وعدا عن القاموس القيمي لدى محمد عليه الصلاة والسلام يبدو أن أهم ما يميزه عقيدته السهلة التي ليس فيها فلسفة معقدة ولا لاهوتية ملتبسة، والتي دعا فيها إلى «لا إله إلا الله» في تمييز واضح بين الإله والإنسان، فلا هو إله ولا نصف إله ولا سليل آلهة، ولا أسرته مميزة عن غيرها، بل كانت تجوع مع الناس، وتطعم إذا شبعوا، وتعيش فترات طويلة على التمر والماء، ولأن عقيدته التي دعا إليها كانت في غاية البساطة قبلتها النفوس بسهولة لمواءمتها للفطرة الإنسانية التي تفر من تعقيدات العقائد والأفكار والدعوات.
لاحظ كتبة سيرته ميله إلى العزلة والتأمل، في بعض مراحله العمرية، ما يؤكد مروره بأطوار الأنبياء المعتزلين فترة من حياته، إذ نطالعه بعيداً في الشعاب والطرقات والكهوف القصية، يقضي الوقت متأملاً، ويمشي منفرداً يكاد يحدث نفسه، ويدخل في حوار عميق معها عن الله والكون والإنسان، متأملاً في صمت طويل، وقد ساعده العمل في رعي الغنم على الخلو إلى نفسه، والتجول في البراري، كما كان يوحنا المعمدان يفعل في البراري والقفار، وكما كان إبراهيم في بحثه الشاق عن الحقيقة. وعندما انفتق النور في قلبه لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا أصابه، حتى أنه قال: «لقد خشيت على نفسي» ما يشير إلى أنه فيما يبدو مرّ بفترة صراع داخلي عصيبة، قبل أن تطمئن نفسه ويهدأ فؤاده، وفي هذا القلق الذي أفصح عنه دليل قوي على صدق نبوته، لأنه لو كان كاذباً لما بدا حائراً لأمر يُفترض أنه افتراه عن قصد لغرض في نفسه. ومع ذلك فإن مرحلة القلق لم تستمر طويلاً في حياة نبي الإسلام الذي بلغ نضجه مع النبوة، ودخل مرحلة أخرى من «الإيمان العملي» الذي نتجت عنه فيما بعد حضارة شاهقة بنت دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وسمرقند ومرو وتبريز وغزنة وغيرها من عواصم الحضارة العربية الإسلامية.
ومما يُلفت في شخصيته العميقة شعوره الرهيف وطبيعته الروحانية التي كانت تجعله يقوم الليل باكياً، حتى ليخيل لمن يراه أنه لا يصلح لقيادة الجيوش، حتى إذا ما أطل النهار خرج يجوب الفيافي والقفار متتبعاً الخصوم ومرهباً الأعداء ومتحدياً فارس والروم، وإذا «حمي الوطيس» لجأ أشجع فرسانه للحماية تحت ظل سيفه. شخصية مدهشة، تلين حتى يكاد أن يطمع في لينها اليائسون، ثم تشتد حتى ليوشك أن ييأس من رحمتها الطامعون. يرعى الغنم، يجمع الحطب، يلاعب الأطفال، يداعب الكبار، يترقق مع زوجاته، يتعاهد أصحابه، يمشي في حوائج أهله، يحلب الشاة، يخصف النعل، يرقع الثوب، يمسح دمعة اليتيم، يواسي الأرملة، يعالج حزن الحزانى، ويكتم حزنه ولا يبثه إلا لله.
وهو يتقلب في أقدار الله بين القبض والبسط، فيلبس البرود اليمانية الثمينة والخُلقان الزهيدة، ينام على الحصير والتراب، يركب الخيل والجمال والبغال والحمير، يأكل أطيب المأكولات من لحوم وغيرها في وقت ثم يربط على بطنه من الجوع وقتاً آخر، وقد تجلى اكتماله البشري في أنه أطعم الجياع وهو جائع، وعندما شبعوا أخذ لقيمات ليقيم بها صلبه.
كان يجمع كل تلك «التضادات الإيجابية» في سياق روحاني عجيب، فدلالة السيف في ميدان المعركة تعادل عنده معنى الركعة في محراب المسجد، لأن السيف والركعة في منهجه إنما هما وسيلتان لتحقيق هدفه الذي حددته الآية: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».
