يستشهد فوعاني بخطاب لبوتين يقرر فيه أن «دولا يورو أطلسية سارت على طريق التخلي عن جذورها، بما في ذلك عن القيم المسيحية، التي تشكل أساس الحضارة الغربية». تنكر تلك الدول، حسب بوتين «المبادئ الأخلاقية وأي هوية تقليدية: قومية، ثقافية، دينية، بل وجنسية، وتنتهج سياسة تضع على مستوى واحد العائلة المتعددة الأطفال وشراكة مثليي الجنس، الإيمان بالله والإيمان بالشيطان» وهو «طريق مباشر إلى الانحلال».
حين وضع ضابط المخابرات صليبه في إسرائيل!
تزايدت، في الآونة الأخيرة، القراءات لهذا «الجانب الديني» في شخصية الرئيس الروسي. حسب هذه المعلومات المتداولة فقد أخفى بوتين، الذي هو شخص مؤمن، صليبه الذي أهدته إياه أمه بعد تعميده سرا وهو رضيع، حين كان ضابطا في المخابرات، لكنه أظهره «عندما زار إسرائيل عام 1993». يؤكد بوتين هذه الواقعة في تصريح له يقول: «وضعت قلادة الصليب حول عنقي، ولم أخلعها منذ ذلك الوقت». استخدام هذه القصة لإظهار «العنصر الديني» في بوتين له حدّان متناقضان، فهو يمكن أن يقرأ على أنه كشف لأحد الجوانب المهمة في تشكيل شخصية الرئيس الروسي، وعلاقة ذلك بمواقفه السياسية اللاحقة، كما يمكن أن يُقرأ كإدراك من بوتين لأهمية استخدام هذا الجانب لتوطيد سلطاته السياسية. وبناء على التفسير الأخير، الذي اقترحه، فإن بوتين استخدم الكتاب المنشور عنه ليتلاعب بالصحافيين المذكورين، وليسوّد خطوط رسالة صار واثقا من فوائدها الكبرى، بعد أن تحول من ضابط مخابرات إلى زعيم.
تماهى بوتين فعلا مع الصورة المطلوبة، وصار انتقاد «الفسق» و»الفن الإباحي» و»حركات تحرير المرأة» و»الاستعاضة عن القيم المسيحية بقيم هوليوود» كما يشير في خطاب له عام 1995، يمشي يدا بيد، مع صعوده كزعيم سياسي مطلق، وتبنيّه لأيديولوجية قومية متطرفة، ونزعة عسكرية توسعية، ودفاعه عن النظم الديكتاتورية، ودعمه لحركات اليمين المتطرّف في العالم، واغتياله لمعارضيه في الداخل والخارج.
مطران الصواريخ: ما لله لقيصر!
لا يسعى بوتين لإنكار الرابطة التراتبية لعلاقة السلطة بالدين، لكن العلاقة يمكن تلخيصها بعكس العبارة المسيحية الشهيرة، حيث الله، في هذه العلاقة، هو في خدمة القيصر، ولا يمكن، بالتالي، ترك «ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
لا يترك بوتين العلاقة الاستخدامية للدين في توطيد سياساته الغامضة، فإحدى الحجج التي استخدمها عام 2014 للدفاع عن قراره ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا بالقول إن «القرم هو المكان الذي تعمّد فيه الأمير القديس فلاديمير قبل أن يعمّد الروس كلهم بعد ذلك».
تشير مجلة «إيكونوميست» في مقال نشر مؤخرا إلى فسيفساء في كاتدرائية القوات المسلحة في موسكو، تظهر ملائكة معجبة بالجنود الذين قتلوا في معارك جورجيا وجزيرة القرم وروسيا، ويقود مطران الكاتدرائية، «قسم التعاون مع الجيش في الكنيسة» وكان قبل تقلده ضابطا في سلاح الدفاع الصاروخي. لا ينفك رجال الدين الروس عن تأكيد العلاقة بين الدين والقوة المسلحة، وإذا كانت تبعية رجال الدين لقرارات السلطة السياسية أمرا واضحا، لكنّ هذا لا يعني أن ظهور كبار القساوسة، وهم يباركون الأسلحة الحربية والطائرات المقاتلة، خصوصا التي كانت تذهب إلى سوريا، هو أمر خارج عن إرادتهم، أو عن فهمهم لوظيفتهم ضمن الهرمية السلطوية.
