تكتسب مقاومة الظلم والاحتلال والاضطهاد شرعيتها من كونها ردة فعل طبيعية، للأفراد والجماعات، للتعبير عن ذاتهم كبشر لهم حقوق، لذا فإن إسرائيل في سعيها الى نزع حق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس، أو مقاومة الاحتلال، تتوخى نزع إنسانيتهم وتصويرهم كمتوحشين مجردين من أية حقوق، كحق الحياة، أو أي حق آخر، وهذا هو معنى حرب الإبادة، أو حرب التطهير العرقي التي تشنّها عليهم في غزة منذ شهرين، أمام العالم كله.
النقد كفعل مقاومة أيضاً
مشروعية المقاومة، كفعل بشري، لأفراد أو حركات سياسية، كانت شعبية أو عسكرية، سلمية أو مسلحة، لا تعني عدم تفحّص أي خيار سياسي أو كفاحي بطريقة عقلانية ومسؤولة، في الموازنة بين الإمكانات والطموحات، والتبصر بملاءمة المعطيات الذاتية والموضوعية، وفي التناسب بين الكلفة والمردود، بخاصة على صعيد الإنجازات السياسية.
إذ إن أي خيار سياسي أو كفاحي يجب أن يخضع للنقاش والمراجعة والنقد، بناء على التجربة، بعيداً من العواطف والرغبات والتخيلات، علماً أن النقد لا يعني إدانةً ولا اتهاماً، وهذا يصح أكثر على حركة وطنية لها ما يقارب ستة عقود، مع تجربة ثرية ومعقدة، بما فيها من إخفاقات أو نجاحات، ومع افتقادها استراتيجية كفاحية واضحة ويمكن استثمارها.
المسألة الأخرى تتعلق بنزعة إضفاء القداسة، على شكل سياسي، أو على خيار كفاحي معين، فذلك يتناقض مع أبجديات السياسة التي تفترض المشاركة والخضوع للمراجعة، في حين تبدو القداسة كمحاولة مواربة لإخلاء مسؤولية قيادات الحركات السياسية عن طريقتها في إدارة الصراع، وشكل إدارتها الموارد البشرية، وعن الخيارات السياسية والكفاحية التي انتهجتها في لحظة معينة، أو في مسار سياسي معين.
تزداد ضرورة ما تقدم مع علمنا بأن التجربة الوطنية الفلسطينية، المديدة والمريرة وباهظة الثمن، خلت من المراجعات الجدية، إذ لم يحصل مرة أن خضعت الشعارات والخيارات والكيانات السياسية للفحص، وتالياً فإن القيادات الفلسطينية لم تخضع لنقد حقيقي (بعيداً من الشخصنة والاتهامات) في المسائل الأساسية، ولا للمساءلة والمحاسبة، في كل التجارب من الأردن إلى لبنان إلى الأراضي المحتلة، ومن تجربة الكفاح المسلح في الخارج إلى الانتفاضة والكفاح الشعبي في الداخل، ومن شعار تحرير فلسطين، إلى شعار دولة في الضفة والقطاع، مروراً باتفاق أوسلو المجحف، والذي فُرض بعيداً من أي نقاش وأي إطار شرعي، ومن تجربة المنظمة إلى تجربة السلطة.
ما سبق بكامله هو بالضبط سبب جمود وتكلّس السياسة الفلسطينية وتآكلها، والذي يشمل الكيانات والشعارات والعلاقات والخيارات الكفاحية. على ذلك، فإن النقد يصح على كل الكيانات السياسية، لا سيما “فتح” و “حماس”، الحركتان الكبيرتان، السلطتان في الضفة وغزة، من كونهما المتحكمتين بخيارات الشعب الفلسطيني السياسية والكفاحية.
التجربة الفلسطينيّة بين فتح وحماس
لم تبدأ “فتح” مع اتفاق أوسلو (1993)، لذا لا يمكن اختصارها به، أو بكونها سلطة، فهي التي بادرت الى إطلاق خيار الكفاح المسلّح (1965)، واستنهاض الفلسطينيين كشعب، وفي تاريخها سجل نضالي مجيد في مواجهة إسرائيل، من معركة الكرامة في الأردن، إلى لبنان، في كفرشوبا وقلعة الشقيف وحصار بيروت وحرب الصواريخ (1981)، إلى عمليات سافوي ودلال المغربي والدبويا، وصولاً إلى العمليات الفدائية والتفجيرية إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي أدت الى فرض الحصار على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مقره في رام الله (منذ أواخر 2001)، ما أدى إلى موته (أواخر 2004).
