نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


الفرات العنيد.. يوم رفض النهر تغيير مجراه بيد حافظ الأسد






يومها، قبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز/يوليو عام 1973، كان نهر الفرات لم يزل على طبيعته. طبيعيّاً حرّاً طليقاً على سجيته وفطرته منذ كان، لم تتدخل به بعد أيادي خلفاء الله في الأرض، الذين أوصلهم تطورهم العقلي، وقدراتهم على الخلق والتغيير في الأرض والكوكب وفضاءاته، إلى درجات عالية من تغيير الطبائع والطبيعة. كانوا قد أعدّوا العدة لذلك، وفي أكثر من مكان على طول مجراه الهادر لحوالي (2000 كم) في ثلاث دول (تركيا وسوريا والعراق).


كان نهر الفرات الطبيعي عنيداً جباراً مخيفاً، وحين تركبه موجات الجنون ويفيض منتصف الربيع، مع ذوبان الثلوج في مرتفعات منابعه التي لا يمكن تصورها، بامتلاء أودية سحيقة بالثلوج، وسط جبال عالية الارتفاع، إلا لمن يراها طائراً فوقها، ليعرف بعضاً من تكوينات الأنهار الكبرى، كان في جنون فيضانه لا يبقي ولا يذر، ويتحول ككثير من الكائنات الحية في مراحل تخصيبها إلى وحش فتاك، وطاغية، لا يكتفي مثل كل متوحش بإشباع غريزته الجوعى على قدر حجمه، بل يهدر بأصوات مرعبة مثل أعتى الوحوش، ويزيدها بفيض لا كزبدٍ يخرج من أشداق فحسب، بل بتيارات جارفة لا تبالي بما جرفت وكأن الماء الرقيق والرقراق يحاول أن يقول حتى للصخر إنه أقوى، ويقول للوحش إنه أفتك، وإن بعضه فقط أو مئات أمتار من طوله وعرضه وعمقه، تغدو أكبر من آلاف الوحوش والضواري، حجماً وفتكاً إن غضب وثار، وحينها بفورات جنونه وعربداته لا يستثني من توحشه زرعاً ولا ضرعاً، ولا إنساناً من مجاوري شطآنه ممن كانوا وديعين في تعاطيهم مع جبروته حين يرق ويعطي الأمان والحياة، الحياة التي من مائه مبعثها، لكن فيها كل مخاطر الموت إغراقاً. ذلك ما كانه الفرات النهر وإن كان يومها، لا الآن، ليس في قوائم عشرينية لأشد أنهار العالم غزارة، لكنه في منطقته أول، وعلى امتداد الساحة العربية والشرق أوسطية، ومحيطهما، هو الثاني بعد النيل واهب الحياة.

تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة

التفكير بإنشاء سد على نهر الفرات في سوريا بدأ بعد الاستقلال خلال المرحلة الثانية لرئاسة شكري، وحكومة خالد العظم أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، وتم اختيار موقع ناحية (الطبقة) ليكون مكاناً لجسم السد وعنفاته، كونه المكان الأنسب نتيجة تضاريسه القادرة على احتواء بحيرة أكبر وأعمق ستتشكل خلفه لتتم الإفادة منها في استصلاح أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي وتأمين المياه اللازمة لها بانتظام على مدار العام، ومن ثم توليد طاقة كهربائية من تدفق مياه البحيرة المرتفعة إلى المنسوب المنخفض عبر ثماني عنفات تولد ما يفيض عن حاجة سوريا للكهرباء وتصدير الطاقة إلى لبنان والأردن. تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة (لم تكن قد أحدثت محافظة)، وقد تسنى لنا الاطلاع على بعض تلك الخرائط المحفوظة في أرشيف السد التي لم تترك شاردة أو واردة إلا ولحظتها عن مناسيب الارتفاعات عن التلال والمنخفضات ونقاط الغمر والبروز وطبيعة التربة في كل بقعة، بل ولحظت أماكن تموضع كل بئر أو (جب) واسم صاحبه.

توقف المشروع على الرغم من الاتفاقات الموقعة خلال مرحلة الوحدة مع مصر (1958 - 1961) حيث تركزت كل جهود حكومة الوحدة على مشروع السد العالي في مصر بقضيته الشهيرة والبحث عن تمويل له انتهى إلى قيام اتفاق مع الاتحاد السوفييتي لتمويله بقروض ميسرة والإشراف على تنفيذه. بعد الانفصال عاد ملف مشروع سد الفرات إلى التفعيل مع الحكومة الألمانية بموجب الاتفاق السابق، ودخلت فرنسا شريكة في المشروع بنسبة أقل، لكن التغيير السياسي بوصول البعث إلى السلطة نسف الاتفاقات السابقة وحذا حذو مصر بالاعتماد على الاتحاد السوفييتي ليبدأ التنفيذ العملي مطلع العام (1968) بمئات الخبرات السوفييتية وقليل من دول أخرى، حيث شهدت المنطقة تحولاً جذرياً في مختلف مناحي الحياة لتغدو من أكثر المناطق حيوية عبر استقدام آلاف من العمال والخبرات الوطنية في جميع الاختصاصات للعمل في أكبر مشروع في تاريخ سوريا منذ إحداثها دولة، بل وقبل ذلك بقرون، ولتنشأ مدينة عمالية جديدة استوعبت عشرات الآلاف من العاملين وأسرهم من مختلف المنابت في كل الجغرافية السورية وحواضرها، ولتكون تجربة اجتماعية واقتصادية وحياتية جديدة غنية بالتفاصيل وجديرة بالبحث الذي ما زال قاصراً على الرغم من أثر له، وبعض الأعمال الأدبية والفنية التي حاولت الإضاءة على بعض جوانب التجربة وآثارها المتعددة.

