ترامب قادر دائما على البقاء في صدارة الأحداث سواء وهو يحاكم ويدان في قضايا عديدة تنظر فيها المحاكم الأمريكية أو وهو يناكف غريمه جو بايدن. هو أيضا لا يترك أحدا على الحياد فالكارهون له لا يدّخرون جهدا أبدا في إظهار كم يبغضونه ويتمنون اختفاء الكابوس الذي تمثله عودته المحتملة إلى الرئاسة، فيما لا يرى فيه جمهوره إلا منقذا ومقاتلا شرسا ضد المتآمرين ضده من منظومة الحكم العميقة، في وقت ينقسم فيه أنصاره داخل الحزب الجمهوري بين معجب وخائف وطامع.
ربما لم تثر شخصية سياسية أمريكية من الجدل الصاخب ما أثاره ويثيره دائما هذا الرجل الذي يمثل ربما «النموذج الأمثل» للشعبوية في عالم السياسة اليوم، وفي نفس الوقت، لعجرفة العنصر الأبيض في الولايات المتحدة والغرب عموما وشعوره بالتفوّق على ما عداه من أعراق وثقافات.
لا ندري ما الذي تغيّر في الرجل بين 2024 و2016 حين بدأت وقتها تصدر للحديث عن هذه «الظاهرة» عديد الكتب في أمريكا وخارجها، ومن بينها كتابان صدرا في باريس عام 2016 (التي للمفارقة تتصاعد فيها حاليا موجة يمينية شعبوية) حين تولى الرئاسة آنذاك فائزا على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة. الكتاب الأول رواية خيالية ساخرة وصاحبه مجهول (أودع مسوّدته عند دار نشر باسم مختلق هو «ديك جوكرز» ثم اختفى لكن هذه الدار أعجبت بما كتبه فطبعته تحت عنوان «الحقيقة حول دونالد ترامب») أما الثاني فقد صدر تحت عنوان «ما يدور في رأس دونالد ترامب» للصحافية الفرنسية الأمريكية «آن تولوز» التي عملت لسنوات مراسلة لإذاعة فرنسا الدولية في أمريكا الشمالية.
في كتاب الرواية الخيالية تسأل سيدة في منتصف العمر ترامب «سيد ترامب إذا ما انتخبت رئيسا كيف لنا أن نعرف أنك ستفي حقيقة بالأشياء التي وعدت بها؟» فيأتيها الجواب: «سؤال مثالي، مثالي تماما.. وإذا كنت تريدين جوابا على هذا السؤال فأنا أقترح عليك بكل بساطة أن تسألي زوجاتي السابقات لتعرفي إذا كنت حقا أفعل الأشياء التي أعد بها، وأنا أضمن لك بأنهن سيقلن لك (نعم) وقد يضفن أن هذا هو السبب الذي دفعهن لطلب الطلاق»!!.
ويسأله آخر في اجتماع حاشد «هل لكم أن تعطوني ثلاثة أسباب تجعلني أصوت لكم سيد ترامب؟».. فيقول إن السبب الأول أن لا وجود لأحد غيره أبدا له من الجسارة ما يجعله يقف وجها لوجه أمام هؤلاء السياسيين لمكافحة الإرهاب ووضع حد لنفوذ الصين وروسيا والصين والكف عن اتخاذ القرارات الحمقاء لغزو دول مثل العراق وأفغانستان وليبيا، أما السبب الثاني هو أنه يريد منح فرص العمل للأمريكيين وليس للصينيين وأن يعيد الجنود الأمريكيين إلى البلاد عوض عودتهم في توابيت، والسبب الثالث هو أنه المرشح الوحيد الذي سيستمع إليه ويحترمه بوتين والمستشار الألماني والرئيس الصيني ورئيس كوريا الشمالية.
أما في الكتاب الثاني «الجدّي» فتقول الكاتبة إنه يكفي النظر إلى نتائج عمليات سبر الآراء في العقدين الماضيين لنعاين نفور الأمريكيين من مؤسساتهم فثلثا الأمريكيين أو أكثر لا يثقون لا في الكونغرس ولا في الرئاسة ولا في المحكمة العليا ولا في الإعلام، لتخلص إلى أن «ترامب يصل مثل ثور أمريكي (بيسون) وسط قطيع، وثور إلى حلبة مصارعة، و (الشريف) في فيلم رعاة البقر، إنه شخص مماثل تماما للأساطير الأمريكية».
وتضيف الكاتبة أن «(خلافا لكل التوقعات) يمكن أن يكون فعلا شعار ترامب فقد بعثر الرجل كل قواعد السياسة، كما بعثر قطاع العقارات والتلفزيون برهانات لم تكن دائما رابحة». واعتبرت أنه «لا يمكن فهم ظاهرة ترامب دون نظرة إلى الجغرافيا، فبين واشنطن ونيويورك وميامي ولوس أنجلس فضاء كبير مثل قارة بأكملها تشعر بأنه جرى تجاهلها، وحتى احتقارها من قبل نخبة البلاد والمراقبين الدوليين (..) ولا يمكن أن نفهم ظاهرة ترامب دون العودة إلى التاريخ وكيف ولدت الولايات المتحدة من ثورة ضد النظام القائم وامتدت بفضل باحثين عن الثروة (..) ولا يمكن فهم ظاهرة ترامب إذا لم ندرس سوسيولوجية هذا البلد المكوّن من موجات هجرة متعاقبة من مجموعات قوية تشعر كل واحدة بأنها مهددة من الأخرى (…) وأخيرا هناك الاقتصاد، العنصر المحدّد بالنسبة للناخبين، وهو مجال أثبت فيه ترامب كفاءة معينة حين ضاعف بـ4500 مرة حجم استثماراته التي انطلق بها».
الأكيد اليوم أن الرأي العام العربي، وربما حتى الدولي، لم يعد يعير كثير اهتمام لكل ما سبق ولا للفروق بين بايدن وترامب في الانتخابات المقبلة بعد كل ما كشفه العدوان الوحشي على غزة. قد تكون المنافسة بينهما للأمريكيين هي بين السيئ والأسوأ ولكنها بالنسبة إلى العرب والفلسطينيين: كل واحد أسوأ من الآخر
------------
القدس العربي