ولنتذكر أن هذه الحركة قُتل معظم قادتها (أبو عمار، وأبو يوسف النجار، وأبو علي إياد، وعبد الفتاح عيسى حمود، وماجد أبو شرار، وأبو جهاد، وأبو إياد، وأبو الهول)، لكنها خسرت الأردن، ثم لبنان، ثم غزة أيضاً، وباتت سلطة تحت الاحتلال في الضفة، مع ذلك كان ثمة قطاع واسع يهلل لها في كل مرحلة، مع الأخذ بالاعتبار أن فكرة “فتح” عن خيار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين انبثقت من رهان على حاضنة عربية ثبت أنها غير موجودة، بل إن الأنظمة فعلت عكس ذلك.
في المقابل، ظهرت “حماس” من بطن “الإخوان المسلمين”، متأخرة (1987)، عن الانخراط في تيار الكفاح المسلح الذي أطلقته “فتح”، وقد اختطت منذ ذلك الحين، نمط العمليات التفجيرية، ثم الحرب الصاروخية، بعد سيطرتها على غزة (2007)، والمهم أنها استطاعت منافسة “فتح” على مكانة القيادة، وفي تقرير الخيارات الفلسطينية، السياسية والكفاحية. ومثلما أنه لا يمكن اختصار “فتح” باتفاق أوسلو، كذلك لا تُختصر “حماس” باعتبارها حركة إسلامية على حساب كونها حركة وطنية، أو بتغليبها الطابع الديني على السياسي، في مواقفها، على رغم ما يعتري ذلك من تناقضات.
وبالمثل، يفيد أن نذكر هنا أن تلك الحركة لم تقدم نموذجاً أفضل كسلطة، عن ذلك الذي قدمته “فتح” في الضفة، إن في نمط علاقتها مع المجتمع الفلسطيني في غزة، أو إدارتها موارده، إضافة إلى أن إسرائيل فرضت حصاراً على غزة منذ 17 عاماً، كما حوّلتها إلى حقل رماية لصواريخها المدمرة، هذا غير تعمّدها اليوم تدمير أكثر من 60 بالمئة من منشآت غزة، وتهديدها باقتلاع جزء من الفلسطينيين منها، في نكبة جديدة مع الأهوال والمآسي غير المسبوقة التي اختبروها خلال قرابة شهرين، هذا إضافة إلى أن “حماس” بنت فكرتها عن الكفاح المسلح على “وحدة الساحات”، ودعم الأمتين العربية والإسلامية، وهو ما لم يتوافر، ناهيك بمراهنتها على تدخّل “إلهي” أو للملائكة.
هكذا، ففي الحالين، نحن إزاء حركة وطنية منقسمة على ذاتها، في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية، مع ذلك فإن تلك الحركة، على رغم تجربتها الغنية والمديدة والصعبة، لم تتوصل إلى صوغ استراتيجية كفاحية مناسبة، أي لم تتوصل إلى الشكل الأكثر مناسبة، لإمكانات الشعب الفلسطيني وظروفه في أماكن وجوده كافة.
الاستعصاء الفلسطيني في مواجهة حرب إسرائيل
في الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل حالياً ضد فلسطينيي غزة، يفترض أن نلاحظ، وأن ندرك، مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الفلسطينيين من النهر إلى البحر (الضفة وغزة و48)، الذين يقعون تحت هيمنة إسرائيل، لم يستطيعوا صوغ وانتهاج شكل كفاحي معين، فثمة خيار العمل السياسي المدني عند فلسطينيي 48، والمزاوجة بين الكفاح الشعبي والانتفاضة والأعمال الفدائية في الضفة، والحرب الصاروخية (والعملية الهجومية أخيراً) ضد إسرائيل من قطاع غزة؛ يضاف ذلك، أو يفاقم منه، افتقادهم رؤية وطنية جامعة.
المشكلة الأكبر أن الفلسطينيين اليوم، من النهر إلى البحر، غير قادرين على القيام بأي فعل يتناسب مع هول المجازر التي يتعرض لها شعبهم في غزة، ما يطرح على حركتهم الوطنية، وهي حركة عريقة ومجربة، سؤالاً يتعلق باستعصاء صوغ شكل كفاحي يجمع الشعب الفلسطيني عليه، أي استراتيجية كفاحية تتناسب مع استراتيجية سياسية يمكن الاستثمار فيها.
