ولعلّ استعراضاً سريعاً لمراحل اللجوء وجغرافيته وما رافقه يفيد لاستذكار مجريات الحقبة الأخيرة واستخلاص بعض الأمور المرتبطة بالسائد من مقولات ومزاعم. اللجوء الى الأردن ولبنان ثم الى شمال العراق ومصر فتركيا بدأ النزوح السوري الكبير العام 2012 بعد أن كان مقتصراً في العام 2011 على الناشطين سياسياً وسائر “المطلوبين أمنياً” من قبل النظام لمشاركتهم في فاعليات الثورة الشعبية.
ومردّ التحوّل الى النزوح الكبير المذكور ارتبط ببدء عمليات القصف الجوي وبالصواريخ الباليستية لمناطق في شرق سوريا وفي شمالها ثم في غوطتي عاصمتها وعددٍ من ضواحيها الجنوبية. هذا بالإضافة الى تحوّل التنكيل بأهالي جنوب البلاد، في محافظة درعا، الى سياسة تهجير ممنهج لعدد من البلدات الواقعة على مقربة من الطريق العام الواصل الحدود مع الأردن بدمشق. واتّجه النازحون نحو الأردن ولبنان بخاصة، في حين اقتصر النزوح نحو شمال العراق وتركيا على أعداد محدودة معظم مكوّناتها من سكّان الحدود المشتركة مع البلدين.
وتصاعد النزوح العام 2013، مع تصاعد المعارك، ثم بُعَيد القصف الكيماوي الذي مكّن النظام من إظهار حصانته وحزم دعم حلفائه الروس والإيرانيين له بمعزل عن الخطوط الحمر الموضوعة غربياً التي خرقها. وبرزت مصر كوجهة إضافية للسوريين.
وشكّل العامان 2014 و2015 عامَي النزوح الأشدّ وتيرة، وتحوّلت تركيا الى الوجهة الأولى نتيجة احتدام المعارك في الشمال السوري، لا سيّما حول حلب وفي إدلب وريف حماه بعد بدء التدخّل الروسي دعماً للنظام المتهالك، كما في مناطق الرقة والشمال الشرقي التي شهدت تبدّلات تمثّلت في سيطرة داعش عليها وتدخّل الأميركيين ضدها دعماً للقوى الكردية.
ومع حلول العام 2016، تراجع النزوح كثيراً نحو لبنان والأردن والعراق، بسبب إغلاق الحدود في وجه النازحين أو جعل عبورها شديد الصعوبة. لكنّه بقي حتى أواخر العام 2017 عالي الوتيرة باتجاه تركيا قبل أن تقفل أنقرة بدورها الحدود وتترك بعض المعابر نحو المناطق التي احتلّها جيشها بعد تدخّله العسكري.
أوروبا وبناء جدار متوسّطي بموازاة ذلك، شهدت “حدود” تركيا البحرية والبرية مع أوروبا ابتداء من نهاية العام 2013 وطيلة العامين 2014 و2015 عبور عشرات آلاف السوريين “تهريباً” نحو الجزر اليونانية أو عبر الغابات نحو اليونان وبلغاريا ومنهما نحو وسط القارة.
كما شهد البحر المتوسط موجات عبورٍ من ليبيا نحو مالطا والجزر الإيطالية الجنوبية كان للسوريين فيها نصيب. واستمرّ الأمر حتى العام 2016 واتفاق أنقرة والاتحاد الأوروبي على إقفال الممرّات مقابل دعم اقتصادي لتركيا نتيجة ازدياد الديموغرافيا اللاجئة فيها من جهة، واتفاق الاتحاد الأوروبي مع سلطات الأمر الواقع الليبي على ضبط “الهجرة غير الشرعية” من أراضيها من جهة ثانية.
ونجم عن كلّ ذلك وصول عشرات آلاف النازحين السوريين الى القارة الأوروبية وغرق المئات منهم (مع آلاف آخرين معظمهم من دول أفريقية) في البحر، وإقامة مخيمات لهم في اليونان وإيطاليا بانتظار قبول لجوئهم في دول أُخرى. في المقابل، قرّرت ألمانيا والسويد فتح أبوابهما خلال عامين للاجئين، فوصل مئات الألوف الى أراضيهما قادمين بمعظمهم من دول الجوار السوري.