وقد عبر القس بوسورث سميث بلغة مجازية عن هذا التضاد الإيجابي في شخصية النبي محمد بقوله إنه «كان القيصر والبابا في شخص واحد، لكنه كان البابا دون ادعاءات البابوية، والقيصر دون جحافل القيصرية، دون جيش دائم، دون حارس شخصي، دون قصر…كان لديه كل القوة دون أدواتها» وهذه إحدى معجزات نبي حكم بسلطة أخلاقية خضعت لها مراكز القوى في جزيرة العرب.
وقد عاش وفياً لقيمه التي أخلص لها حتى قبل بعثته، وظل مستعداً للتضحية بحياته في سبيلها، حيث عرّض نفسه وأتباعه لكل أنواع المخاطر، دون أن يساوم على رسالته، ويُعَدّ ذلك الثبات على رسالته من أقوى الأدلة على صدقه، لأن الكاذبين لا يمكن أن يصمدوا في امتحان التضحية من أجل القيم كما فعل، وقد رفض مونتموري وات فرضية أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام دجالاً، حسب توصيف الكنيسة الغربية، وذكر أن ذلك يتعارض مع «استعداده الدائم للتعرض للاضطهاد بسبب معتقداته».
ولأنه كان صادقاً فيما دعا إليه ومنسجماً مع نفسه لم يسجل عليه المؤرخون هفوة واحدة، وعلى الرغم من أنه لا توجد شخصية عرضت تفاصيل حياتها على صفحات التاريخ كما هو شأن شخصية النبي محمد الذي نعرف عنه كل شيء، حتى وهو في أوضاع بالغة الخصوصية، إلا أنه لم يسجل عليه موقف واحد يمكن أن يخجل منه أو أن يخجل منه أتباعه، فلم يهتك عرضاً، ولم ينشغل بلهو، ولم يسرق أو ينهب أو يرابي أو يقامر أو يستغل أو يفتن أو يدخل في مهاترات الشباب أو منافرات القبائل أو خصومات المتنافسين، ولم يتلون ولم يخادع ولم يدَّعِ ما ليس فيه، وعندما بولغ في إطرائه، قال «إنما أنا عبدالله» وعندما أراد بعض أصحابه أن ينقطعوا للعبادات بعيداً عن الحياة الغرائزية نهاهم عن ذلك، وصرح بحبه للنساء، وهذا ما يأخذه عليه «النسويون» المتنطعون الذي يرفعون شعارات بالنهار، ويمارسون خلافها في الليل، أما هو فكان ليله كنهاره، وباطنه كظاهره، وسره كعلنه، ليس لديه ما يخاف منه، ولا في سيرته أو معتقداته ما يخجل منه.
واليوم، ومع كل الدعاية المضادة إلا أن محمداً لا يزال يتحدى ويتوسع متخطياً الحدود ساخراً من المرجفين، وكلما ظن خصومه أنه مات خرج لهم من بين الصفائح، وكلما ظنوا أنه هزم أطل عليهم مبتسماً من غبار المعركة، وقبل حوالي أربع سنوات تفرغ فان كلافرين القيادي في حزب الحرية الهولندي اليميني المتطرف والمعادي للإسلام لتأليف كتاب يهاجم فيه النبي والقرآن والإسلام، وكانت المفارقة العجيبة أنه أعلن إسلامه، بعد بحثه الذي تفرغ له ليكون وثيقة إدانة ضد النبي محمد، فإذا بالباحث ينتهي مسلماً، يشهد «أن محمداً رسول الله».
إنها الشخصية الكبيرة التي كبرت عن محاولات الحصار، وقد حوصرت قديماً في المدينة حصاراً خانقاً زلزلت منه الأقدام، ولكنها خلال الحصار، وفي تلك اللحظات العصيبة كانت تبتسم في وجوه أصحابها، وتحدثهم أنهم سيمتلكون مفاتيح الشام وفارس واليمن، ذلك لأن تلك الشخصية كانت ممتلئة بطاقة تفاؤل لا حدود لها، مبعثها إيمانها العميق برسالتها، وكان هذا سبباً كافياً للنجاح العظيم الذي حققته مع ثلة من الرجال الذين امتلأوا بحبه، الحب العظيم الذي عبر عنه أحد أصحابه وهو يساق للموت صلباً، عندما سئل: «أتحب أن محمداً مكانك»؟ فأجاب: «والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه».
هذه لمحة من حياة رجل عظيم ونبي كريم، حكم بسلطان الحب أكثر مما حكم بقوة الجيش، وملك الدنيا ولكنه لحظة وفاته لم يترك «ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة» وهذا خلق لا يتسنى إلا لأولي العزم من الرجال والأنبياء.