تبدو المواضيع الجنسية مجالا خصبا لتأويل هذه الرابطة بين السلطة البوتينية (التي يمكن اعتبار الأسلحة النووية والكيميائية والصواريخ فرط الصوتية من رموزها الفرويدية الأثيرة) والقداسة المسلحة التي يمثلها ضابط الصواريخ الذي صار مطران كاتدرائية. لا تصبح الكنيسة، كما تقول المجلة، «أداة للأمن الداخلي» فحسب، فالسياسة والقداسة هنا، قابلتان دائما لصرف المفاهيم السياسية إلى دينية، والجنسية إلى سياسية، بسهولة عظيمة، ومن ذلك أن البطريرك كيريل، رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، اعتبر أن الحرب في أوكرانيا اندلعت جزئيا «لأن سكان دونباس لا يريدون أن تُفرض عليهم مواكب الفخر للمثليين». التقط سلافوي جيجك، هذه المقاربة الجنسية بذكاء، حين استخدم تصريحين لبوتين، يفسّر الأول بأن أوكرانيا امرأة ميتة، لا يحق لها أن تشتكي من اغتصابها، ويهدد الثاني، بصراحة، «المتطرفين الإسلاميين» بإخصائهم.
روسيا تدافع عن «الإسلام الحقيقي»!
ضمن هذه التبادلات بين السياسة والقداسة يصبح بوتين، حسب تصريح البطريرك كيريل «معجزة من الله» وأن خصوم روسيا هم «قوى الشر» أما بوتين، فاعتبر انشقاق الكنيسة الأوكرانية، عام 2014، شبيها بالانشقاق العظيم الذي حدث عام 1054 وأدى لانقسام المسيحية إلى غربية وشرقية، وهدد، وقتها، بأن ذلك سيؤدي لإراقة الدماء. أثبت زواج السلطة بالكنيسة نجاعته، ليس في روسيا وحدها، بل في أرجاء العالم الأرثوذكسي، فقام كبار رجال الدين في مولدوفا الموالين للكنيسة الروسية، بحملة لرفض اندماج بلادهم مع الغرب، كما قاد نظراؤهم في جمهورية الجبل الأسود جهودا مماثلة لعرقلة خطط البلاد للانضمام إلى الناتو.
يشير فوعاني إلى أن روسيا بوتين لا تؤمن بالمبادئ الأخلاقية والقيم المسيحية وحسب، بل «تحترم» التقاليد الإسلامية أيضا، ويعطي أمثلة على هذا الاحترام، مثل مشاركة بوتين في مراسم افتتاح مسجد موسكو الجامع وإطلاقه تصريحا حينها بأن «الإسلام دين عالمي عظيم» ويستشهد بالرئيس الشيشاني رمضان قديروف، الذي قال إن روسيا «تدافع في سوريا عن الإسلام الحقيقي».
تقدّم أمثلة فوعاني (وهو كاتب رأي في صحيفة تابعة لـ»حزب الله» اللبناني) المستخدمة في تأكيد احترام بوتين للإسلام والمسيحية أنموذجا في العطالة الأخلاقية والاستغباء التاريخي، فهي تتجاهل بشكل مقصود الكوارث الهائلة التي ألحقها بوتين بمسلمي غروزني وحلب والقرم، كما تتجاهل أثر كارثة زواج السلطة السياسية بالدين على المجتمع الروسي نفسه، من تبرير الطغيان بالدين، إلى مناهضة حقوق المرأة والأقليات.
يتجاهل «احترام» بوتين للمسيحية والإسلام، أيضا، الآثار على الشعوب التي يخيّم على سماواتها القديس فرط الصوتي، سواء عبر القاذفات والصواريخ والأسلحة الكيميائية، أو عبر آلة عبادة الديكتاتور الدينية، التي يعرف العرب والمسلمون، أكثر من غيرهم، تناقضاتها البائسة.
-----------
القدس العربي