تركيا وإيران، كلاهما يعملان على رسم موقع كل منهما في الترتيبات التي لن تمنح أحدا مالا يقوم بأخذه بنفسه، وفي هذه الترتيبات التي تمثل الحرب على غزة إحدى تجلياتها الكبيرة، تتناقض طموحات وخطوط كل من الدولتين، وتتقاطع أو تتصادم داخل بلداننا العربية، لا سيما في سوريا والعراق، أو في وسط آسيا، لكنهما ظلا يديران كل ذلك بعناية فائقة وببراغماتية ماهرة.
وحتى مع المقاربات المقاربات السياسية المختلفة جوهريا بينهما، إلا أن كل من أنقرة وطهران، تعاملا مع بعضهما بحذر شديد، حتى أن إيران التي تمرست على المقاربات الدموية لتحقيق نفوذها في العراق وسوريا ولبنان ثم اليمن، وكذلك باعتمادها الإرهاب لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، إيران هذه، كثيرا ما كانت تحذر نسبيا حينما يتعلق الامر بتركيا، رغم أنها تبنت من خلال أذرعها في العراق حزب العمال الكردستاني ليكون عنصر ضغط تركيا تستخدمه للحصول على مكاسب تفاوضية، في مقابل الانخراط التركي في دعم أذربيجان، أو تبني المعارضة في سوريا.
في سياق هذا الفهم للعلاقة بين تركيا وإيران يمكن تحليل زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى أنقرة في الرابع والعشرين من يناير الماضي، ومباحثاته مع الرئيس اردوغان، لكن توقيت الزيارة وسياقها، يجعل لها أهمية أكبر من مجرد ترتيب الملفات بين البلدين إلى فك اشتباك الخنادق في حمأة التدافع الراهن، وهو ما قد يترجم بعبارة (تقاسم النفوذ)، وبالخصوص في سوريا، في آلية ربما تبتعد أو تقترب من نتائج اجتماعات آستانا المختلفة، لكنها بدون روسيا هذه المرة، وبالتأكيد بدون نظام بشار.
وبغض النظر عما أعلنه الرئيسان، أو ما صدر عن وفديهما، إلا أن التماس الاستراتيجي بين طهران وأنقرة، كان بحاجة إلى فك ألغامه، وتجاوز نقاط احتقانه وصدامه، قبل مرحلة مقبلة على المنطقة، ربما ستكون معنية بتصفية حسابات وتغيير أدوار وربما خرائط، حتى وإن كانت نذر الحرب الشاملة ليست حتمية، ولا تبدو حتى الآن على الأقل أنها مرغوبة من أي طرف.
من المحتم، أن يكون الرئيسان اتفقا على مقاربة مختلفة حول دعم ايران غير المباشر لحزب العمال الكردستاني الذي تؤويه قوى الحشد الشعبي القريبة من إيران في سنجار، أو أكراد السليمانية المرتبطين بإطلاعات والحرس الثوري، ولذلك، يمكن فهم زيارة رئيس المخابرات التركية إبراهيم قالن إلى العراق قبل زيارة رئيسي لبلاده، على أنها لجمع معلومات وتفاصيل توضع أمام الرئيس أردوغان عند مباحثاته مع نظيره الإيراني.
أما سوريا فهي جوهر جغرافيا التقارب بين البلدين، ليس فقط لأنها الأهم، بل لانها الأكثر تعقيدا وخطورة وزحاما باللاعبين، والأكثر أهمية للطرفين تركيا التي تعتبرها جزءا من أمنها القومي، وإيران التي ما زالت تنظر إلى سوريا على إنها مركز أطماعها الجيوسياسية، ولذلك فهي معنية تماما بالوصول مع أنقرة إلى آلية تتيح لها حماية ظهرها، في حال تطورت الأحداث في المنطقة إلى مواجهات شاملة، ربما تنشط فيها الجبهات الهادئة نسبيا في شمال سوريا، وتجد بعض الفصائل المعارضة فرصة سانحة لضرب الميليشيات المرتبطة بإيران ومن معها من حرس ثوري، بل وقد تتطور الأمور في المنطقة إلى قيام أطراف غربية وربما عربية بدعم هذه الفصائل، مما قد يشكل خطرا يطيح بإيران ويحاصر عمليا في سوريا.
ولكن، حتى لو حصلت إيران على اطمئنان نسبي في شمال سوريا، مقابل تخليها عن خدمات حزب العمال المؤذية لتركيا، إلا أن منطقتنا الضاجة بالمتغيرات السريعة، والمصالح العابرة للخيال ناهيك عن التوقعات، لن تجعل من أي اتفاق قابلا للحياة وسط رمال الشرق الأوسط المتحركة، وخطوط الصدع التي قد تبتلع حتى أمهر اللاعبين، ومنطقة شمال سوريا ليست خارج هذا الوصف.
-------
المدن