الديموغرافيا اليوم وانعدام القدرة على الحركة على أن كل ذلك، إن في دول الجوار أو في أوروبا، رافقته توتّرات سياسية وحملات كراهية (كما أنشطة تضامن) جعلت اللاجئين مع الوقت رهائن لظروف مختلفة.
ففي دول الجوار، سجّلت المفوضية العليا للاجئين في صيف العام 2022 وجود 3,6 ملايين لاجئ في تركيا، و831 ألفاً في لبنان، و676 ألفاً في الأردن و265 ألفاً في العراق و143 ألفاً في مصر و40 ألفاً في تونس والجزائر والمغرب. وهؤلاء بأكثريّتهم الساحقة يستحيل عليهم الرجوع الى سوريا في المستقبل القريب، إما لخراب عمرانهم، أو لمخاطر تعرّضهم للاعتقال والتنكيل. ويستحيل عليهم التوجّه الى بلدانٍ أُخرى لانعدام فرص حصولهم على تأشيرات دخول.
وهم بالتالي عالقون في بلدان لجوئهم، رغم تعرّضهم في لبنان لمضايقات وضغوط واعتداءات من قبل بلديات وقوى حزبية ولتهديدات بالترحيل من قبل جهات حكومية، ورغم تحوّل الدعم الرسمي التركي لهم حتى العام 2018 الى دعوات لرحيلهم ترافق اعتداءات منظّمة عليهم في مدن عديدة في البلاد. وإذا كانت الهواجس الطائفية والديموغرافية مضافة الى مزاعم السياسيين الاقتصادية والأمنية في لبنان تتسبّب بالحملات ضدّهم أو تغطّيها، فإن المسألة في تركيا إنتخابية وعلى صلة مباشرة بالتبدّلات في التموضع الإقليمي التركي وبتراجع قيمة العملة التركية وارتفاع نسب البطالة لأسباب ليس للاجئين فيها الأثر الأبرز.
أما في الأردن، حيث يقيم قسم كبير من اللاجئين في مخيّمات تحدّ السلطات من حقوق خروج من فيها نحو مدن البلاد، فتوظيف المسألة سياسياً أقل حدّة منه في لبنان وتركيا، رغم إثارته بين الحين والآخر في معرض الدعوات الى التطبيع مع دمشق وإعادة اللاجئين إليها.
وكذلك في العراق ومصر والشمال الأفريقي، حيث لا ثقل ديموغرافياً يمكن تحميله مسؤوليات تعثّر أو تراجع أحوال إقتصادية ومعيشية.
وعلى الصعيد الأوروبي، تُقدّر مفوضيّة اللاجئين عدد السوريين اليوم بمليون ومئة ألف لاجئ، 55 في المئة منهم في ألمانيا. تلي ألمانيا من حيث نسبة الاستقبال السويد، بنسبة 17 في المئة، في حين يتوزّع الباقون على اليونان وإيطاليا والنمسا وهولندا والنروج وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وغيرها من دول الاتحاد بنسب قليلة.
ورغم تعرّض هؤلاء لحملات كراهية وربط لوفودهم بتصاعد “الإرهاب”، خاصة بعد عمليات اغتيال واعتداءات وهجمات إجرامية استهدفت مدنيين في فرنسا وألمانيا والنمسا وقتلت العشرات بين العامين 2014 و2020، ورغم تقدّم اليمين المتطرّف الذي عدّ وفودهم اجتياحاً وطالب بترحيلهم الى سوريا (التي يؤيّد نظامها وعرّابه الروسي)، فإن حمايتهم القانونية بحُكم منحِهم صفة “اللجوء” تبقى قائمة وليس من السهل على أي سلطة الاستنساب تجاهها.
