لربما كانت هذه تساؤلات مشروعة، على الأقل لطارحيها. فما الإجابة؟
لن ندخل بتكرارات من قبيل أن التعافي المبكر قائم في سوريا منذ العام 2015 على الأقل (انظر مثلًا تقرير “أوتشا” للعام 2014[1])، فالدعم المقدم في جزء كبير منه لا يمكن أن يصنف تحت الدعم الإنساني، وبالتأكيد ليس ضمن إعادة الإعمار.
ما سنحاول طرحه هنا هو أن نتساءل عن بدائل التعافي المبكر. بمعنى، ليذهب التعافي المبكر إلى الجحيم، فما البديل؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنستعرض مراحل الاستجابة الإنسانية. عمليًا، هناك ثلاث مراحل أساسية لعملية الاستجابة: الاستجابة الإنسانية العاجلة، التعافي المبكر، وفي النهاية إعادة الإعمار. ولكل مرحلة سماتها الخاصة، وهنا بيت القصيد، فالاستجابة الإنسانية لها شروطها وظروفها، وكذا إعادة الإعمار، وسنحاول فهم التعافي المبكر وتمييزه عن الاستجابة الإنسانية وإعادة الإعمار.
تبدأ الاستجابة الإنسانية فور وقوع الكارثة، وهدفها إنقاذ الحياة، بمعنى أن المطلوب هو أثر مباشر، ولا حديث فيه عن أهداف بعيدة الأمد. لسنا هنا بصدد الحديث عن تنمية، ولا بناء قدرات، ولا تماسك مجتمعي… المطلوب فقط أن تنقذ أكبر عدد ممكن من حيوات الناس.
تتسم هذه العملية بقيادة كاملة من قبل المانحين الدوليين، الذين يرسلون الفرق للتدخل المباشر عادة، أو عبر فواعل محلية منظمة (منظمات محلية موجودة بشكل سابق للكارثة)، كما تتميز هذه المرحلة بوفرة في الموارد المقدمة، وبمستوى ضعيف من الرقابة، كون المطلوب هو السرعة بالتدخل، حتى لو أهدرت الموارد.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة إعادة الإعمار، التي تتطلب وضع أهداف بعيدة الأمد، وتستهدف البنية التحتية من طرق وجسور ومدارس ومستشفيات وجامعات وسدود… تقود هذه المرحلة بشكل واضح حكومة مركزية تسيطر على كامل البلاد، حكومة قادرة على التخطيط المركزي والتفاوض مع المانحين، واستجلاب القطاع الخاص (الذي يلعب عادة دورًا مهمًا في هذه المرحلة)، ليكون دور المنظمات الدولية أصغريًا، بل وربما معدومًا. تحتاج مرحلة إعادة الإعمار إلى أموال طائلة، وبيئة سياسية وأمنية مستقرة، واقتصاد قادر على الحركة.
بين هاتين المرحلتين هناك مرحلة، هي ما يسمى بـ”التعافي المبكر”. فلماذا نحتاج إليه؟ ولماذا يخافه البعض؟
البديل الأول هو الإبقاء على المساعدات الإنسانية، وهذه برأيي كارثة كبرى، فالمساعدات الإنسانية تعني أن يبقى المجتمع معتمدًا، تنتظر فيه الأسر سلتها الإغاثية، لا فرص، ولا عمل، ولا اقتصاد، ولا إنتاج. لا مدارس ولا تعليم، فهذه في مرحلة الاستجابة الإنسانية ترف، فمن يهتم بالتعليم بينما القذائف تنهال على المدارس؟ ومن يكترث بالاعتراف بشهادات الطلاب ولا وجود لمدارس آمنة؟ ومن يهتم بهيئة اختصاصات طبية، وجامعات، ومشاريع حوكمة، والحرب مستعرة؟ أن تقدم الدعم الإنساني لبلد يشهد كارثة طبيعية كالزلزال، أو منطقة تشهد حركة نزوح هائلة، فهذا واجب إنساني. أن تستمر بتقديمه حتى بعد أن تستقر المجتمعات، فهذا إمعان في تحويل المجتمعات إلى مجتمعات معتمدة، غير منتجة، وغير مؤهلة لإطلاق طاقاتها ومواردها! في ذات الوقت، لا يمكن الاستغناء عن المساعدات الإنسانية بشكل كامل، فهناك ملايين من سكان الخيام، وهناك معارك تحدث بين الحين والآخر، لكن لا يمكن أن تكون المساعدات الإنسانية هي الشكل الأساسي للدعم، وإلا فإن ما سيبقى هو مجتمع كسول، جاهل، طاعم كاسٍ.
