لكن المُدهش في هذه القضية ليس صمت السياسيين، بقدر ما هو صمت الصحافة الغربية، الأميركية والأوروبية، التي لا تُفوّت فرصة لإعطاء العالم دروساً في حرية الصحافة واستقلاليتها باعتبارها "السلطة الرابعة"، وصمام الأمان لتقويم السلطات الأخرى في أي نظام ديمقراطي. لقد تجاهلت كبرى الصحف الأميركية، بما فيها "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، تقرير هيرش، رغم أهمية الموضوع ومصداقية الصحافي الذي اهتزّت أميركا لتحقيقاته، حين كشف جرائم الجنود الأميركيين في "مي لاي" الفيتنامية، وسجن أبو غريب في بغداد، وغيرهما من تحقيقاتٍ نال عنها كبرى الجوائز الصحافية، بما فيها جائزة بوليتزر. المدهش أيضاً، أن صحافياً بقامة هيرش يلجأ، لأول مرة، إلى نشر تحقيقه في منصّة "سيستاك" الإلكترونية، بدلاً من كبرى الصحف التي كان يعمل فيها وما زالت تتجاهل تحقيقه. فحسب دراسة أجرتها هيئة "مينت برس نيوز" لرصد الصحافة، ذُكِر تقريره في أربعة من أصل 20 صحيفة ووسيلة إعلام الأكثر نفوذاً في أميركا فقط.
روسيا أكثر المتضرّرين من تعطيل مشروعٍ أطلقته بعد جهود دبلوماسية مضنية، وكلّفها إنجازه مليارات الدولارات، وكبّدها تفجيرُه خسائر مالية باهظة
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تحوّل الإعلام الغربي إلى جوقةٍ تعزف على نغم واحد، وتروّج مزاعم واشنطن وحلفائها الأوروبيين، بما في ذلك اتهام موسكو بالتفجير، رغم كل ما في ذلك من استخفافٍ مدهش بعقول القرّاء والمشاهدين، وتجاهلٍ صادم لحقيقة أن روسيا أكثر المتضرّرين من تعطيل مشروعٍ أطلقته بعد جهود دبلوماسية مضنية، وكلّفها إنجازه مليارات الدولارات، وكبّدها تفجيرُه خسائر مالية باهظة، وحرمها سلاحاً استراتيجياً، في وقتٍ كانت بأمس الحاجة إليه في حربها ضد أوكرانيا وحلف الأطلسي. لم يكتفِ الإعلام الغربي بتجاهل الحقائق التي تشكك في أن تكون روسيا ضالعة في جريمة تضرّ بمصالحها على نحوٍ شامل ولا تجني منها أي فائدة، بل حرص على إسكات الأصوات التي خرجت عن الإجماع بطرحها إمكانية أن تكون واشنطن، بدلاً من روسيا، وراء الجريمة. ودفعت هذه الرقابة الإعلامية قناة بلومبيرغ الأميركية إلى أن تقطع بشكلٍ مُباغتٍ مقابلة كانت تجريها مباشرة على الهواء مع أستاذ الاقتصاد والتنمية، البروفيسور جيفري ساكس، بمجرّد أن شرع في سرد مؤشّرات على أن القوات الغربية قد تكون وراء الهجوم.
ويخيّم التعتيم الإعلامي ذاته على أوروبا، بما في ذلك صحيفة الغارديان البريطانية التي سخّرت فريقاً كاملاً لإجراء تحقيقٍ مطوّل ومضلّل في وضع العمّال الأجانب في قطر، ولم تخصّص مقالاً تحليلياً واحداً لتحقيق هيرش في جريمةٍ تنتهك سيادة أوروبا. وحتى ألمانيا، أكثر الدول الأوروبية تضرّراً من تفجيرات نورد ستريم، فإن معظم وسائل إعلامها، بما في ذلك مجلة دير شبيغل وصحيفة دي تسايت الأسبوعيتان، اكتفت بإشارة موجزة إلى تقرير هيرش، مردّدة نفي الحكومة الأميركية من دون نقد أو تحليل، ومشكّكة في مصداقية الصحافي وتحقيقه، باستثناء صحيفة برلينر تسايتونغ، التي نشرت في 14 فبراير/ شباط مقابلة مطوّلة مع هيرش، أتاحت له فرصة الدفاع عن تحقيقه والإدلاء بتفاصيل جديدة.