يرتبط الأمر بتوقيع الدول الأوروبية جميعها على اتفاقية جنيف للعام 1951 حول اللجوء وحقوق اللاجئين، ويرتبط أيضاً بالقوانين الوطنية والأوروبية حول مسألة حماية المضطهدين سياسياً والمهدّدين، ويرتبط أخيراً باعتبارات اقتصادية لحاجة العديد من المجتمعات ليد عاملة مؤهّلة أو غير مؤهّلة في قطاعات ومجالات لم تعد عالية الجاذبية للمواطنين المُقيمين.
لكن المسائل القانونية الحامية للاجئين أوروبياً لا تعني أن تصاعد العنصرية واستضافة وسائل الإعلام المرئية لمحرّضين ضدّ “الأجانب” ليست بلا نتائج سياسية.
ذلك أن تحرّر “الإسلاموفوبيا” من كل ضوابط بلاغية، وتحوّل الخطاب اليميني المتطرّف الى خطاب يصل مرشّحوه في الكثير من الدول الى أدوار متقدمة في المواجهات الانتخابية، والأمران على ارتباط وثيق بوصول اللاجئين السوريين (والعراقيين والأفغان) الى أوروبا، ينبئان بمستقبل قد تتصاعد فيه التوتّرات والكراهية والتنافس على إبراز التطرّف لكسب ناخبين انفلتت عنصريّتهم بعد أن كان تجريمها يحول دون التعبير الفجّ عنها قولاً أو ممارسة.
ترحيل اللاجئين كجريمة بالعودة الى دول الجوار التي تجاهر حكومتان على الأقل فيها بعزمهما على إعادة اللاجئين الى سوريا، تركيا الى المدن الكبرى أو الى المناطق الشمالية التي يسيطر عليها جيشها، ولبنان الى أي مكان خارج حدوده، يفيد التذكير أن أياً من هذه الدول لم يوقّع على اتفاقية جنيف للاجئين، وأن الصفة القانونية للّجوء غير قائمة فيها.
غير أن ذلك لا يعني أن لا مواد في القانون الدولي يمكن الركون إليها لمواجهة الكلام عن “إعادة” أو عن تهجير بالقوة. فترحيل أناس الى بلاد قد يتعرّضون لخطر الموت أو الاعتقال والتعذيب أو الإخفاء القسري فيها ينافي مجموعة اتفاقات ومعاهدات دولية. والتطبيع العربي مع النظام السوري الذي يتذرّع به لبنان دونه عقبات، خاصة في ظلّ العقوبات الأوروبية والأميركية. والنظام في دمشق غير مهتمّ أصلاً بإعادة اللاجئين الى سوريا، وهو الذي هجّرهم عمداً لأهداف ديموغرافية طائفية وطبقية يُعيد من خلالها تشكيل النسيج الاجتماعي السوري وتغيير ملكية أراضٍ كي تأتي عملية إعادة الإعمار يوماً تكريساً لهذا التغيير.
وإن كان سيقبل بعودة بعضهم، فهو يريد مقابل ذلك “مساعدات” اقتصادية واستئناف علاقات دبلوماسية. وهذه جميعها لا تبدو أولوية غربية اليوم، بما يجعل بعض الحكومات العربية متردّدة ويلجم التوعّد اللبناني. أما تركيا، فمسألة التطبيع عندها مرتبطة بمسار آستانة مع روسيا وإيران، وهي تستطيع نقل بعض اللاجئين الى أراضي الشمال السوري التي تسيطر عليها، من دون أن يكون بمقدورها فرض ما تريد في باقي الأنحاء السورية.
لكلّ ما ذُكر، تبدو أحوال اللاجئين السوريين عامة مقبلة على مرحلة ركود ووقف وفود في أوروبا (لأسباب سياسية داخلية في كل بلد ونتيجة أزمة اللجوء الأوكراني المستجدة)، مقابل استمرار في التدهور في أكثر دول الجوار، لا سيّما في تركيا ولبنان، حيث تراجع الاقتصاد أو انهياره وحيث المزايدة إلقاءً للملامة على اللاجئين ودعوةً لطردهم ستُبقيهم رهائن الى أجل غير مسمّى…
موقع ميغافون