صور الخصوم القدماء والمعاصرون نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام منغلقاً متعصباً، متطرفاً إرهابياً، ضد حقوق الإنسان، ضد حقوق المرأة، ضد الأقليات الدينية، أحادي التفكير، يميل للعنف، رجل شهوات ودنيا، مدعياً للنبوة، زعيماً بدوياً لا علاقة له بالسماء، استدعوا التواريخ الزائفة، وركبوا القصص والحكايات، وحشدوا الألوان وفنون الرسم والتمثيل والكاركاتير، ودبجوا المقالات ورصدوا الأموال للأبحاث الأكاديمية، من أجل تشويه صورته في الأذهان.
أما الكنيسة الغربية بأبعادها السياسية والسلطوية فقد دأبت على تصويره في صورة «الزنديق والكافر وصنم المسلمين والمسيح الدجال» وردد الشاعر الإنكليزي وليام لانغلاند في «ملحمته بيرس بلومان» في القرن الرابع عشر أسطورة مضحكة اخترعتها الكنيسة الغربية عن أن محمداً كان كاهناً مسيحياً في روما، ثم هرب بعد خلاف مع الكنيسة إلى الجزيرة العربية، ومنها ادعى النبوة.
والغريب أن الكنيسة الغربية وقفت مشدوهة أمام نجاحات نبي الإسلام التي تتعارض مع ما تحاول تلك الكنيسة أن تلصقه به من تهم، فعللت ذلك في كتابات بعض أتباعها بأنه كان «مؤيداً بمعجزات المسيح الدجال» في تبرير سخيف يذكر بمحاولة معروف الرصافي التوفيق بين تأكيده أن محمداً كان صادقاً من جهة وإنكاره لنبوة النبي من جهة أخرى، وذلك بذهابه إلى أن محمداً كانت تأتيه وسوسات من الجن وتداعيات نفسية، وأنه كان يصدقها، في محاولة من الرصافي للهروب من الإيمان بوجود «وحي إلهي».
وتستمر محاولات تشويه صورة النبي، ويأخذ كثير من المستشرقين على محمد أنه نبي محارب، ناسين أن داوود كان مقاتلاً، وأن سليمان كان يمتلك أضخم الجيوش، وحتى السيد المسيح عليه السلام قال: «ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً» ويتغاضى البعض عن حقيقة أن القيم لا بد لها من قوة تحميها، وأن العلاقات الدولية محكومة بموازين القوى، لا بمعاهدات حقوق الإنسان، وأن شعارات المنظمات الحقوقية اليوم يُضرب بها عرض الحائط في صراع القوى الدولية، ولذا حرص النبي على مراكمة قوة للحماية، ولم يخدع نفسه بالمثاليات الزائفة، بل تصرف بواقعية عقلانية مدهشة، بعد أن مرّ بتجارب قاسية من الظلم والعدوان عليه، بلغت حد تعذيب وقتل أصحابه، وتكرار محاولات اغتياله في مكة، وممارسة التطهير الديني بتهجيرهم من ديارهم، وهو الذي «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما» والذي قال يوم الحديبية، والسيوف مصلتة:»لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها» ومع ذلك لم يكن يتردد في استعمال القوة عند الضرورة، وهذا هو الذي يدهش في شخصيته اللينة القوية في الآن ذاته.
ومن الحرص الواقعي لمحمد على اكتساب «قوة الردع» جاء الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف، وهذا خلط واضح بين «الفتح العسكري» و«الفتح الروحي» الفتح العسكري كان صداماً طبيعياً بين القوة العربية الإسلامية الوليدة والقوى التقليدية المحيطة بالجزيرة العربية شرقاً وغرباً، وكان لا بد لهذا الصدام من أن يحدث، وفقاً لقوانين صراع القوى، لكن الفتح الروحي لم يكن بحد بالسيف إطلاقاً، إذ لم يسجل التاريخ أن أصحاب محمد أجبروا أحداً على الدخول في الإسلام، وقد فتحت مصر الفتح العسكري في القرن الهجري الأول، إلا ان التحول المصري الكبير نحو الفتح الروحي للإسلام تأخر ثلاثة قرون، حين دخل المصريون في الإسلام دون إكراه.