تسلم الأسد السلطة نهاية العام (1970) عبر انقلابه على آخر قادته في (اللجنة العسكرية) فيما أسماه بالحركة التصحيحية ليتفرد بحكم دكتاتوري. وفيما كانت ملامح السد باتت واضحة المعالم خلال سنتين مضتا من عمل دؤوب متصل ليلاً ونهاراً على مدار الساعة وعبر ورديات ثلاث متناوبة، وفيما كانت مباني المدينة الجديدة قد باتت جاهزة وتم الإسكان فيها، عمل حافظ الأسد على محو كل أثر لسابقيه في الإنجاز، بل وتمت إزالة اللوائح الرخامية التي توثق التاريخ لكل مرحلة كونها تتضمن أسماء رئيس أو رئيس وزراء سابق قام بوضع ما يعرف بـ (حجر الأساس) في محاولة من الأسد لسرقة كل إنجاز سابق لعهده ونسبته إليه، غير عابئ بالذاكرة الحية لشهود المراحل.

ما حاول الأسد فعله بدكتاتوريته، وإن نجح في فرضه ترهيباً من خلال منظومته الأمنية على مواطني بلد اغتصب حكمه، جاء الرد مصادفة عليه عبر قوى الطبيعة، ومن أكبر في تلك المنطقة من قوة الفرات العنيد.

الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد

يومها، وقبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز 1973، كان الاحتفال قد أعد بعد تحضيرات لأشهر لمجيء حافظ الأسد، وقيامه بتدشين أهم مرحلة مفصلية في المشروع والمتمثلة بتغيير مجرى النهر من مساره الطبيعي إلى مسار جديد مجاور باتجاه بوابات السد لتبدأ مرحلة تشكل البحيرة باحتجاز ماء النهر ريثما يبلغ الارتفاع منسوباً أعلى بستين متراً ويصير قادراً على توليد الكهرباء بإسقاط شلالات الماء على العنفات. أشيدت قبل أشهر منصة مسقوفة في الهواء الطلق، بمدرج يتسع لآلاف، ذات إطلالة مميزة على جسم السد وبحيرته ومحطته الكهربائية (ما زالت موجودة) وتم تجهيز حجر الأساس المنقوش على رخامه اسم حافظ الأسد، ووضِعت لوحة التحكم بجهاز التفجير في زاوية مكشوفة ليقوم الأسد أمام الحشود وأجهزة التصوير بالضغط على (زر التفجير) في لحظة تحول تاريخي. لكن الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد، فيما النهر يمضي في مساره الطبيعي غير عابئ بغضبة الأسد ولا ذهول من أعدّوا حفل التدشين.

يومها تمت إذاعة خبر قيام الأسد بتحويل مجرى النهر عبر وسائل إعلامه، لكن الصور، والتلفزيونية منها على وجه الخصوص والتوثيق على أشرطة سينمائية، لم يتم إلا بعد يومين وبعد جهود مضنية ومكثفة للعاملين والمهندسين والخبراء باستخدام الجرافات وآليات الحفر والنقل لفتح الثغرة وتحويل المجرى، وتصويرها ثم إعادة (المونتاج) وكأنها حصلت بحضور الأسد، في تزييف لوثيقة تحويل مجرى نهر الفرات بحضور حافظ الأسد. لكن الحقيقة التي شهدها آلاف، وبقيت لسنين تروى همزاً ولمزاً، أن الفرات العنيد رفض تحويل مجراه على يد حافظ الأسد الذي أراد نسبة أضخم مشروع في تاريخ سوريا لنفسه، ولم يستجب النهر إلا للأيادي التي عملت فيه سنيناً.
------------
تلفزيون  سوريا

الفرات العنيد.. يوم رفض النهر تغيير مجراه بيد حافظ الأسد

2023.07.05 | 17:52 دمشق  
الفرات العنيد.. يوم رفض النهر تغيير مجراه بيد حافظ الأسد
 
+A
حجم الخط
-A
 

يومها، قبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز/يوليو عام 1973، كان نهر الفرات لم يزل على طبيعته. طبيعيّاً حرّاً طليقاً على سجيته وفطرته منذ كان، لم تتدخل به بعد أيادي خلفاء الله في الأرض، الذين أوصلهم تطورهم العقلي، وقدراتهم على الخلق والتغيير في الأرض والكوكب وفضاءاته، إلى درجات عالية من تغيير الطبائع والطبيعة. كانوا قد أعدّوا العدة لذلك، وفي أكثر من مكان على طول مجراه الهادر لحوالي (2000 كم) في ثلاث دول (تركيا وسوريا والعراق).

كان نهر الفرات الطبيعي عنيداً جباراً مخيفاً، وحين تركبه موجات الجنون ويفيض منتصف الربيع، مع ذوبان الثلوج في مرتفعات منابعه التي لا يمكن تصورها، بامتلاء أودية سحيقة بالثلوج، وسط جبال عالية الارتفاع، إلا لمن يراها طائراً فوقها، ليعرف بعضاً من تكوينات الأنهار الكبرى، كان في جنون فيضانه لا يبقي ولا يذر، ويتحول ككثير من الكائنات الحية في مراحل تخصيبها إلى وحش فتاك، وطاغية، لا يكتفي مثل كل متوحش بإشباع غريزته الجوعى على قدر حجمه، بل يهدر بأصوات مرعبة مثل أعتى الوحوش، ويزيدها بفيض لا كزبدٍ يخرج من أشداق فحسب، بل بتيارات جارفة لا تبالي بما جرفت وكأن الماء الرقيق والرقراق يحاول أن يقول حتى للصخر إنه أقوى، ويقول للوحش إنه أفتك، وإن بعضه فقط أو مئات أمتار من طوله وعرضه وعمقه، تغدو أكبر من آلاف الوحوش والضواري، حجماً وفتكاً إن غضب وثار، وحينها بفورات جنونه وعربداته لا يستثني من توحشه زرعاً ولا ضرعاً، ولا إنساناً من مجاوري شطآنه ممن كانوا وديعين في تعاطيهم مع جبروته حين يرق ويعطي الأمان والحياة، الحياة التي من مائه مبعثها، لكن فيها كل مخاطر الموت إغراقاً. ذلك ما كانه الفرات النهر وإن كان يومها، لا الآن، ليس في قوائم عشرينية لأشد أنهار العالم غزارة، لكنه في منطقته أول، وعلى امتداد الساحة العربية والشرق أوسطية، ومحيطهما، هو الثاني بعد النيل واهب الحياة.

تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة

التفكير بإنشاء سد على نهر الفرات في سوريا بدأ بعد الاستقلال خلال المرحلة الثانية لرئاسة شكري، وحكومة خالد العظم أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، وتم اختيار موقع ناحية (الطبقة) ليكون مكاناً لجسم السد وعنفاته، كونه المكان الأنسب نتيجة تضاريسه القادرة على احتواء بحيرة أكبر وأعمق ستتشكل خلفه لتتم الإفادة منها في استصلاح أكثر من نصف مليون هكتار من الأراضي وتأمين المياه اللازمة لها بانتظام على مدار العام، ومن ثم توليد طاقة كهربائية من تدفق مياه البحيرة المرتفعة إلى المنسوب المنخفض عبر ثماني عنفات تولد ما يفيض عن حاجة سوريا للكهرباء وتصدير الطاقة إلى لبنان والأردن. تم اعتماد شركات ألمانية (غربية حينها) باتفاق مع الحكومة الألمانية وبدأت أعمال الدراسات الميدانية والمسح الطبوغرافي والسبر الجيولوجي لكل المنطقة من نقطة دخول الفرات إلى سوريا عند مدينة جرابلس وحتى مدينة الرقة (لم تكن قد أحدثت محافظة)، وقد تسنى لنا الاطلاع على بعض تلك الخرائط المحفوظة في أرشيف السد التي لم تترك شاردة أو واردة إلا ولحظتها عن مناسيب الارتفاعات عن التلال والمنخفضات ونقاط الغمر والبروز وطبيعة التربة في كل بقعة، بل ولحظت أماكن تموضع كل بئر أو (جب) واسم صاحبه.

توقف المشروع على الرغم من الاتفاقات الموقعة خلال مرحلة الوحدة مع مصر (1958 - 1961) حيث تركزت كل جهود حكومة الوحدة على مشروع السد العالي في مصر بقضيته الشهيرة والبحث عن تمويل له انتهى إلى قيام اتفاق مع الاتحاد السوفييتي لتمويله بقروض ميسرة والإشراف على تنفيذه. بعد الانفصال عاد ملف مشروع سد الفرات إلى التفعيل مع الحكومة الألمانية بموجب الاتفاق السابق، ودخلت فرنسا شريكة في المشروع بنسبة أقل، لكن التغيير السياسي بوصول البعث إلى السلطة نسف الاتفاقات السابقة وحذا حذو مصر بالاعتماد على الاتحاد السوفييتي ليبدأ التنفيذ العملي مطلع العام (1968) بمئات الخبرات السوفييتية وقليل من دول أخرى، حيث شهدت المنطقة تحولاً جذرياً في مختلف مناحي الحياة لتغدو من أكثر المناطق حيوية عبر استقدام آلاف من العمال والخبرات الوطنية في جميع الاختصاصات للعمل في أكبر مشروع في تاريخ سوريا منذ إحداثها دولة، بل وقبل ذلك بقرون، ولتنشأ مدينة عمالية جديدة استوعبت عشرات الآلاف من العاملين وأسرهم من مختلف المنابت في كل الجغرافية السورية وحواضرها، ولتكون تجربة اجتماعية واقتصادية وحياتية جديدة غنية بالتفاصيل وجديرة بالبحث الذي ما زال قاصراً على الرغم من أثر له، وبعض الأعمال الأدبية والفنية التي حاولت الإضاءة على بعض جوانب التجربة وآثارها المتعددة.

تسلم الأسد السلطة نهاية العام (1970) عبر انقلابه على آخر قادته في (اللجنة العسكرية) فيما أسماه بالحركة التصحيحية ليتفرد بحكم دكتاتوري. وفيما كانت ملامح السد باتت واضحة المعالم خلال سنتين مضتا من عمل دؤوب متصل ليلاً ونهاراً على مدار الساعة وعبر ورديات ثلاث متناوبة، وفيما كانت مباني المدينة الجديدة قد باتت جاهزة وتم الإسكان فيها، عمل حافظ الأسد على محو كل أثر لسابقيه في الإنجاز، بل وتمت إزالة اللوائح الرخامية التي توثق التاريخ لكل مرحلة كونها تتضمن أسماء رئيس أو رئيس وزراء سابق قام بوضع ما يعرف بـ (حجر الأساس) في محاولة من الأسد لسرقة كل إنجاز سابق لعهده ونسبته إليه، غير عابئ بالذاكرة الحية لشهود المراحل.

ما حاول الأسد فعله بدكتاتوريته، وإن نجح في فرضه ترهيباً من خلال منظومته الأمنية على مواطني بلد اغتصب حكمه، جاء الرد مصادفة عليه عبر قوى الطبيعة، ومن أكبر في تلك المنطقة من قوة الفرات العنيد.

الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد

يومها، وقبل خمسين عاماً بالتمام، في الخامس من تموز 1973، كان الاحتفال قد أعد بعد تحضيرات لأشهر لمجيء حافظ الأسد، وقيامه بتدشين أهم مرحلة مفصلية في المشروع والمتمثلة بتغيير مجرى النهر من مساره الطبيعي إلى مسار جديد مجاور باتجاه بوابات السد لتبدأ مرحلة تشكل البحيرة باحتجاز ماء النهر ريثما يبلغ الارتفاع منسوباً أعلى بستين متراً ويصير قادراً على توليد الكهرباء بإسقاط شلالات الماء على العنفات. أشيدت قبل أشهر منصة مسقوفة في الهواء الطلق، بمدرج يتسع لآلاف، ذات إطلالة مميزة على جسم السد وبحيرته ومحطته الكهربائية (ما زالت موجودة) وتم تجهيز حجر الأساس المنقوش على رخامه اسم حافظ الأسد، ووضِعت لوحة التحكم بجهاز التفجير في زاوية مكشوفة ليقوم الأسد أمام الحشود وأجهزة التصوير بالضغط على (زر التفجير) في لحظة تحول تاريخي. لكن الذي حدث حينها أن كل المتفجرات المهولة لم تفعل سوى أن رفعت آلاف الأطنان من التراب في الهواء لتعود بعد لحظات مكانها دون أن تفتح ثغرة باتجاه المجرى الجديد، فيما النهر يمضي في مساره الطبيعي غير عابئ بغضبة الأسد ولا ذهول من أعدّوا حفل التدشين.

يومها تمت إذاعة خبر قيام الأسد بتحويل مجرى النهر عبر وسائل إعلامه، لكن الصور، والتلفزيونية منها على وجه الخصوص والتوثيق على أشرطة سينمائية، لم يتم إلا بعد يومين وبعد جهود مضنية ومكثفة للعاملين والمهندسين والخبراء باستخدام الجرافات وآليات الحفر والنقل لفتح الثغرة وتحويل المجرى، وتصويرها ثم إعادة (المونتاج) وكأنها حصلت بحضور الأسد، في تزييف لوثيقة تحويل مجرى نهر الفرات بحضور حافظ الأسد. لكن الحقيقة التي شهدها آلاف، وبقيت لسنين تروى همزاً ولمزاً، أن الفرات العنيد رفض تحويل مجراه على يد حافظ الأسد الذي أراد نسبة أضخم مشروع في تاريخ سوريا لنفسه، ولم يستجب النهر إلا للأيادي التي عملت فيه سنيناً.