هذا الكلام لا علاقة له بخطأ أو صواب الشكل الكفاحي أو الخيار السياسي الذي انتهجته “فتح” أو “حماس”، فذلك شأن أخر، لكنه يتعلق بتعريف مفهوم المقاومة بكل أشكالها، مدنية وشعبية، فصائلية وعسكرية، والتي يفترض أن تتأسس على قواعد حرب الضعيف ضد القوي، وحرب الشعب طويلة الأمد، والديمومة، ومراعاة قدرته على التحمّل، وتجنيبه ردود فعل قاسية من العدو، وعدم الاستدراج إلى معارك كجيش لجيش، حيث المربع الذي يتفوق به العدو، في صراع متدرج يتم كسبه بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وفق مبدأ أضرب واهرب، ومواجهة نقاط ضعف العدو وتجنّب نقاط قوته.
أيضاً، لعل أهم ما يفترض أن تتميز بها المقاومة، أولاً، مساهمتها في إثارة التناقضات في صفوف العدو، لا العكس. ثانياً، قدرتها على استنزاف مجتمع العدو، وسد الفرص أمامه لاستنزاف شعبها. ثالثاً، القدرة على استثمار للتضحيات والبطولات في إنجازات سياسية.
المعضلة، أن الحركة الوطنية الفلسطينية ظلت بعيدة من تلك القواعد كلها، لافتقادها استراتيجية سياسية وعسكرية مدروسة وناجعة، ومجدية، بحيث بدا الشعب الفلسطيني كأنه يقاتل بعناده، وبإيمانه بقضيته، وباستعداده العالي للتضحية، وفقط، بأقل من الجدوى المتحققة، ومن دون أي سؤال أو مراجعة للقيادات المعنية، في كل المراحل.
عدا عن كل ما تقدّم، على أهميته، فإن الفلسطينيين، في كل مكان، معنيون بإدراك أنهم إزاء عدو يتعامل معهم على أساس نفيهم أو تغييبهم، أو محوهم، إما بالاستسلام لروايته، أو بالقتل أو بالإزاحة والاقتلاع، وأن ما يفاقم مشكلتهم أن عدوّهم يتمتع بفائض قوة من المعطيات الدولية والعربية المواتية له، والتي تتركهم فريسة مكشوفة له، وهذه المعطيات لا تسمح لهم أو لا تمكنهم من تحويل تضحياتهم الباهظة وبطولاتهم الكبيرة إلى مكاسب، فذلك يتطلب معطيات دولية وعربية أخرى، غير متوافرة بعد، في المدى المنظور.
لنلاحظ، مثلاً، أن النظام العربي والدولي لم يسمح بتغيير في لبنان (أواسط السبعينات)، ولا لنظام صدام بأخذ بلد عربي (الكويت)، ولا لروسيا بوتين بأخذ أوكرانيا، وحتى إنه لم يسمح بإسقاط نظام الأسد، أي أن تضحيات الفلسطينيين وبطولاتهم على أهميتها لا تكفي وحدها.
ربما تلك المقدمات لا ترضي رغبات البعض، بيد أن الواقع الفلسطيني أكثر مرارة وأقسى ألماً وأشد هولاً من وصفه أو نقده، كما جرى هنا، علماً أن هذا الرأي قديم، وتكرر مني ومن غيري في مقالات ودراسات، وثمة كتاب خصصته لشرح وجهة النظر تلك، عنوانه: “نقاش السلاح، قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية”، أي أنه ليس حديث اليوم، فقط، مع أهمية ذلك، رغم حساسيته، في ظل الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد شعبنا في غزة.
باختصار، وحتى لا نحمّل الفلسطينيين أكثر من قدرتهم، يفترض أن ندرك، أولاً، أن ثمة فرقاً بين الصمود وبذل التضحيات والبطولات، وبين النصر الذي يحتاج إلى موازين قوى متناسبة، وإلى معطيات خارجية عربية وإقليمية ودولية مواتية. وثانياً، أن مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل حقوقه الوطنية ومن أجل الحقيقة والحرية والعدالة، سيستمران مع “فتح” و”حماس” و”الجبهات”، أو من دونها، في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية، بهذا الشكل أو ذاك، وبهذا المستوى أو ذاك.