وترجع فكرة انتشار الإسلام بحد السيف إلى عدم التفريق بين الصراع السياسي والعسكري من جهة وبين الدخول الطوعي في الدين من جهة أخرى، حيث مثّل الصراع فتحاً عسكرياً للدولة الإسلامية ضد إمبراطوريتي فارس والروم، ضمن صراع مراكز القوى العالمية القديمة، بينما مثّل الدخول في الإسلام فتحاً روحياً للعقيدة الإسلامية بين شعوب هاتين الإمبراطوريتين، أو بعبارة أخرى: مثَّل الفتح العسكري انتصار الدولة فيما مثل الفتح الروحي انتشار الدين، وفرق كبير بين انتصار الدولة كقوة مادية زائلة وانتشار الدين كقوة روحية خالدة، حيث ذهبت الدول المتعاقبة وبقي الدين بعد ذهابها.
وقد أدرك كثير من المستشرقين ضرورة امتلاك أسباب القوة وتفهموا ما فعل محمد من «حماية الكلمة بالسيف» لدرجة أن مايكل هارت، وعلى الرغم من تعصبه لثقافة الغرب «اليهودية-المسيحية» جعل محمداً أعظم مائة شخصية على مرّ التاريخ، وقال في تبريره لذلك: «إن محمداً يعتبر أكثر شخصية مؤثر في التاريخ الإنساني كله، في الجانبين الديني والدنيوي» فيما أكد المفكر الروحاني ابن القيم الجوزية قبل قرون أن محمداً «لم يُكره أحداً قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يُكرهه على الدخول في دينه».
هكذا تحدث كبار المنصفين عن الشخصية المحمدية دون الالتفات لرأي فريق من المستشرقين الذين أخذوا على محمد حمله السيف، في وقت كانوا فيه في طليعة المبررين لجحافل المستعمر الأوروبي، وهي تجتاح بلدان المشرق أثناء الحروب الصليبية وفي فترات الاستعمار الحديث.
وبغض النظر عن معتقد الباحث المنصف أو موقفه من الإسلام فإنه لا بد من أن يرى محمداً رجلاً استثنائياً، أحد الرجال القلائل الذين غيروا مجرى التاريخ، الرجال الذين يحظون بحضور كثيف حتى اللحظة الراهنة، رغم محاولات تغييبه وإلغاء حضوره المستمر عبر الأزمنة، وهي المحاولات التي لم تطمس حقيقة أن محمداً نجح في نقل مجموعة من القبائل التي يغلب عليها طابع البداوة من طورها الأعرابي إلى طور عربي إنساني امتد على رقعة جغرافية توسعت من حدود الصين إلى الأندلس وحدود فرنسا خلال المائة سنة الأولى من فترة الحكم العربي الإسلامي، قبل أن يمتد الإسلام إلى أوروبا الشرقية مع المسلمين الأتراك، وقبل ذلك وبعده كان المغول الذين دمروا عاصمة الخلافة العباسية، كانوا ينشئون امبراطوريتهم التي تحولت مع الزمن إلى سلطنات وخانيات إسلامية خلفت آثارها الخالدة في الهند وأواسط آسيا وأجزاء من شرق أوروبا، ووصلت إلى العاصمة الروسية موسكو التي دانت في فترة من فتراتها للسيطرة الإسلامية المغولية.
وهنا يمكن أن نلحظ التباين بين فعل نوعين من القبائل البدوية: قبائل بدوية عربية بنتْ بعد إسلامها بغداد، وقبائل بدوية مغولية هدمت قبل إسلامها بغداد، لتعود هذه القبائل لتبني ـ بعد إسلامها ـ واحدة من أكثر الممالك الوسيطة تقدماً في بلاد الهند، فيما عرف بسلطنة المغول الإسلامية، التي بقي الكثير من آثارها، وظل «تاج محل» شاهداً على فن العمارة فيها، ناهيك عن ريادة في علوم اللغة والتراجم والفلك والفيزياء والرياضيات والتشريح والطب ومختلف الفلسفات والآداب والفنون والموسيقى وغيرها من المعارف التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية.
كل هذا الثراء خرج من عباءة محمد التي يقال عنها اليوم إنها فرَّخت الإرهاب والتخلف والجمود، وكل هذه الدول والممالك والقوى جاءت بعد محمد الذي عُرضتْ عليه السلطة فرفضها، «وظل يصر على أنه عبدالله» على حد تعبير جيمس ميشنار، ليصبح فيما بعد أكثر الشخصيات العالمية تأثيراً في مجريات الأحداث.
يتحدث ألفونس دي لامارتين عن محمد بلغة تبجيل خاصة، ويقول إنه «فيلسوف، خطيب، رسول، مشرع، محارب، فاتح الأفكار، باني العقائد العقلانية…ومؤسس عشرين إمبراطورية أرضية وإمبراطورية روحية واحدة…هل يوجد رجل أعظم منه؟».