البديل الآخر، هو الذهاب نحو إعادة الإعمار! حسنًا من يريد هذا؟ ومن يقدر عليه أساسًا؟ فلا توجد حكومة واحدة تسيطر على كامل البلاد وقادرة على عقد اتفاقيات مع الدول المانحة والمنظمات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولا استقرار سياسي وأمني، ولا بيئة آمنة لعودة الاستثمارات، والأهم لا عملية سياسية تعيد توحيد البلاد.
حسنًا إذًا، لا يمكن الإبقاء على الدعم الإنساني كرافد أساسي للدعم، ولا يمكن الذهاب إلى إعادة الإعمار، فما البديل؟
البديل هو التعافي المبكر، الذي يضمن أن تبدأ عجلة الإنتاج بالتحرك، ولو بشكل بطيء، وبهذا الشكل يصبح التعافي المبكر ضرورة وطنية، وليس مصدر خوف وتشكيك. أكثر من ذلك، هناك فرصة كبيرة سانحة لتعريف التعافي المبكر من وجهة نظر سورية، تضمن معالجة المخاوف المترتبة على المفهوم من جهة، وتمضي فيه نحو تطبيق يحفظ وحدة البلاد، ويؤسس للحل السياسي لا أن يكون بديلًا عنه. لقد انطلقت بالفعل جهود مهمة في هذا الإطار، كتلك التي وضعتها المبادرة السورية للحيز المدني، وأطلقتها في مؤتمر بروكسل الثامن.
لكن أليس هنالك مخاوف من حرف التعافي المبكر نحو حلول مجتزأة تكرس التقسيم. فبمجرد اعتبار التعافي المبكر بديلًا عن الحل السياسي، فإننا سندخل في لعبة انتظار لا نهائية، تصبح فيها الحدود الحالية بين مناطق السيطرة هي الحدود النهائية للبلاد، ليعتاد الجميع شكل التقسيم، هذا هو الخطر الحقيقي، وليس التعافي المبكر!
الخطر الحقيقي يتمثل في بناء التدخلات الإنسانية أو التنموية أو أيًا كان اسمها، لتكرس التقسيم، هذا ما يجب أن يحاربه المجتمع المدني، وهذا ما يجب أن يحاربه الساسة، وهذا ما يجب أن يحاربه كل سوري.
------------
عنب بلدي
لن ندخل بتكرارات من قبيل أن التعافي المبكر قائم في سوريا منذ العام 2015 على الأقل (انظر مثلًا تقرير “أوتشا” للعام 2014[1])، فالدعم المقدم في جزء كبير منه لا يمكن أن يصنف تحت الدعم الإنساني، وبالتأكيد ليس ضمن إعادة الإعمار.
ما سنحاول طرحه هنا هو أن نتساءل عن بدائل التعافي المبكر. بمعنى، ليذهب التعافي المبكر إلى الجحيم، فما البديل؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنستعرض مراحل الاستجابة الإنسانية. عمليًا، هناك ثلاث مراحل أساسية لعملية الاستجابة: الاستجابة الإنسانية العاجلة، التعافي المبكر، وفي النهاية إعادة الإعمار. ولكل مرحلة سماتها الخاصة، وهنا بيت القصيد، فالاستجابة الإنسانية لها شروطها وظروفها، وكذا إعادة الإعمار، وسنحاول فهم التعافي المبكر وتمييزه عن الاستجابة الإنسانية وإعادة الإعمار.
تبدأ الاستجابة الإنسانية فور وقوع الكارثة، وهدفها إنقاذ الحياة، بمعنى أن المطلوب هو أثر مباشر، ولا حديث فيه عن أهداف بعيدة الأمد. لسنا هنا بصدد الحديث عن تنمية، ولا بناء قدرات، ولا تماسك مجتمعي… المطلوب فقط أن تنقذ أكبر عدد ممكن من حيوات الناس.
تتسم هذه العملية بقيادة كاملة من قبل المانحين الدوليين، الذين يرسلون الفرق للتدخل المباشر عادة، أو عبر فواعل محلية منظمة (منظمات محلية موجودة بشكل سابق للكارثة)، كما تتميز هذه المرحلة بوفرة في الموارد المقدمة، وبمستوى ضعيف من الرقابة، كون المطلوب هو السرعة بالتدخل، حتى لو أهدرت الموارد.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة إعادة الإعمار، التي تتطلب وضع أهداف بعيدة الأمد، وتستهدف البنية التحتية من طرق وجسور ومدارس ومستشفيات وجامعات وسدود… تقود هذه المرحلة بشكل واضح حكومة مركزية تسيطر على كامل البلاد، حكومة قادرة على التخطيط المركزي والتفاوض مع المانحين، واستجلاب القطاع الخاص (الذي يلعب عادة دورًا مهمًا في هذه المرحلة)، ليكون دور المنظمات الدولية أصغريًا، بل وربما معدومًا. تحتاج مرحلة إعادة الإعمار إلى أموال طائلة، وبيئة سياسية وأمنية مستقرة، واقتصاد قادر على الحركة.