في الختام، يخشى أن ما حصل في تجربة الثورة السورية اليتيمة والمستحيلة والمجهضة، التي كانت أعلنت في سنوات 2012 و2013 عما أسمته “ساعة الصفر” لإسقاط النظام، يتكرر في التجربة الفلسطينية الراهنة، وهذا مؤسف، ويفيد بأننا لا نتعلم من تجاربنا أو تجارب غيرنا، فثمة فرق بين الواقع والرغبات، وبين الإمكانات والطموحات.
----------
موقع درج
النقد كفعل مقاومة أيضاً
مشروعية المقاومة، كفعل بشري، لأفراد أو حركات سياسية، كانت شعبية أو عسكرية، سلمية أو مسلحة، لا تعني عدم تفحّص أي خيار سياسي أو كفاحي بطريقة عقلانية ومسؤولة، في الموازنة بين الإمكانات والطموحات، والتبصر بملاءمة المعطيات الذاتية والموضوعية، وفي التناسب بين الكلفة والمردود، بخاصة على صعيد الإنجازات السياسية.
إذ إن أي خيار سياسي أو كفاحي يجب أن يخضع للنقاش والمراجعة والنقد، بناء على التجربة، بعيداً من العواطف والرغبات والتخيلات، علماً أن النقد لا يعني إدانةً ولا اتهاماً، وهذا يصح أكثر على حركة وطنية لها ما يقارب ستة عقود، مع تجربة ثرية ومعقدة، بما فيها من إخفاقات أو نجاحات، ومع افتقادها استراتيجية كفاحية واضحة ويمكن استثمارها.
المسألة الأخرى تتعلق بنزعة إضفاء القداسة، على شكل سياسي، أو على خيار كفاحي معين، فذلك يتناقض مع أبجديات السياسة التي تفترض المشاركة والخضوع للمراجعة، في حين تبدو القداسة كمحاولة مواربة لإخلاء مسؤولية قيادات الحركات السياسية عن طريقتها في إدارة الصراع، وشكل إدارتها الموارد البشرية، وعن الخيارات السياسية والكفاحية التي انتهجتها في لحظة معينة، أو في مسار سياسي معين.
تزداد ضرورة ما تقدم مع علمنا بأن التجربة الوطنية الفلسطينية، المديدة والمريرة وباهظة الثمن، خلت من المراجعات الجدية، إذ لم يحصل مرة أن خضعت الشعارات والخيارات والكيانات السياسية للفحص، وتالياً فإن القيادات الفلسطينية لم تخضع لنقد حقيقي (بعيداً من الشخصنة والاتهامات) في المسائل الأساسية، ولا للمساءلة والمحاسبة، في كل التجارب من الأردن إلى لبنان إلى الأراضي المحتلة، ومن تجربة الكفاح المسلح في الخارج إلى الانتفاضة والكفاح الشعبي في الداخل، ومن شعار تحرير فلسطين، إلى شعار دولة في الضفة والقطاع، مروراً باتفاق أوسلو المجحف، والذي فُرض بعيداً من أي نقاش وأي إطار شرعي، ومن تجربة المنظمة إلى تجربة السلطة.
ما سبق بكامله هو بالضبط سبب جمود وتكلّس السياسة الفلسطينية وتآكلها، والذي يشمل الكيانات والشعارات والعلاقات والخيارات الكفاحية. على ذلك، فإن النقد يصح على كل الكيانات السياسية، لا سيما “فتح” و “حماس”، الحركتان الكبيرتان، السلطتان في الضفة وغزة، من كونهما المتحكمتين بخيارات الشعب الفلسطيني السياسية والكفاحية.
التجربة الفلسطينيّة بين فتح وحماس
لم تبدأ “فتح” مع اتفاق أوسلو (1993)، لذا لا يمكن اختصارها به، أو بكونها سلطة، فهي التي بادرت الى إطلاق خيار الكفاح المسلّح (1965)، واستنهاض الفلسطينيين كشعب، وفي تاريخها سجل نضالي مجيد في مواجهة إسرائيل، من معركة الكرامة في الأردن، إلى لبنان، في كفرشوبا وقلعة الشقيف وحصار بيروت وحرب الصواريخ (1981)، إلى عمليات سافوي ودلال المغربي والدبويا، وصولاً إلى العمليات الفدائية والتفجيرية إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، التي أدت الى فرض الحصار على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مقره في رام الله (منذ أواخر 2001)، ما أدى إلى موته (أواخر 2004).