الهوية السورية بين عاصمتين.. و”أخ أكبر” زيدون الزعبي 13/02/2024 لم يظهر اسم سوريا بوصفها كياناً سياسياً/إدارياً حتى فترة التنظيمات العثمانيّة، وتحديداً عام 1865 حين بدّلت السلطنة العثمانية اسم "ولاية الشام"، إلى "ولاية سوريا". قبلها بقرون طويلة، كانت هناك ولاية باسم “ولاية سوريا” ضمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن تبدأ في التلاشي أواخر القرن الثاني الميلادي. ضمّت “ولاية سوريا” العثمانية الأجزاء الأكبر من حماة وحمص شمالاً وحتى العقبة جنوباً. في الوقت نفسه، كانت “ولاية حلب”، ثالثة الولايات العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، تضم ما يعرف اليوم بدير الزور، الرقة، عينتاب، مرعش وإسكندرون. أي أن “ولاية حلب” كانت آنذاك أكبر مساحةً وعدد سكّان من “ولاية سوريا”. تنطلق هذه المقالة من حقائق عدة: أولاً؛ كان اسم سوريا اسماً ملتبساً لجغرافيا واسعة من جهة، واسماً لولاية إدارية عثمانية تغطي تقريباً نصف سوريا التي نعرفها اليوم من جهة أخرى. ثانياً؛ بعد دخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل والاستقلال عن السلطنة العثمانية، كان الاسم الذي استُخدم مباشرة هو “المملكة العربية السورية”، ودون أي خلاف على ذلك بين الدمشقيين والحلبيين، على ما يبدو. ثالثاً؛ لم يحاول الدمشقيون الدفع نحو تبني اسم “الشام”، الذي كان أكثر تعبيراً عن الجغرافيا التي تعنيها سوريا، على الأقل تاريخياً. يتعجب المؤرخ عبد الكريم غرايبة، ويتعجب معه الباحث جمال باروت: “لأمر غريب أن يُعرَف شعب باسمه الأجنبي، وينسى التاريخ اسمه الوطني!”[1]. يمر كثير من الباحثين على اسم سوريا مروراً عابراً، مؤكدين جذره الأوروبي، دون تقصي سبب تلقي “السوريين” هذا الاسم من دون أي اعتراضات. لقد غاب اسم سوريا الذي أطلقه الرومان واليونانيون على شرق المتوسط[2] تماماً من الأدبيات العربية والإسلامية لأكثر من ألف عام، فيما برزت منذ العصر الأموي أسماء مثل: الشام، بر الشام، وبلاد الشام، إلى أن عادت مرة أخرى باسم ولاية عثمانية، وربما جاء ذلك نتيجة التفاهمات العثمانية مع الغرب. فلماذا إذاً اختار السوريون هذا الاسم؟ لماذا لم يعودوا إلى اسم الشام؟ لماذا لم يؤرخوا عملية التحول هذه؟ كيف وافق الحلبيون على اسم ولاية جارة ربما أقل شأناً من ولايتهم، ليكون اسم البلاد التي ينتمون إليها؟ اسم سوريا كان اسماً حيادياً بين الولايتين القويتين: لا نسمي البلاد باسم الشام، ابتعاداً عن ولاية الشام، التي عاصمتها دمشق، وليست هناك إمكانية لتسميتها بالطبع باسم حلب، فلا بأس إذاً من اسم له مكان في التاريخ، وتعبير جغرافي عن مساحة واسعة، ولا يرتبط بأي من المدينتين، ولتكتفي دمشق بلفظة “الشام” ضمن اسم العاصمة التي صار اسمها “دمشق الشام” لا أزعم هنا القدرة على الوصول إلى إجابة أو إجابات حتمية، لكنني سأضع افتراضات أربعة لهذا التحول: الفرضية الأولى: استرضاء الغرب. يتفق المؤرخون جميعاً على دور الغرب في فرض هذا الاسم على الولاية التي كانت تعرف باسم “ولاية الشام”. ومما لا شك فيه، أن النخب “السورية” تحالفت مع الغرب للتخلص من الهيمنة العثمانية، وبالتالي لربما آثرت النّخب هذا الاسم نوعاً من التودد للغرب، وإثباتاً للقطيعة مع الخلافة العثمانية. الفرضية الثانية: الإمعان في علمنة الدولة. فعلمنة الدولة كانت – باعتقادي – محوراً أساسياً في الانفصال عن السلطنة العثمانية، بما يعنيه هذا من الانفصال عن الخلافة الإسلامية. بالتالي، ربما كان الهدف من اختيار اسم سوريا تكريس القطيعة مع الخلافة الإسلامية. يُعزّز هذه الفرضية مشروع دستور 1920، الذي اكتفى بتحديد دين الملك، مبتعداً عن نص “دين الدولة هو الإسلام”، الذي طبع الدستور العثماني للعام 1876. الفرضية الثالثة: هيمنة الجنوب على الشمال. فالثورة العربية بقيادة الأمير فيصل، دخلت “سوريا” من دمشق متجهة نحو حلب، أي أنها دخلت ولاية كان اسمها سوريا متجهة نحو ولايتي حلب وبيروت، وبالتالي هيمن ذلك الاسم على الكيان السياسي الناشئ. الفرضية الرابعة، هي فرضية التوافق الدمشقي-الحلبي. أفترض هنا أن التنافس الدمشقي/الشامي-الحلبي، حال دون إطلاق اسم أي من الولايتين على الكيان السوري الناشئ. بمعنى أن اسم سوريا كان اسماً حيادياً بين الولايتين القويتين: لا نسمي البلاد باسم الشام، ابتعاداً عن ولاية الشام، التي عاصمتها دمشق، وليست هناك إمكانية لتسميتها بالطبع باسم حلب، فلا بأس إذاً من اسم له مكان في التاريخ، وتعبير جغرافي عن مساحة واسعة، ولا يرتبط بأي من المدينتين، ولتكتفِ دمشق بلفظة “الشام” ضمن اسم العاصمة التي صار اسمها “دمشق الشام” وفق المادة الأولى من مشروع الدستور. ربما كانت واحدة من هذه الفرضيات، أو بعضها، أو كلها سبباً وراء هذه التسمية. وربما أيضاً كان هناك سبب آخر، لكنني أرجح الفرضية الرابعة، خاصة أن التنافس الحلبي الدمشقي أرخى بظلاله على تاريخ سوريا الحديث، على الأقل حتى العام 1958. لكن هل من المهم أن نُجيب عن هذا السؤال؟ هل من المهم أن نعرف أصل اسم سوريا؟ ألا يكفي أن اسمها سوريا؟ باعتقادي أن الإجابة مهمة، خاصة أن التنافس بين حلب ودمشق، كان عاملاً مهماً في عدم بناء وتجذير هوية سورية مكتملة، بل وفي تسلط العسكر على البلاد. الهوية السورية ومراحلها الثلاث لقد مرّت الهوية الوطنية السورية، من وجهة نظري، بثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الأولى: مرحلة تكون الهوية السورية القوية ببُعدين عربي وإسلامي. امتدّت بين العامين 1920 و1950، أي بين مشروع دستور 1920، ودستور 1950، مروراً بدستور 1930. كانت تلك المرحلة، مرحلة نضال وطني ضد الاستعمار الفرنسي، واحتاجت خلالها النخب إلى هوية سورية جامعة، كي تعبئ الجماهير خلفها في عملية التحرير، مما خلق إطاراً وطنياً جامعاً موحداً لها عبر كامل الجغرافيا. المرحلة الثانية: مرحلة الهوية القلقة، بدأت مع فجر الجلاء، لتتكرّس في دستور 1950، وتنازعت فيها الهوية السورية، محمولة على “أجندات” النخب الدمشقية والحلبية، والهوية العربية التي كانت تعم الوطن العربي، والهوية الإسلامية التي حاولت حركة “الإخوان المسلمين” ترسيخها. المرحلة الثالثة: مرحلة الهوية العروبية، التي جاءت مع جمال عبد الناصر، وتكرّست مع حكم البعث من العام 1963 وحتى العام 2011 موعد الانفجار السوري. إقرأ على موقع 180 هل سيعود اللاجئون واللاجئات إلى بلدهم سوريا؟ مع نهاية المرحلة الأولى، وخلال سنوات الاستقلال الأولى، تزايد التنافس بين حلب ودمشق. انقسمت الكتلة الوطنية التي قادت النضال ضد الاستعمار الفرنسي إلى كتلتين أساسيتين هما حزب الشعب وغالبيته من حلب، والحزب الوطني وغالبيته من دمشق. في حقيقة الأمر، انشق حزب الشعب عن الكتلة الوطنية احتجاجاً على تعديل الدستور لإعادة انتخاب شكري القوتلي، واتهامه الكتلة الوطنية (وخاصةً الدمشقيين فيها) بالانقلاب على الأسس الديموقراطية، علماً أن الأمر في جوهره، كان خشية الحلبيين من ميل القوتلي نحو السعودية ومصر، في حين كان الحلبيون أقرب إلى العراق. ثم تكرّس هذا الانقسام بمقاطعة الحزب الوطني احتجاجاً على انقلاب حسني الزعيم الذي أطاح بشكري القوتلي لانتخابات المجلس التأسيسي الذي تزعمه رشدي كيخيا، رئيس حزب الشعب. وضع المجلس التأسيسي هذا دستور 1950، الذي، كما ذكرت سابقاً، كرّس ما أسميته بالهوية القلقة. سمح هذا التنازع، مع الفساد الذي أصاب هذه الكتل، وابتعادها عن الشارع، لأحزاب فوق وطنية، أكثر قرباً من الناس، كحزب البعث وحركة “الإخوان المسلمين”، بالدخول إلى البرلمان من جهة، والجيش من جهة أخرى. يكفي أن نرى أن مراجعة مداولات دستور 1950، تفضح البرود الذي قابلت به هذه النخب الانقلابات العسكرية، وخصوصاً انقلاب أديب الشيشكلي، واعتقال سامي الحناوي واتهامه بالتآمر، بعد ثلاثة أيام فقط من تقديم هذه النخب الشكر له بوصفه منقذاً للوطن! لم يكن ضعف الهوية السورية نتيجة سياسات البعثيين والناصريين فقط، بل جاءت الهوية العربية لتحل محل الهوية السورية التي أضعفتها سياسات البرجوازيتين. نعم وضع البعثيون والناصريون الهوية العربية بمواجهة الهوية السورية، وأمعنوا في إضعافها، لكن الخطأ هو خطأ من أفسح في المجال لذلك أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى هيمنة الشيشكلي على البلاد، ما أبرز حماة، التي ينتمي إليها الشيشكلي، كمتوسط حسابي بين دمشق وحلب، وانحسر دور البرجوازيّتين تدريجاً، قبل عبد الناصر، وقبل التأميم والإصلاح الزراعي. كان هذا التنازع في جوهره تبايناً بين مشروعين: الأول، حلبي يتجه نحو العراق، والثاني، دمشقي يتجه نحو مصر. أي أن كلا الطرفين المتنازعين كانا يُقرّان بضعف سوريا، ويبحثان عن “أخ أكبر” في العراق أو مصر، يحمي مصالحهما التجارية في الدرجة الأولى، سعياً إلى هوية تساعد في تحقيق هذه المصالح.. قبل أن يأتي الجيش ويزيح كلا البرجوازيتين، مُرحباً بعبد الناصر سيداً على البلاد. إذاً في حقيقة الأمر لم يأت البعث بعبد الناصر وحكم العسكر، ولم يقوّض الجيش الديموقراطية. مَنْ أفسح المجال أمام تدخل الجيش في السياسة، ومن تجاهل الانقلابات لأنه ظنّها لمصلحته ضد الآخر، عندما قرّر الحزبان التحالف ضد الشيشكلي، لأن الجميع وقتها فقد الثقة بهما وبالنخب التقليدية. ولم يكن ضعف الهوية السورية نتيجة سياسات البعثيين والناصريين فقط، بل جاءت الهوية العربية لتحل محل الهوية السورية التي أضعفتها سياسات البرجوازيتين. نعم وضع البعثيون والناصريون الهوية العربية بمواجهة الهوية السورية، وأمعنوا في إضعافها، لكن الخطأ هو خطأ من أفسح في المجال لذلك! ليس الغرض من هذه المقالة تقريع النخب الحلبية والدمشقية، وإلقاء اللوم عليها في ما آلت إليه البلاد، بل العكس تماماً. ما أردت قوله: إن إعادة إحياء الهوية الوطنية السورية يتطلب إدراك ما جرى لها أولاً، والدور المحوري لحلب ودمشق في بنائها ثانياً. ومن دون إدراك دور هاتين المدينتين بشكل أساسي، ودور باقي المدن الكبرى في سوريا، كدير الزور، حمص، حماة واللاذقية، سيكون جوهر الهوية السوريّة أشبه بهلام لا يمسكه أحد! [1] انظر جمال باروت، الإخفاق في بناء الدولة ونهاية الجمهورية البرلمانية السورية الأولى والأخيرة، في الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة، المركز العربي للدراسات وبحوث السياسات، الدوحة 2023. [2] انظر، لميا رستم شحادة، اسم سوريا في العصر القديم والحديث، في Beshara, A. (2011). The Origins of Syrian Nationhood. Histories, pioneers and identities, London.