بين هاتين المرحلتين هناك مرحلة، هي ما يسمى بـ”التعافي المبكر”. فلماذا نحتاج إليه؟ ولماذا يخافه البعض؟
البديل الأول هو الإبقاء على المساعدات الإنسانية، وهذه برأيي كارثة كبرى، فالمساعدات الإنسانية تعني أن يبقى المجتمع معتمدًا، تنتظر فيه الأسر سلتها الإغاثية، لا فرص، ولا عمل، ولا اقتصاد، ولا إنتاج. لا مدارس ولا تعليم، فهذه في مرحلة الاستجابة الإنسانية ترف، فمن يهتم بالتعليم بينما القذائف تنهال على المدارس؟ ومن يكترث بالاعتراف بشهادات الطلاب ولا وجود لمدارس آمنة؟ ومن يهتم بهيئة اختصاصات طبية، وجامعات، ومشاريع حوكمة، والحرب مستعرة؟ أن تقدم الدعم الإنساني لبلد يشهد كارثة طبيعية كالزلزال، أو منطقة تشهد حركة نزوح هائلة، فهذا واجب إنساني. أن تستمر بتقديمه حتى بعد أن تستقر المجتمعات، فهذا إمعان في تحويل المجتمعات إلى مجتمعات معتمدة، غير منتجة، وغير مؤهلة لإطلاق طاقاتها ومواردها! في ذات الوقت، لا يمكن الاستغناء عن المساعدات الإنسانية بشكل كامل، فهناك ملايين من سكان الخيام، وهناك معارك تحدث بين الحين والآخر، لكن لا يمكن أن تكون المساعدات الإنسانية هي الشكل الأساسي للدعم، وإلا فإن ما سيبقى هو مجتمع كسول، جاهل، طاعم كاسٍ.
البديل الآخر، هو الذهاب نحو إعادة الإعمار! حسنًا من يريد هذا؟ ومن يقدر عليه أساسًا؟ فلا توجد حكومة واحدة تسيطر على كامل البلاد وقادرة على عقد اتفاقيات مع الدول المانحة والمنظمات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولا استقرار سياسي وأمني، ولا بيئة آمنة لعودة الاستثمارات، والأهم لا عملية سياسية تعيد توحيد البلاد.
حسنًا إذًا، لا يمكن الإبقاء على الدعم الإنساني كرافد أساسي للدعم، ولا يمكن الذهاب إلى إعادة الإعمار، فما البديل؟
البديل هو التعافي المبكر، الذي يضمن أن تبدأ عجلة الإنتاج بالتحرك، ولو بشكل بطيء، وبهذا الشكل يصبح التعافي المبكر ضرورة وطنية، وليس مصدر خوف وتشكيك. أكثر من ذلك، هناك فرصة كبيرة سانحة لتعريف التعافي المبكر من وجهة نظر سورية، تضمن معالجة المخاوف المترتبة على المفهوم من جهة، وتمضي فيه نحو تطبيق يحفظ وحدة البلاد، ويؤسس للحل السياسي لا أن يكون بديلًا عنه. لقد انطلقت بالفعل جهود مهمة في هذا الإطار، كتلك التي وضعتها المبادرة السورية للحيز المدني، وأطلقتها في مؤتمر بروكسل الثامن.
لكن أليس هنالك مخاوف من حرف التعافي المبكر نحو حلول مجتزأة تكرس التقسيم. فبمجرد اعتبار التعافي المبكر بديلًا عن الحل السياسي، فإننا سندخل في لعبة انتظار لا نهائية، تصبح فيها الحدود الحالية بين مناطق السيطرة هي الحدود النهائية للبلاد، ليعتاد الجميع شكل التقسيم، هذا هو الخطر الحقيقي، وليس التعافي المبكر!
الخطر الحقيقي يتمثل في بناء التدخلات الإنسانية أو التنموية أو أيًا كان اسمها، لتكرس التقسيم، هذا ما يجب أن يحاربه المجتمع المدني، وهذا ما يجب أن يحاربه الساسة، وهذا ما يجب أن يحاربه كل سوري.
------------
عنب بلدي