لو كانت وسائل الإعلام الرئيسية في الدول الأميركية والأوروبية تتمتع بالحرية والاستقلالية والحياد التي تدّعيها، لَبادَرَت إلى إجراء تحقيقات مستقلة في ما يمكن اعتباره أكبر حدث في الحرب الروسية - الأوكرانية، ولضَغَطَت على ألمانيا والسويد والدنمارك للإفصاح عن نتائج تحقيقاتها. لكن كالعادة، كلّما تُقرع طبول الحروب الأورو - أميركية، يدخل الصحافيون والمحللون والخبراء الصّفوف ليمارسوا دور "حرّاس السلطة"، كما يصفهم دافيد إدواردز ودافيد كرومويل، أو "كلاب الحراسة الجدد"، حسب الصحافي الفرنسي سيرج حليمي. وتظل الحقيقة حبيسة الإعلام الرقمي البديل، ووسائل التواصل الاجتماعي التي يختلط فيها الحابل بالنابل.
احتجاز أسانج وتفجيرات نورد ستريم يدوران حول وضع الحرّيات المقيّدة والقصص المُحرّمة التي تفضح الجرائم الغربية
في أميركا خصوصاً، حيث تملك الشركات العملاقة والمليارديرات كبرى وسائل الإعلام، وغالباً ما تتداخل مصالحهم مع مصالح الأنظمة القائمة، أصبح الحديث عن إعلامٍ حرّ ومستقل من قبيل العبث. فشبكة NBC الإعلامية، مثلاً، تملكها شركة كومكاست Comcast العملاقة التي تقدّم خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية ومعدّاتها للجيش والبحرية الأميركييين، فهل يعقل أن تطرح هذه الشبكة للنقاش موضوع إمكانية ضلوع البحرية الأميركية في تفجيرات نورد ستريم التي ضاعفت أرباحها؟ وهل يُعقل أن يُشجّع الملياردير الأسترالي روبرت مردوخ الذي يتربّع على أكبر إمبراطورية إعلامية، تمتد من سيدني إلى واشنطن، إجراء تحقيقات مستقلة، بينما اشتهرت شبكته بمحاربة الصحافة الحرّة وتقويض الديمقراطية؟
الحقيقة أن حرية التفكير والتعبير التي تجسّدها الصحافة الاستقصائية تعيش أسوأ أيامها في الغرب الديمقراطي، وقد شهدت سنة 2019 حدثين مهمّين: استدعاء الاستخبارات الفرنسية ثمانية إعلاميين بعد كشفهم معلومات سرّية تتعلق باستخدام الأسلحة الفرنسية في اليمن، في محاولة لإجبارهم على كشف مصادرهم، والقبض على الأسترالي جوليان أسانج، مؤسس "ويكيليكس" في لندن والتنكيل به. يقبع أسانج منذ أربع سنوات في زنزانة بريطانية، ويحتضر كل يوم، وهو يتساءل إن كانت لندن ستنفذ قرار تسليمه لأميركا حيث ينتظره حكم بالسجن قد يصل إلى 175 سنة، ويواجه 18 تهمة تعود إلى 2010 حين نشر في "ويكيليكس" وثائق رسمية تُثبت ارتكاب القوات الأميركية والبريطانية جرائم حرب في العراق وفي أفغانستان.
احتجاز أسانج وتفجيرات نورد ستريم يدوران حول وضع الحرّيات المقيّدة والقصص المُحرّمة التي تفضح الجرائم الغربية، وسلطوية الأنظمة الديمقراطية؛ وضع يُذكّر بمقولة المحامي الألماني أوتو غريتسشندر: "معظم من ينامون في الديمقراطية يصحون على الدكتاتورية".
---------
العربي الجديد