والتجاهل الإعلامي لنصرالله في سوريا الأسد التي ترسم لنفسها صورة إعلامية ودعائية كقوة قيادية في "محور الممانعة"، يشكل موقفاً غير متوقع من النظام السوري، في نظر مواليه على الأقل، رغم أن النظام منذ عقود يحافظ على حياد نسبي ميدانياً مع اسرائيل، ويحتفظ لنفسه بإمكانية المناورة بين الحلفاء والخصوم، بموازاة الخطاب العدائي تجاه تل أبيب إعلامياً ودبلوماسياً، والذي يشكل نوعاً من الدعاية الموجهة نحو الجمهور المحلي بالدرجة الأولى. لكن إبراز تلك الديناميات عبر الشاشة الرسمية، هو المستجد اليوم ربما.
وبعد الثورة في البلاد والدعم الإيراني للنظام عبر ميليشيات مختلفة من بينها "حزب الله" الذي شارك في المعارك ومازال يتمركز في مناطق سورية عديدة، كان نصرالله دائم الحضور في الشاشات التي نقلت خطاباته وأجرت معه مقابلات حصرية وأفردت له ولحزبه مساحة واسعة. ولا يمكن نسيان المقابلة الأولى له على شاشة سورية العام 2015 عندما وصفته المذيعة رانيا الذنون، التي ارتدت الحجاب استثنائياً أمامه، بـ"القائد" و"الأب"و"المقاوم" وغيرها من الأوصاف التي رفض شخصياً نسبها إليه وردّها إلى الرئيس السوري بشار الأسد، في صورة تكررت مراراً بين الطرفين لإظهار فكرة الاستقلالية بين "الحلفاء" من دمشق إلى ضاحية بيروت الجنوبية وطهران.
مقاطعة في الصحافة المكتوبة أيضاً
وعبر تجاهل إطلالات نصر الله في الإعلام السوري، الذي اكتفى ببث تصريحات مقتضبة من الخطابين الأخيرين عبر وكالة "سانا" من دون حتى تخصيص أخبار مكتوبة أو مواد رأي في الصحف المحلية الثلاث، كما جرت العادة سابقاً، فإن النظام ربما يقدم رسالة انفصال عن الحزب وطهران، في ما يخص التصعيد الحالي في المنطقة. كما أن الأسد شخصياً يحاول في الفترة الأخيرة إعادة بناء صورته كقائد جماهيري في المنطقة، ويتطلب ذلك التقليل من حجم القادة الآخرين، حتى الحلفاء منهم.
وتحدث إعلاميون موالون في مواقع التواصل عن توجيهات من القيادة بعدم بث خطابات نصرالله، بهدف تحييد سوريا عن الانخراط في الحرب، من أجل تقديم رسائل للدول العربية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق وإلى الدول الغربية أيضاً، بوجود رغبة رسمية في الحفاظ على الاستقرار، خصوصاً أمام الوضع الهش الذي يعيشه النظام على كافة المستويات. لكن تلك السردية قوبلت بخطاب تخوين من الموالين الأكثر راديكالية، ممن يروجون لفكرة "السيادة الوطنية".
استقلالية شكلية
على أن سوريا، تبقى دولة غير قادرة على التحكم في أمورها. وهي إذ وسّعت المسافة بينها وبين طهران، فإنها تزداد التصاقاً بروسيا. ففي تموز/يوليو الماضي، توجه الأسد إلى موسكو بشكل مفاجئ للقاء نظيره فلاديمير بوتين، ودار اللقاء بحسب وسائل الإعلام الروسية، حول إمكانات توسع الحرب في المنطقة، قبل توجيه إسرائيل ضربات أدت الى اغتيال القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر في بيروت، ثم رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران. وربما يكون ذلك اللقاء بالتحديد هو المفتاح لفهم موقف النظام السوري البراغماتي حالياً.
وفيما يحاذر النظام السوري الانخراط في أي نزاع جديد، بعد سنوات من الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية وسيطرة الحلفاء على صناعة القرار السياسي في البلاد التي تعيش اليوم صراعاً مجمداً مع انهيار في الاقتصاد والخدمات العامة، فإن ذلك الانخراط نفسه محدد في موقف الحلفاء من جهة، وفي قدرة النظام على الموازنة بين تلك المواقف من جهة ثانية. واستطراداً، يبدو من تجاهل الجبهة السورية في خطاب نصر الله الأخير، وجود تفهم لذلك الموقف، حالياً على الأقل، لدرجة تتيح إعفاء الحليف السوري من مسؤولية الانخراط ولو إعلامياً في الحرب الجارية.
ومنذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا العام 2015 لصالح النظام السوري، انتشرت تحليلات حول الخلافات الإيرانية الروسية في سوريا، حيث تمتلك موسكو وطهران أهدافاً متباينة. ففيما وجد بوتين في سوريا فرصة مثالية لإعادة نفوذ روسيا القديم في الشرق الأوسط، وفتح مجال لقواعد عسكرية روسية بالقرب من البحر المتوسط، والحد من النفوذ الأميركي في المنطقة، وغيرها، تبدو الأهداف الإيرانية وجودية أكثر، ولا تتعلق بالدبلوماسية فحسب، بل ترتبط بتحقيق نبوءات دينية وتشكل جزءاً من الصراع السني الشيعي. كما أن تحالف طهران الوثيق مع "سوريا الأسد" ضروري لحماية العمق الإيراني في المنطقة، فيما تسعى طهران إلى فتح ممر بري يصل طهران بـ"حزب الله" في لبنان، لإمداده بالأسلحة المتطورة واستمرار الحفاظ على توازن عسكري مع عدوها الأول إسرائيل.
ولطالما كان هناك تساؤل حول مدى حقيقة التقارب الروسي – الإيراني خلال العقد الماضي، لأن البلدين تاريخياً لم يتمتعا بعلاقات وطيدة عموماً، وأتت الحرب السورية لتقربهما مرحلياً من أجل ضمان بقاء رئيس النظام بشار الأسد في السلطة، وعدم تفكيك بنية الدولة السورية، فيما كانت الخلافات أمراً مؤجلاً لأنها تتعلق بأهداف بعيدة الأمد.
وفي حالة الموقف من إسرائيل ونشاطاتها في المنطقة، خصوصاً الغارات المتكررة على سوريا لضرب أهداف إيرانية، يمكن الإشارة إلى تفاصيل كشفتها مجلة "فورين بوليسي" الأميركية العام 2017 بشأن اتفاق خفض التصعيد في جنوب سوريا الذي عقده بوتين مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وركزت على إبعاد وكلاء إيران عن جنوب سوريا على امتداد الحدود الإسرائيلية والأردنية، وتحييد الجبهة السورية عن الصراع مع إسرائيل.
أمام ذلك التعقيد، يختار موالون للنظام السوري، الحفاظ على الوهم، ويرسمون نظرية مؤامرة تفيد بوجود "اختراق صهيوني" في وزارة الإعلام، يجعل الإعلام المحلي بعيداً من "حلبات المواجهة" بشكل يتنافى مع "توجيهات الرئيس الأسد". وكتب موالون أنهم "شعروا بالعار" بعدما اضطروا للتوجه إلى الإعلام "المغرض"، في وصف للإعلام المستقل مثل "تلفزيون سوريا" و"التلفزيون العربي" تحديداً، للحصول على معلومات عن كلمة نصرالله بدلاً من "الإعلام الوطني".
وعبر تصوير المشكلة على أنها قضية داخلية تخص وزارة الإعلام وحدها، عبر انتقاد الوزير بطرس حلاق تحديداً، حاول الموالون الراديكاليون، وهم في معظمهم عاملون في وزارة الإعلام أصلاً، تجنب إحباط الجمهور وإقناعه بأن النظام مازال داعماً للقضية الفلسطينية ولـ"محور الممانعة" من جهة، مع تلميع صورة قيادات النظام ورموزه من جهة ثانية، وتقديم أوراق اعتمادهم على أنهم الأجدر بتولي مناصب قيادية في الوزارة مستقبلاً.
وتلك النظرية ليست جديدة بل برزت منذ العام 2021 عندما تم تعيين حلاق وزيراً للإعلام بدلاً من عماد سارة. وتم تصويب سهام الخيانة ضده وضد وزراء آخرين، مثل وزيرة الثقافة لبانة مشوح، ووزير التربية دارم طباع، بتهم مثل الترويج للصهيونية والمفاهيم الجندرية وغيرها من العبارات. ويتم اليوم التذكير بكل ذلك التاريخ للقول أن هناك مؤامرة قديمة تحاك ضد سوريا تقوم الحكومة الحالية بتنفيذها عبر "نشر ثقافة التطبيع الذي حوربت سوريا من أجله" و"رعاية الفساد" الذي يواجهه الرئيس الأسد في خطاباته وتوجيهاته.
وفصل الحكومة عن شخص الأسد وبقية رموز النظام هو تكتيك دعائي قديم يستخدمه النظام السوري من أجل تقديم شخصية الرئيس كبطل يكافح الشر ضمن بيئة فاسدة حوله. ولا يتعلق الأمر بالقضايا المحلية فحسب، بل يمتد إلى القضايا الإقليمية مثل القضية الفلسطينية خصوصاً في فترة الخلافات بين دمشق وفصائل فلسطينية مثل "حماس" بعد الثورة في البلاد.
والنقاش الدائر بهذا الخصوص يبقى محصوراً اليوم في إعلاميي النظام وممنوعاً على الأفراد العاديين طبعاً، باعتباره خطاً أحمر، لأن "القيادة الحكيمة" هي من يمتلك حصرية التمييز بين "المؤامرة" و"المصلحة الوطنية"، والتعدي على هذه الحصرية هو خيانة، وفق المنطق الرسمي
----------
المدن.