ولنتذكر أن هذه الحركة قُتل معظم قادتها (أبو عمار، وأبو يوسف النجار، وأبو علي إياد، وعبد الفتاح عيسى حمود، وماجد أبو شرار، وأبو جهاد، وأبو إياد، وأبو الهول)، لكنها خسرت الأردن، ثم لبنان، ثم غزة أيضاً، وباتت سلطة تحت الاحتلال في الضفة، مع ذلك كان ثمة قطاع واسع يهلل لها في كل مرحلة، مع الأخذ بالاعتبار أن فكرة “فتح” عن خيار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين انبثقت من رهان على حاضنة عربية ثبت أنها غير موجودة، بل إن الأنظمة فعلت عكس ذلك.
في المقابل، ظهرت “حماس” من بطن “الإخوان المسلمين”، متأخرة (1987)، عن الانخراط في تيار الكفاح المسلح الذي أطلقته “فتح”، وقد اختطت منذ ذلك الحين، نمط العمليات التفجيرية، ثم الحرب الصاروخية، بعد سيطرتها على غزة (2007)، والمهم أنها استطاعت منافسة “فتح” على مكانة القيادة، وفي تقرير الخيارات الفلسطينية، السياسية والكفاحية. ومثلما أنه لا يمكن اختصار “فتح” باتفاق أوسلو، كذلك لا تُختصر “حماس” باعتبارها حركة إسلامية على حساب كونها حركة وطنية، أو بتغليبها الطابع الديني على السياسي، في مواقفها، على رغم ما يعتري ذلك من تناقضات.
وبالمثل، يفيد أن نذكر هنا أن تلك الحركة لم تقدم نموذجاً أفضل كسلطة، عن ذلك الذي قدمته “فتح” في الضفة، إن في نمط علاقتها مع المجتمع الفلسطيني في غزة، أو إدارتها موارده، إضافة إلى أن إسرائيل فرضت حصاراً على غزة منذ 17 عاماً، كما حوّلتها إلى حقل رماية لصواريخها المدمرة، هذا غير تعمّدها اليوم تدمير أكثر من 60 بالمئة من منشآت غزة، وتهديدها باقتلاع جزء من الفلسطينيين منها، في نكبة جديدة مع الأهوال والمآسي غير المسبوقة التي اختبروها خلال قرابة شهرين، هذا إضافة إلى أن “حماس” بنت فكرتها عن الكفاح المسلح على “وحدة الساحات”، ودعم الأمتين العربية والإسلامية، وهو ما لم يتوافر، ناهيك بمراهنتها على تدخّل “إلهي” أو للملائكة.
هكذا، ففي الحالين، نحن إزاء حركة وطنية منقسمة على ذاتها، في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية، مع ذلك فإن تلك الحركة، على رغم تجربتها الغنية والمديدة والصعبة، لم تتوصل إلى صوغ استراتيجية كفاحية مناسبة، أي لم تتوصل إلى الشكل الأكثر مناسبة، لإمكانات الشعب الفلسطيني وظروفه في أماكن وجوده كافة.
الاستعصاء الفلسطيني في مواجهة حرب إسرائيل
في الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل حالياً ضد فلسطينيي غزة، يفترض أن نلاحظ، وأن ندرك، مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الفلسطينيين من النهر إلى البحر (الضفة وغزة و48)، الذين يقعون تحت هيمنة إسرائيل، لم يستطيعوا صوغ وانتهاج شكل كفاحي معين، فثمة خيار العمل السياسي المدني عند فلسطينيي 48، والمزاوجة بين الكفاح الشعبي والانتفاضة والأعمال الفدائية في الضفة، والحرب الصاروخية (والعملية الهجومية أخيراً) ضد إسرائيل من قطاع غزة؛ يضاف ذلك، أو يفاقم منه، افتقادهم رؤية وطنية جامعة.
المشكلة الأكبر أن الفلسطينيين اليوم، من النهر إلى البحر، غير قادرين على القيام بأي فعل يتناسب مع هول المجازر التي يتعرض لها شعبهم في غزة، ما يطرح على حركتهم الوطنية، وهي حركة عريقة ومجربة، سؤالاً يتعلق باستعصاء صوغ شكل كفاحي يجمع الشعب الفلسطيني عليه، أي استراتيجية كفاحية تتناسب مع استراتيجية سياسية يمكن الاستثمار فيها.