أخيراً: من كان يتصور تحقق كل هذا النجاح لذلك اليتيم الفقير الذي كان يرعى غنم الآخرين مقابل أجر زهيد في شعاب ووديان مكة، البلدة النائية المنعزلة وسط الجزيرة العربية؟!
القدس العربي
لاحظ كتبة سيرته ميله إلى العزلة والتأمل، في بعض مراحله العمرية، ما يؤكد مروره بأطوار الأنبياء المعتزلين فترة من حياته، إذ نطالعه بعيداً في الشعاب والطرقات والكهوف القصية، يقضي الوقت متأملاً، ويمشي منفرداً يكاد يحدث نفسه، ويدخل في حوار عميق معها عن الله والكون والإنسان، متأملاً في صمت طويل، وقد ساعده العمل في رعي الغنم على الخلو إلى نفسه، والتجول في البراري، كما كان يوحنا المعمدان يفعل في البراري والقفار، وكما كان إبراهيم في بحثه الشاق عن الحقيقة. وعندما انفتق النور في قلبه لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا أصابه، حتى أنه قال: «لقد خشيت على نفسي» ما يشير إلى أنه فيما يبدو مرّ بفترة صراع داخلي عصيبة، قبل أن تطمئن نفسه ويهدأ فؤاده، وفي هذا القلق الذي أفصح عنه دليل قوي على صدق نبوته، لأنه لو كان كاذباً لما بدا حائراً لأمر يُفترض أنه افتراه عن قصد لغرض في نفسه. ومع ذلك فإن مرحلة القلق لم تستمر طويلاً في حياة نبي الإسلام الذي بلغ نضجه مع النبوة، ودخل مرحلة أخرى من «الإيمان العملي» الذي نتجت عنه فيما بعد حضارة شاهقة بنت دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وسمرقند ومرو وتبريز وغزنة وغيرها من عواصم الحضارة العربية الإسلامية.
ومما يُلفت في شخصيته العميقة شعوره الرهيف وطبيعته الروحانية التي كانت تجعله يقوم الليل باكياً، حتى ليخيل لمن يراه أنه لا يصلح لقيادة الجيوش، حتى إذا ما أطل النهار خرج يجوب الفيافي والقفار متتبعاً الخصوم ومرهباً الأعداء ومتحدياً فارس والروم، وإذا «حمي الوطيس» لجأ أشجع فرسانه للحماية تحت ظل سيفه. شخصية مدهشة، تلين حتى يكاد أن يطمع في لينها اليائسون، ثم تشتد حتى ليوشك أن ييأس من رحمتها الطامعون. يرعى الغنم، يجمع الحطب، يلاعب الأطفال، يداعب الكبار، يترقق مع زوجاته، يتعاهد أصحابه، يمشي في حوائج أهله، يحلب الشاة، يخصف النعل، يرقع الثوب، يمسح دمعة اليتيم، يواسي الأرملة، يعالج حزن الحزانى، ويكتم حزنه ولا يبثه إلا لله.
وهو يتقلب في أقدار الله بين القبض والبسط، فيلبس البرود اليمانية الثمينة والخُلقان الزهيدة، ينام على الحصير والتراب، يركب الخيل والجمال والبغال والحمير، يأكل أطيب المأكولات من لحوم وغيرها في وقت ثم يربط على بطنه من الجوع وقتاً آخر، وقد تجلى اكتماله البشري في أنه أطعم الجياع وهو جائع، وعندما شبعوا أخذ لقيمات ليقيم بها صلبه.
كان يجمع كل تلك «التضادات الإيجابية» في سياق روحاني عجيب، فدلالة السيف في ميدان المعركة تعادل عنده معنى الركعة في محراب المسجد، لأن السيف والركعة في منهجه إنما هما وسيلتان لتحقيق هدفه الذي حددته الآية: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».
وقد عبر القس بوسورث سميث بلغة مجازية عن هذا التضاد الإيجابي في شخصية النبي محمد بقوله إنه «كان القيصر والبابا في شخص واحد، لكنه كان البابا دون ادعاءات البابوية، والقيصر دون جحافل القيصرية، دون جيش دائم، دون حارس شخصي، دون قصر…كان لديه كل القوة دون أدواتها» وهذه إحدى معجزات نبي حكم بسلطة أخلاقية خضعت لها مراكز القوى في جزيرة العرب.