Continue reading at الهوية السورية بين عاصمتين.. و”أخ أكبر” | 180Post
الهوية السورية بين عاصمتين.. و”أخ أكبر” زيدون الزعبي 13/02/2024 لم يظهر اسم سوريا بوصفها كياناً سياسياً/إدارياً حتى فترة التنظيمات العثمانيّة، وتحديداً عام 1865 حين بدّلت السلطنة العثمانية اسم "ولاية الشام"، إلى "ولاية سوريا". قبلها بقرون طويلة، كانت هناك ولاية باسم “ولاية سوريا” ضمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن تبدأ في التلاشي أواخر القرن الثاني الميلادي. ضمّت “ولاية سوريا” العثمانية الأجزاء الأكبر من حماة وحمص شمالاً وحتى العقبة جنوباً. في الوقت نفسه، كانت “ولاية حلب”، ثالثة الولايات العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، تضم ما يعرف اليوم بدير الزور، الرقة، عينتاب، مرعش وإسكندرون. أي أن “ولاية حلب” كانت آنذاك أكبر مساحةً وعدد سكّان من “ولاية سوريا”. تنطلق هذه المقالة من حقائق عدة: أولاً؛ كان اسم سوريا اسماً ملتبساً لجغرافيا واسعة من جهة، واسماً لولاية إدارية عثمانية تغطي تقريباً نصف سوريا التي نعرفها اليوم من جهة أخرى. ثانياً؛ بعد دخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل والاستقلال عن السلطنة العثمانية، كان الاسم الذي استُخدم مباشرة هو “المملكة العربية السورية”، ودون أي خلاف على ذلك بين الدمشقيين والحلبيين، على ما يبدو. ثالثاً؛ لم يحاول الدمشقيون الدفع نحو تبني اسم “الشام”، الذي كان أكثر تعبيراً عن الجغرافيا التي تعنيها سوريا، على الأقل تاريخياً. يتعجب المؤرخ عبد الكريم غرايبة، ويتعجب معه الباحث جمال باروت: “لأمر غريب أن يُعرَف شعب باسمه الأجنبي، وينسى التاريخ اسمه الوطني!”[1]. يمر كثير من الباحثين على اسم سوريا مروراً عابراً، مؤكدين جذره الأوروبي، دون تقصي سبب تلقي “السوريين” هذا الاسم من دون أي اعتراضات. لقد غاب اسم سوريا الذي أطلقه الرومان واليونانيون على شرق المتوسط[2] تماماً من الأدبيات العربية والإسلامية لأكثر من ألف عام، فيما برزت منذ العصر الأموي أسماء مثل: الشام، بر الشام، وبلاد الشام، إلى أن عادت مرة أخرى باسم ولاية عثمانية، وربما جاء ذلك نتيجة التفاهمات العثمانية مع الغرب. فلماذا إذاً اختار السوريون هذا الاسم؟ لماذا لم يعودوا إلى اسم الشام؟ لماذا لم يؤرخوا عملية التحول هذه؟ كيف وافق الحلبيون على اسم ولاية جارة ربما أقل شأناً من ولايتهم، ليكون اسم البلاد التي ينتمون إليها؟ اسم سوريا كان اسماً حيادياً بين الولايتين القويتين: لا نسمي البلاد باسم الشام، ابتعاداً عن ولاية الشام، التي عاصمتها دمشق، وليست هناك إمكانية لتسميتها بالطبع باسم حلب، فلا بأس إذاً من اسم له مكان في التاريخ، وتعبير جغرافي عن مساحة واسعة، ولا يرتبط بأي من المدينتين، ولتكتفي دمشق بلفظة “الشام” ضمن اسم العاصمة التي صار اسمها “دمشق الشام” لا أزعم هنا القدرة على الوصول إلى إجابة أو إجابات حتمية، لكنني سأضع افتراضات أربعة لهذا التحول: الفرضية الأولى: استرضاء الغرب. يتفق المؤرخون جميعاً على دور الغرب في فرض هذا الاسم على الولاية التي كانت تعرف باسم “ولاية الشام”. ومما لا شك فيه، أن النخب “السورية” تحالفت مع الغرب للتخلص من الهيمنة العثمانية، وبالتالي لربما آثرت النّخب هذا الاسم نوعاً من التودد للغرب، وإثباتاً للقطيعة مع الخلافة العثمانية. الفرضية الثانية: الإمعان في علمنة الدولة. فعلمنة الدولة كانت – باعتقادي – محوراً أساسياً في الانفصال عن السلطنة العثمانية، بما يعنيه هذا من الانفصال عن الخلافة الإسلامية. بالتالي، ربما كان الهدف من اختيار اسم سوريا تكريس القطيعة مع الخلافة الإسلامية. يُعزّز هذه الفرضية مشروع دستور 1920، الذي اكتفى بتحديد دين الملك، مبتعداً عن نص “دين الدولة هو الإسلام”، الذي طبع الدستور العثماني للعام 1876. الفرضية الثالثة: هيمنة الجنوب على الشمال. فالثورة العربية بقيادة الأمير فيصل، دخلت “سوريا” من دمشق متجهة نحو حلب، أي أنها دخلت ولاية كان اسمها سوريا متجهة نحو ولايتي حلب وبيروت، وبالتالي هيمن ذلك الاسم على الكيان السياسي الناشئ. الفرضية الرابعة، هي فرضية التوافق الدمشقي-الحلبي. أفترض هنا أن التنافس الدمشقي/الشامي-الحلبي، حال دون إطلاق اسم أي من الولايتين على الكيان السوري الناشئ. بمعنى أن اسم سوريا كان اسماً حيادياً بين الولايتين القويتين: لا نسمي البلاد باسم الشام، ابتعاداً عن ولاية الشام، التي عاصمتها دمشق، وليست هناك إمكانية لتسميتها بالطبع باسم حلب، فلا بأس إذاً من اسم له مكان في التاريخ، وتعبير جغرافي عن مساحة واسعة، ولا يرتبط بأي من المدينتين، ولتكتفِ دمشق بلفظة “الشام” ضمن اسم العاصمة التي صار اسمها “دمشق الشام” وفق المادة الأولى من مشروع الدستور. ربما كانت واحدة من هذه الفرضيات، أو بعضها، أو كلها سبباً وراء هذه التسمية. وربما أيضاً كان هناك سبب آخر، لكنني أرجح الفرضية الرابعة، خاصة أن التنافس الحلبي الدمشقي أرخى بظلاله على تاريخ سوريا الحديث، على الأقل حتى العام 1958. لكن هل من المهم أن نُجيب عن هذا السؤال؟ هل من المهم أن نعرف أصل اسم سوريا؟ ألا يكفي أن اسمها سوريا؟ باعتقادي أن الإجابة مهمة، خاصة أن التنافس بين حلب ودمشق، كان عاملاً مهماً في عدم بناء وتجذير هوية سورية مكتملة، بل وفي تسلط العسكر على البلاد. الهوية السورية ومراحلها الثلاث لقد مرّت الهوية الوطنية السورية، من وجهة نظري، بثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الأولى: مرحلة تكون الهوية السورية القوية ببُعدين عربي وإسلامي. امتدّت بين العامين 1920 و1950، أي بين مشروع دستور 1920، ودستور 1950، مروراً بدستور 1930. كانت تلك المرحلة، مرحلة نضال وطني ضد الاستعمار الفرنسي، واحتاجت خلالها النخب إلى هوية سورية جامعة، كي تعبئ الجماهير خلفها في عملية التحرير، مما خلق إطاراً وطنياً جامعاً موحداً لها عبر كامل الجغرافيا. المرحلة الثانية: مرحلة الهوية القلقة، بدأت مع فجر الجلاء، لتتكرّس في دستور 1950، وتنازعت فيها الهوية السورية، محمولة على “أجندات” النخب الدمشقية والحلبية، والهوية العربية التي كانت تعم الوطن العربي، والهوية الإسلامية التي حاولت حركة “الإخوان المسلمين” ترسيخها. المرحلة الثالثة: مرحلة الهوية العروبية، التي جاءت مع جمال عبد الناصر، وتكرّست مع حكم البعث من العام 1963 وحتى العام 2011 موعد الانفجار السوري. إقرأ على موقع 180 هل سيعود اللاجئون واللاجئات إلى بلدهم سوريا؟ مع نهاية المرحلة الأولى، وخلال سنوات الاستقلال الأولى، تزايد التنافس بين حلب ودمشق. انقسمت الكتلة الوطنية التي قادت النضال ضد الاستعمار الفرنسي إلى كتلتين أساسيتين هما حزب الشعب وغالبيته من حلب، والحزب الوطني وغالبيته من دمشق. في حقيقة الأمر، انشق حزب الشعب عن الكتلة الوطنية احتجاجاً على تعديل الدستور لإعادة انتخاب شكري القوتلي، واتهامه الكتلة الوطنية (وخاصةً الدمشقيين فيها) بالانقلاب على الأسس الديموقراطية، علماً أن الأمر في جوهره، كان خشية الحلبيين من ميل القوتلي نحو السعودية ومصر، في حين كان الحلبيون أقرب إلى العراق. ثم تكرّس هذا الانقسام بمقاطعة الحزب الوطني احتجاجاً على انقلاب حسني الزعيم الذي أطاح بشكري القوتلي لانتخابات المجلس التأسيسي الذي تزعمه رشدي كيخيا، رئيس حزب الشعب. وضع المجلس التأسيسي هذا دستور 1950، الذي، كما ذكرت سابقاً، كرّس ما أسميته بالهوية القلقة. سمح هذا التنازع، مع الفساد الذي أصاب هذه الكتل، وابتعادها عن الشارع، لأحزاب فوق وطنية، أكثر قرباً من الناس، كحزب البعث وحركة “الإخوان المسلمين”، بالدخول إلى البرلمان من جهة، والجيش من جهة أخرى. يكفي أن نرى أن مراجعة مداولات دستور 1950، تفضح البرود الذي قابلت به هذه النخب الانقلابات العسكرية، وخصوصاً انقلاب أديب الشيشكلي، واعتقال سامي الحناوي واتهامه بالتآمر، بعد ثلاثة أيام فقط من تقديم هذه النخب الشكر له بوصفه منقذاً للوطن! لم يكن ضعف الهوية السورية نتيجة سياسات البعثيين والناصريين فقط، بل جاءت الهوية العربية لتحل محل الهوية السورية التي أضعفتها سياسات البرجوازيتين. نعم وضع البعثيون والناصريون الهوية العربية بمواجهة الهوية السورية، وأمعنوا في إضعافها، لكن الخطأ هو خطأ من أفسح في المجال لذلك أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى هيمنة الشيشكلي على البلاد، ما أبرز حماة، التي ينتمي إليها الشيشكلي، كمتوسط حسابي بين دمشق وحلب، وانحسر دور البرجوازيّتين تدريجاً، قبل عبد الناصر، وقبل التأميم والإصلاح الزراعي. كان هذا التنازع في جوهره تبايناً بين مشروعين: الأول، حلبي يتجه نحو العراق، والثاني، دمشقي يتجه نحو مصر. أي أن كلا الطرفين المتنازعين كانا يُقرّان بضعف سوريا، ويبحثان عن “أخ أكبر” في العراق أو مصر، يحمي مصالحهما التجارية في الدرجة الأولى، سعياً إلى هوية تساعد في تحقيق هذه المصالح.. قبل أن يأتي الجيش ويزيح كلا البرجوازيتين، مُرحباً بعبد الناصر سيداً على البلاد. إذاً في حقيقة الأمر لم يأت البعث بعبد الناصر وحكم العسكر، ولم يقوّض الجيش الديموقراطية. مَنْ أفسح المجال أمام تدخل الجيش في السياسة، ومن تجاهل الانقلابات لأنه ظنّها لمصلحته ضد الآخر، عندما قرّر الحزبان التحالف ضد الشيشكلي، لأن الجميع وقتها فقد الثقة بهما وبالنخب التقليدية. ولم يكن ضعف الهوية السورية نتيجة سياسات البعثيين والناصريين فقط، بل جاءت الهوية العربية لتحل محل الهوية السورية التي أضعفتها سياسات البرجوازيتين. نعم وضع البعثيون والناصريون الهوية العربية بمواجهة الهوية السورية، وأمعنوا في إضعافها، لكن الخطأ هو خطأ من أفسح في المجال لذلك! ليس الغرض من هذه المقالة تقريع النخب الحلبية والدمشقية، وإلقاء اللوم عليها في ما آلت إليه البلاد، بل العكس تماماً. ما أردت قوله: إن إعادة إحياء الهوية الوطنية السورية يتطلب إدراك ما جرى لها أولاً، والدور المحوري لحلب ودمشق في بنائها ثانياً. ومن دون إدراك دور هاتين المدينتين بشكل أساسي، ودور باقي المدن الكبرى في سوريا، كدير الزور، حمص، حماة واللاذقية، سيكون جوهر الهوية السوريّة أشبه بهلام لا يمسكه أحد! [1] انظر جمال باروت، الإخفاق في بناء الدولة ونهاية الجمهورية البرلمانية السورية الأولى والأخيرة، في الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة، المركز العربي للدراسات وبحوث السياسات، الدوحة 2023. [2] انظر، لميا رستم شحادة، اسم سوريا في العصر القديم والحديث، في Beshara, A. (2011). The Origins of Syrian Nationhood. Histories, pioneers and identities, London.

Continue reading at الهوية السورية بين عاصمتين.. و”أخ أكبر” | 180Post

محمد علاء الدين
الاربعاء 14 فبراير 2024