هذا الكلام لا علاقة له بخطأ أو صواب الشكل الكفاحي أو الخيار السياسي الذي انتهجته “فتح” أو “حماس”، فذلك شأن أخر، لكنه يتعلق بتعريف مفهوم المقاومة بكل أشكالها، مدنية وشعبية، فصائلية وعسكرية، والتي يفترض أن تتأسس على قواعد حرب الضعيف ضد القوي، وحرب الشعب طويلة الأمد، والديمومة، ومراعاة قدرته على التحمّل، وتجنيبه ردود فعل قاسية من العدو، وعدم الاستدراج إلى معارك كجيش لجيش، حيث المربع الذي يتفوق به العدو، في صراع متدرج يتم كسبه بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وفق مبدأ أضرب واهرب، ومواجهة نقاط ضعف العدو وتجنّب نقاط قوته.
أيضاً، لعل أهم ما يفترض أن تتميز بها المقاومة، أولاً، مساهمتها في إثارة التناقضات في صفوف العدو، لا العكس. ثانياً، قدرتها على استنزاف مجتمع العدو، وسد الفرص أمامه لاستنزاف شعبها. ثالثاً، القدرة على استثمار للتضحيات والبطولات في إنجازات سياسية.
المعضلة، أن الحركة الوطنية الفلسطينية ظلت بعيدة من تلك القواعد كلها، لافتقادها استراتيجية سياسية وعسكرية مدروسة وناجعة، ومجدية، بحيث بدا الشعب الفلسطيني كأنه يقاتل بعناده، وبإيمانه بقضيته، وباستعداده العالي للتضحية، وفقط، بأقل من الجدوى المتحققة، ومن دون أي سؤال أو مراجعة للقيادات المعنية، في كل المراحل.
عدا عن كل ما تقدّم، على أهميته، فإن الفلسطينيين، في كل مكان، معنيون بإدراك أنهم إزاء عدو يتعامل معهم على أساس نفيهم أو تغييبهم، أو محوهم، إما بالاستسلام لروايته، أو بالقتل أو بالإزاحة والاقتلاع، وأن ما يفاقم مشكلتهم أن عدوّهم يتمتع بفائض قوة من المعطيات الدولية والعربية المواتية له، والتي تتركهم فريسة مكشوفة له، وهذه المعطيات لا تسمح لهم أو لا تمكنهم من تحويل تضحياتهم الباهظة وبطولاتهم الكبيرة إلى مكاسب، فذلك يتطلب معطيات دولية وعربية أخرى، غير متوافرة بعد، في المدى المنظور.
لنلاحظ، مثلاً، أن النظام العربي والدولي لم يسمح بتغيير في لبنان (أواسط السبعينات)، ولا لنظام صدام بأخذ بلد عربي (الكويت)، ولا لروسيا بوتين بأخذ أوكرانيا، وحتى إنه لم يسمح بإسقاط نظام الأسد، أي أن تضحيات الفلسطينيين وبطولاتهم على أهميتها لا تكفي وحدها.
ربما تلك المقدمات لا ترضي رغبات البعض، بيد أن الواقع الفلسطيني أكثر مرارة وأقسى ألماً وأشد هولاً من وصفه أو نقده، كما جرى هنا، علماً أن هذا الرأي قديم، وتكرر مني ومن غيري في مقالات ودراسات، وثمة كتاب خصصته لشرح وجهة النظر تلك، عنوانه: “نقاش السلاح، قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية”، أي أنه ليس حديث اليوم، فقط، مع أهمية ذلك، رغم حساسيته، في ظل الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد شعبنا في غزة.
باختصار، وحتى لا نحمّل الفلسطينيين أكثر من قدرتهم، يفترض أن ندرك، أولاً، أن ثمة فرقاً بين الصمود وبذل التضحيات والبطولات، وبين النصر الذي يحتاج إلى موازين قوى متناسبة، وإلى معطيات خارجية عربية وإقليمية ودولية مواتية. وثانياً، أن مقاومة الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل حقوقه الوطنية ومن أجل الحقيقة والحرية والعدالة، سيستمران مع “فتح” و”حماس” و”الجبهات”، أو من دونها، في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية، بهذا الشكل أو ذاك، وبهذا المستوى أو ذاك.
في الختام، يخشى أن ما حصل في تجربة الثورة السورية اليتيمة والمستحيلة والمجهضة، التي كانت أعلنت في سنوات 2012 و2013 عما أسمته “ساعة الصفر” لإسقاط النظام، يتكرر في التجربة الفلسطينية الراهنة، وهذا مؤسف، ويفيد بأننا لا نتعلم من تجاربنا أو تجارب غيرنا، فثمة فرق بين الواقع والرغبات، وبين الإمكانات والطموحات.
----------
موقع درج