وقد عاش وفياً لقيمه التي أخلص لها حتى قبل بعثته، وظل مستعداً للتضحية بحياته في سبيلها، حيث عرّض نفسه وأتباعه لكل أنواع المخاطر، دون أن يساوم على رسالته، ويُعَدّ ذلك الثبات على رسالته من أقوى الأدلة على صدقه، لأن الكاذبين لا يمكن أن يصمدوا في امتحان التضحية من أجل القيم كما فعل، وقد رفض مونتموري وات فرضية أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام دجالاً، حسب توصيف الكنيسة الغربية، وذكر أن ذلك يتعارض مع «استعداده الدائم للتعرض للاضطهاد بسبب معتقداته».
ولأنه كان صادقاً فيما دعا إليه ومنسجماً مع نفسه لم يسجل عليه المؤرخون هفوة واحدة، وعلى الرغم من أنه لا توجد شخصية عرضت تفاصيل حياتها على صفحات التاريخ كما هو شأن شخصية النبي محمد الذي نعرف عنه كل شيء، حتى وهو في أوضاع بالغة الخصوصية، إلا أنه لم يسجل عليه موقف واحد يمكن أن يخجل منه أو أن يخجل منه أتباعه، فلم يهتك عرضاً، ولم ينشغل بلهو، ولم يسرق أو ينهب أو يرابي أو يقامر أو يستغل أو يفتن أو يدخل في مهاترات الشباب أو منافرات القبائل أو خصومات المتنافسين، ولم يتلون ولم يخادع ولم يدَّعِ ما ليس فيه، وعندما بولغ في إطرائه، قال «إنما أنا عبدالله» وعندما أراد بعض أصحابه أن ينقطعوا للعبادات بعيداً عن الحياة الغرائزية نهاهم عن ذلك، وصرح بحبه للنساء، وهذا ما يأخذه عليه «النسويون» المتنطعون الذي يرفعون شعارات بالنهار، ويمارسون خلافها في الليل، أما هو فكان ليله كنهاره، وباطنه كظاهره، وسره كعلنه، ليس لديه ما يخاف منه، ولا في سيرته أو معتقداته ما يخجل منه.
واليوم، ومع كل الدعاية المضادة إلا أن محمداً لا يزال يتحدى ويتوسع متخطياً الحدود ساخراً من المرجفين، وكلما ظن خصومه أنه مات خرج لهم من بين الصفائح، وكلما ظنوا أنه هزم أطل عليهم مبتسماً من غبار المعركة، وقبل حوالي أربع سنوات تفرغ فان كلافرين القيادي في حزب الحرية الهولندي اليميني المتطرف والمعادي للإسلام لتأليف كتاب يهاجم فيه النبي والقرآن والإسلام، وكانت المفارقة العجيبة أنه أعلن إسلامه، بعد بحثه الذي تفرغ له ليكون وثيقة إدانة ضد النبي محمد، فإذا بالباحث ينتهي مسلماً، يشهد «أن محمداً رسول الله».
إنها الشخصية الكبيرة التي كبرت عن محاولات الحصار، وقد حوصرت قديماً في المدينة حصاراً خانقاً زلزلت منه الأقدام، ولكنها خلال الحصار، وفي تلك اللحظات العصيبة كانت تبتسم في وجوه أصحابها، وتحدثهم أنهم سيمتلكون مفاتيح الشام وفارس واليمن، ذلك لأن تلك الشخصية كانت ممتلئة بطاقة تفاؤل لا حدود لها، مبعثها إيمانها العميق برسالتها، وكان هذا سبباً كافياً للنجاح العظيم الذي حققته مع ثلة من الرجال الذين امتلأوا بحبه، الحب العظيم الذي عبر عنه أحد أصحابه وهو يساق للموت صلباً، عندما سئل: «أتحب أن محمداً مكانك»؟ فأجاب: «والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه».
هذه لمحة من حياة رجل عظيم ونبي كريم، حكم بسلطان الحب أكثر مما حكم بقوة الجيش، وملك الدنيا ولكنه لحظة وفاته لم يترك «ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة» وهذا خلق لا يتسنى إلا لأولي العزم من الرجال والأنبياء.
صور الخصوم القدماء والمعاصرون نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام منغلقاً متعصباً، متطرفاً إرهابياً، ضد حقوق الإنسان، ضد حقوق المرأة، ضد الأقليات الدينية، أحادي التفكير، يميل للعنف، رجل شهوات ودنيا، مدعياً للنبوة، زعيماً بدوياً لا علاقة له بالسماء، استدعوا التواريخ الزائفة، وركبوا القصص والحكايات، وحشدوا الألوان وفنون الرسم والتمثيل والكاركاتير، ودبجوا المقالات ورصدوا الأموال للأبحاث الأكاديمية، من أجل تشويه صورته في الأذهان.
أما الكنيسة الغربية بأبعادها السياسية والسلطوية فقد دأبت على تصويره في صورة «الزنديق والكافر وصنم المسلمين والمسيح الدجال» وردد الشاعر الإنكليزي وليام لانغلاند في «ملحمته بيرس بلومان» في القرن الرابع عشر أسطورة مضحكة اخترعتها الكنيسة الغربية عن أن محمداً كان كاهناً مسيحياً في روما، ثم هرب بعد خلاف مع الكنيسة إلى الجزيرة العربية، ومنها ادعى النبوة.
والغريب أن الكنيسة الغربية وقفت مشدوهة أمام نجاحات نبي الإسلام التي تتعارض مع ما تحاول تلك الكنيسة أن تلصقه به من تهم، فعللت ذلك في كتابات بعض أتباعها بأنه كان «مؤيداً بمعجزات المسيح الدجال» في تبرير سخيف يذكر بمحاولة معروف الرصافي التوفيق بين تأكيده أن محمداً كان صادقاً من جهة وإنكاره لنبوة النبي من جهة أخرى، وذلك بذهابه إلى أن محمداً كانت تأتيه وسوسات من الجن وتداعيات نفسية، وأنه كان يصدقها، في محاولة من الرصافي للهروب من الإيمان بوجود «وحي إلهي».
وتستمر محاولات تشويه صورة النبي، ويأخذ كثير من المستشرقين على محمد أنه نبي محارب، ناسين أن داوود كان مقاتلاً، وأن سليمان كان يمتلك أضخم الجيوش، وحتى السيد المسيح عليه السلام قال: «ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً» ويتغاضى البعض عن حقيقة أن القيم لا بد لها من قوة تحميها، وأن العلاقات الدولية محكومة بموازين القوى، لا بمعاهدات حقوق الإنسان، وأن شعارات المنظمات الحقوقية اليوم يُضرب بها عرض الحائط في صراع القوى الدولية، ولذا حرص النبي على مراكمة قوة للحماية، ولم يخدع نفسه بالمثاليات الزائفة، بل تصرف بواقعية عقلانية مدهشة، بعد أن مرّ بتجارب قاسية من الظلم والعدوان عليه، بلغت حد تعذيب وقتل أصحابه، وتكرار محاولات اغتياله في مكة، وممارسة التطهير الديني بتهجيرهم من ديارهم، وهو الذي «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما» والذي قال يوم الحديبية، والسيوف مصلتة:»لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها» ومع ذلك لم يكن يتردد في استعمال القوة عند الضرورة، وهذا هو الذي يدهش في شخصيته اللينة القوية في الآن ذاته.
ومن الحرص الواقعي لمحمد على اكتساب «قوة الردع» جاء الزعم بأن الإسلام انتشر بالسيف، وهذا خلط واضح بين «الفتح العسكري» و«الفتح الروحي» الفتح العسكري كان صداماً طبيعياً بين القوة العربية الإسلامية الوليدة والقوى التقليدية المحيطة بالجزيرة العربية شرقاً وغرباً، وكان لا بد لهذا الصدام من أن يحدث، وفقاً لقوانين صراع القوى، لكن الفتح الروحي لم يكن بحد بالسيف إطلاقاً، إذ لم يسجل التاريخ أن أصحاب محمد أجبروا أحداً على الدخول في الإسلام، وقد فتحت مصر الفتح العسكري في القرن الهجري الأول، إلا ان التحول المصري الكبير نحو الفتح الروحي للإسلام تأخر ثلاثة قرون، حين دخل المصريون في الإسلام دون إكراه.
وترجع فكرة انتشار الإسلام بحد السيف إلى عدم التفريق بين الصراع السياسي والعسكري من جهة وبين الدخول الطوعي في الدين من جهة أخرى، حيث مثّل الصراع فتحاً عسكرياً للدولة الإسلامية ضد إمبراطوريتي فارس والروم، ضمن صراع مراكز القوى العالمية القديمة، بينما مثّل الدخول في الإسلام فتحاً روحياً للعقيدة الإسلامية بين شعوب هاتين الإمبراطوريتين، أو بعبارة أخرى: مثَّل الفتح العسكري انتصار الدولة فيما مثل الفتح الروحي انتشار الدين، وفرق كبير بين انتصار الدولة كقوة مادية زائلة وانتشار الدين كقوة روحية خالدة، حيث ذهبت الدول المتعاقبة وبقي الدين بعد ذهابها.
وقد أدرك كثير من المستشرقين ضرورة امتلاك أسباب القوة وتفهموا ما فعل محمد من «حماية الكلمة بالسيف» لدرجة أن مايكل هارت، وعلى الرغم من تعصبه لثقافة الغرب «اليهودية-المسيحية» جعل محمداً أعظم مائة شخصية على مرّ التاريخ، وقال في تبريره لذلك: «إن محمداً يعتبر أكثر شخصية مؤثر في التاريخ الإنساني كله، في الجانبين الديني والدنيوي» فيما أكد المفكر الروحاني ابن القيم الجوزية قبل قرون أن محمداً «لم يُكره أحداً قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يُكرهه على الدخول في دينه».
هكذا تحدث كبار المنصفين عن الشخصية المحمدية دون الالتفات لرأي فريق من المستشرقين الذين أخذوا على محمد حمله السيف، في وقت كانوا فيه في طليعة المبررين لجحافل المستعمر الأوروبي، وهي تجتاح بلدان المشرق أثناء الحروب الصليبية وفي فترات الاستعمار الحديث.
وبغض النظر عن معتقد الباحث المنصف أو موقفه من الإسلام فإنه لا بد من أن يرى محمداً رجلاً استثنائياً، أحد الرجال القلائل الذين غيروا مجرى التاريخ، الرجال الذين يحظون بحضور كثيف حتى اللحظة الراهنة، رغم محاولات تغييبه وإلغاء حضوره المستمر عبر الأزمنة، وهي المحاولات التي لم تطمس حقيقة أن محمداً نجح في نقل مجموعة من القبائل التي يغلب عليها طابع البداوة من طورها الأعرابي إلى طور عربي إنساني امتد على رقعة جغرافية توسعت من حدود الصين إلى الأندلس وحدود فرنسا خلال المائة سنة الأولى من فترة الحكم العربي الإسلامي، قبل أن يمتد الإسلام إلى أوروبا الشرقية مع المسلمين الأتراك، وقبل ذلك وبعده كان المغول الذين دمروا عاصمة الخلافة العباسية، كانوا ينشئون امبراطوريتهم التي تحولت مع الزمن إلى سلطنات وخانيات إسلامية خلفت آثارها الخالدة في الهند وأواسط آسيا وأجزاء من شرق أوروبا، ووصلت إلى العاصمة الروسية موسكو التي دانت في فترة من فتراتها للسيطرة الإسلامية المغولية.
وهنا يمكن أن نلحظ التباين بين فعل نوعين من القبائل البدوية: قبائل بدوية عربية بنتْ بعد إسلامها بغداد، وقبائل بدوية مغولية هدمت قبل إسلامها بغداد، لتعود هذه القبائل لتبني ـ بعد إسلامها ـ واحدة من أكثر الممالك الوسيطة تقدماً في بلاد الهند، فيما عرف بسلطنة المغول الإسلامية، التي بقي الكثير من آثارها، وظل «تاج محل» شاهداً على فن العمارة فيها، ناهيك عن ريادة في علوم اللغة والتراجم والفلك والفيزياء والرياضيات والتشريح والطب ومختلف الفلسفات والآداب والفنون والموسيقى وغيرها من المعارف التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية.
كل هذا الثراء خرج من عباءة محمد التي يقال عنها اليوم إنها فرَّخت الإرهاب والتخلف والجمود، وكل هذه الدول والممالك والقوى جاءت بعد محمد الذي عُرضتْ عليه السلطة فرفضها، «وظل يصر على أنه عبدالله» على حد تعبير جيمس ميشنار، ليصبح فيما بعد أكثر الشخصيات العالمية تأثيراً في مجريات الأحداث.
يتحدث ألفونس دي لامارتين عن محمد بلغة تبجيل خاصة، ويقول إنه «فيلسوف، خطيب، رسول، مشرع، محارب، فاتح الأفكار، باني العقائد العقلانية…ومؤسس عشرين إمبراطورية أرضية وإمبراطورية روحية واحدة…هل يوجد رجل أعظم منه؟».
أخيراً: من كان يتصور تحقق كل هذا النجاح لذلك اليتيم الفقير الذي كان يرعى غنم الآخرين مقابل أجر زهيد في شعاب ووديان مكة، البلدة النائية المنعزلة وسط الجزيرة العربية؟!
القدس العربي